مقدّمات
بكثيرٍ من النزق وجرأةِ الاستفزاز، يَلزم التعاطي الموضوعيّ مع "الإعلام" العربيّ راهنًا. الإعلامُ الموضوعيّ يوتوبْيا. أمّا الإعلامُ المنحاز، فأمرٌ سائدٌ ورائج. التدفُّق التمويليّ لوسائل هذا الإعلام المنحاز متّصلٌ بالسيولة النِّفطيّة والمصرفيّة. مِلْكيّةُ وسائل الإعلام تُفصح عن سياسات التوجيه والمتابعة والإصابة. العرب، في أنظمتهم، استولوْا على الكلمة، باستيلائهم على الحرّيّة الشخصيّة والحرّيّاتِ العامّة. الحقيقة مِلْكيّةٌ خاصّة، تُصنَع وفق رغبات الأنظمة. والأنظمة الظلاميّة تعيش حقائقَها كأنّها أسرارُ دولة، ولكنّها قادرةٌ على قيادة الحملات الإعلاميّة الشرسة والمخرِّبة ضدّ كلِّ مَن لا يُشبهُها أو لا يقلّدُها في سياساتها.
لذا، "الإعلام" العربيّ، ربّما برمّته، إعلامُ "الإخوة - الأعداء." وضحايا هذا الإعلام: قضايا، وخيراتٌ، وشعوبٌ، ومستقبل.
هذا كلامٌ عامّ. عودةً إلى المنعطف "الرَّبيعيّ،" وما خلَّفه من آمالٍ أخافت أنظمةً ودولًا؛ ومَن تجرّأ عليه تمّت شيطنتُه بالكامل، وبات شرًّا لا يُغتفَر. خاض الإعلامُ المرئيّ، وبعضُ المكتوب، معركةَ حماية الأنظمة من "شرور" الحريّة والعدالة والرَّغيف، ومعركةَ الانتقام من دولٍ على تماسّ مع فلسطين - - موقفًا ودعمًا.
من قبل، وحَّد تحريرُ الجنوب اللبنانيّ الشعوبَ العربيّة. أعادت المقاومةُ في لبنان الإيمانَ، مجدَّدًا، بالقضيّة الفلسطينيّة. انطبعت الجماهيرُ العربيَّةُ بالانتصار، وأعلنتْ ولاءها له. لأوّل مرّة، منذ زمن، بات هناك معنًى سياسيٌّ موحَّدٌ لمقولةٍ جغرافيّة: "من المحيط إلى الخليج." كأنّ الجماهير العربيّة انتسبتْ إلى الانتصار، وتبنّت المقاومةَ حاضرًا ومستقبلًا.
لم يكن ذلك حياديًّا. خافت الأنظمةُ من تداعيات الانتصار. هي بَنَتْ سياستَها على الهزيمة. القبولُ بالهزيمة يُعْفيها من موجبات العمل فلسطينيًّا. مالأتِ المقاومةَ إعلاميًّا، بحذر الانجرار خلفها كمشروعٍ يَفترضُ سياسةً تختلف عن سياسات دفن الرأسِ في الرَّمل.
عدوانُ تمّوز على لبنان، صيفَ العام 2006، كان مناسبةً لتبرير الانحراف العربيّ الخليجيّ. السعوديَّة ضدّ المقاومة. مَن معها كذلك. بدأ الإعلامُ يعزف على الفرز المذهبيّ. الانقسامُ اللبنانيّ بليغ. المذهبيّة أمّنتْ فائضًا من الرفض لدى فريق، وفائضًا من القوّة لدى الفريق المعنيّ بالانتصار.
الإعلام العربيّ، برمّته، إعلامُ "الإخوة - الأعداء. وضحايا هذا الإعلام قضايا، وخيراتٌ، وشعوبٌ
تمظهر الانزياحُ السياسيُّ طائفيًّا ومذهبيًّا. باتت تهمةُ المقاومة أنّها "طائفيّة ومذهبيّة." جرتِ التعميةُ على الانتصار على "إسرائيل." اتُّهمت المقاومةُ بـ"المغامرة." جرى تبخيسُ الانتصار، بل اعتبرتْه أطرافٌ داخليّةٌ وعربيّةٌ "كارثةً." الانشقاق بلغ من العمق حدودَ الهاوية. وتُرجم ذلك الخلافُ بعد اندلاع أوّل موجةٍ للربيع العربيّ في تونس. شعرت الأنظمةُ العربيّة، تقريبًا كلُّها، أنّها معنيّةٌ بارتدادات هذه الموجة الشعبيّة الجديدة. وكان ما كان.
تكرَّس الانقسامُ العربي بوضوح: محورٌ من مذهبٍ معيّن، ومحورٌ آخر ينتسب إلى مذهبٍ مختلف. تحوَّلتْ أمزجةُ الساحات العربيّة. لم تعد فلسطينُ عنوانًا. صار العملُ من أجلها تهمةً تستحقّ العقاب. لعب الإعلامُ لعبةَ تغذية الانقسام، وتحصينِ تخومه، بعددٍ لا يُحصى من الأكاذيب والانحيازات والتحريضات.
وقائع
لم يعتَد الإعلامُ العربيّ الشروطَ الأولى لرسالة الإعلام. طبيعيّ جدًّا أن تكونَ لكلّ وسيلةٍ إعلاميّةٍ هويّةٌ سياسيّة، ونظرةٌ اجتماعيّة، وانتماءٌ إلى ثقافة. هذا أمرٌ عاديٌّ ومعروف. لكنّ المقدّس، على الرغم من الانتماء والهويّة، إنّما هو المعلومةُ، الواقعة، الحدث. الإعلام لا يَملك ترفَ الكذب، لأنّه بذلك يصير إعلامًا سامًّا. هو حرٌّ في إبداء الرأي وفي التّحليل، ولكنّه ملزَم - إلزامًا مهنيًّا وأخلاقيًّا - بأن يقدِّم المعلومةَ بريئةً من الكذب والتزوير.
حدث ما يُشبه الفضيحة: تحوَّل الإعلامُ إلى متراسٍ تُطلَقُ منه رشقاتُ الأكاذيب، وجبهةٍ تصدّ عدوانَ "العدوّ." تمّت شيطنةُ الخصم؛ صار عدوًّا خالصًا لا حاجةَ في ذلك إلى تفسيرٍ أو تحليل. لعبت الانتماءاتُ المذهبيّةُ السياسيّة لعبةَ السكّين والسيف. الشاشات تبرمجتْ، وكأنّها جبهاتُ قتالٍ بالصوتِ والصورةِ والرأي.
الإعلام العربيّ غيرُ جديرٍ بالاحترام. هكذا كان. بل هو "طول عمره" إعلامُ سلطةٍ سياسيّة. لكنّه صار، بعد "الربيع العربيّ،" صورةً ناطقةً ومعركةً مستمرّةً ضدّ الخصم المذهبيّ، بالتباساتٍ سياسيّة. لم يعد الإعلامُ يَلبس القفّازات. لم يعد يخجل. اختار أن يكذب، أن يشوِّه، أن يفبرِكَ، أن يُخفي، أن ينتهز، أن يتعصّبَ، أن يُطْلق الأحكام. رشقاتُه تقتل أكثرَ من الرصاص.
أما الرأيُ العامّ فمات. قتلوه كذبًا وعمدًا. بات الرأيُ العامّ في مذهبٍ هنا، عملاقًا خلف أسوارٍ عقديّة، في مواجهة عملاقٍ آخرَ هناك، متمرّسٍ بالقتال، دفاعًا عن مقاومةٍ مطلوبٌ رأسُها ورأسُ حماتِها وداعميها.
ولم تكن صدْفةً أبدًا أن يكون إعلامُ الردّة المذهبيّة منسجمًا مع الإعلام الإسرائيليّ. فتراجع العداءُ للعدوّ المشترك لدى شرائحَ شعبيّةٍ في بلدان الأغلبيّة التابعة لمذهبٍ معيّن. صارت "إسرائيل" شريكًا إعلاميًّا وسياسيًّا. صار وجودُ هذا الكيان واجبًا، تحت مسمَّى "الواقعيّة،" في مقابل اتّهام المقاومة بـ"التجارة باسم فلسطين." وكان من آثار هذا الافتراق المذهبيّ أن حلّ العداءُ لإيران، وحلفاءِ إيران، محلَّ العداء لـ"إسرائيل."
الإعلام العربيّ لم يعد عربيًّا. هو في الأساس ليس عربيًّا ولا عروبيًّا. هو كيانيّ، ومذهبيّ، ومرتبط غربيًّا بالولايات المتّحدة الأميركيّة، ارتباطًا تبعيًّا، لا ارتباطًا تبادُليًّا. ولقد أذّنتْ هذه الحملاتُ بدخول الأمّة في مرحلةٍ عُصابيّةٍ مَرَضيّة. بات الإعلامُ يخاطب جمهورَه وفق ما يريدُه هذا الجمهورُ، ويعادي مَن يعاديه مِن جمهورٍ مضادّ. وصارت الجماهيرُ العربيّة على دين إعلاميّيها المذهبيِّين. الأقنومُ الوطنيّ زال. الانعزالُ ساد. العدائيّة بلغت الذروةَ، ومن تجلِّياتها: حجمُ العنف المتبادل في جبهات القتال؛ وسقوطُ المحرَّمات؛ وتعزيزُ النزوع الإرهابيّ وتقبُّلُه كسياسة "ضروريّة" في حقبة التوحُّش المذهبيّ.
الرأيُ العامّ مات. قتلوه كذبًا وعمدًا
وهكذا، لم تعد مصرُ تشبه مصرَ أبدًا. صار هاجسَها الإخوانُ المسلمون، والقبضةُ حديديّة على الأعناق والكلمات.
السعوديّة، نفسُها، لم تعد كما كانت: تجرّأتْ على المستحيل الكلاميّ. كانت، كما يقال، "حكيمةً" في تستُّرها، فافتُضِحتْ. الخاشقجي وضَعَها، علنًا، في مرتبة التوحُّش. امتنعتْ وسائلُ الإعلام "الصديقةُ مذهبيًّا" عن قول كلمةٍ واحدة، أو عن بثّ صورةٍ يتيمةٍ عن المغدور. هذا ممنوع كلِّيًّا! الحدث غير موجود: هكذا تَعرَّفَ الإعلامُ السعوديُّ وشركاؤه.
الانقسام اللبنانيّ فضيحةٌ تَسْترها "مصالحاتٌ" موقَّتة. الخناجرُ ظاهرة، واليدُ على الزناد. الإعلام على صورة الانقسام. الاستثناء قليلٌ وموقَّت. الخراب السوريّ التامّ، جزءٌ كبيرٌ منه بسبب الحرب، وجزءٌ كبيرٌ كذلك بسبب الإعلام. الإعلام المنحاز يَقتل في سوريا والعراق وليبيا واليمن. مقارنةُ الإعلام المتناقض دلالةٌ على عنف الجبهات. الإعلام شريكٌ أوّل لأنظمةِ الفتنة وجبهات ِالقتال.
خسائر
حجمُ التداعيات المأساويّة للإعلام "العربيّ" لا يُقاس. حجمُه أكبرُ ممّا توقّعه المخطِّطون أنفسُهم. من نتائج "الجبهات الإعلاميّة" المشتعلة مذهبيًّا وتحريضًا: سقوطُ العروبة في الخطوط الخلفيّة؛ ولادةُ معسكرٍ عربيٍّ مضادٍّ لفلسطين؛ شيطنةُ المقاومة ومَن معها؛ تضاؤلُ الفكر وازدهارُ الدعاية؛ اتّساعُ مساحة التمذهب في المدى الجغرافيّ العربيّ؛ النظرُ إلى الجرائم الحربيّة على أنّها "دفاعٌ عن النفس" أو عن النظام؛ تراجُعُ الفكر النقديّ (أو جبنُه)، وانسحابُه من المواجهة خوفًا من طعنة في الجبهة؛ تبريرُ المجاعات والمجازر على جبهتَي القتال بكلّ الأسلحة وأشدّها فتكًا؛ تخديرُ الجماهير بأفيون الانحياز الأعمى.
إنَّ ما ارتكبه الإعلامُ العربيّ نكبةٌ كبرى. ما الذي يعيد اللّحمةَ بين أبناء الوطنِ الواحد، الدولةِ الواحدة، أو بين الدول الشقيقة؟ طبعًا ليس "الإعلام" الذي حاز، عربيًّا، سبْقَ الافتتان بالقتل!
حجمُ التداعيات المأساويّة للإعلام "العربيّ" لا يُقاس. حجمُه أكبرُ ممّا توقّعه المخطِّطون أنفسُهم
ما يُعوَّل عليه
لكنْ، على هامش هذا الاصطفافات، وهذا التحشيدِ الأعمى، تقف مجموعاتٌ نقيّةٌ، صافيةٌ، واضحةٌ، تتبنّى خياراتٍ لا مساومةَ عليها أبدًا. ففلسطين، لدى هذه الجماعات، لا تزال فلسطينيّةً، وستظلّ كذلك، ما دام النبضُ الحيُّ حيًّا يُرزق. هذه طليعةٌ ناصعةٌ جدًّا، خميرةٌ للمستقبل العربيّ. هذه الجماعات التي تعيد إحياءَ القضيّة في الوعي، وفي ميادين المعرفة وأنحاءِ السياسة، هي جماعاتٌ يُعوَّل عليها. لن تُكتبَ لتاريخ فلسطين نهايةٌ على يد ملوكٍ وأمراءَ وطُغاة، ولا على أيادي أذيالِ التبجّح الأميركيّ. والحريّة باقيةٌ، كمشعلٍ يضيء الدربَ إلى تحقُّقها. لا قيامَ لإنسانيّةِ العربيّ إلّا بالحريّة، وبما يمتّ إليها بصلة: كالتحرير ــ والتحرير ليس من الاحتلال فقط، بل من الظلم والديكتاتوريّةِ والفسادِ والقمع والتهميشِ والعار أيضًا. والديمقراطيّة ستظلّ لغةَ القبضات المرفوعة في مواجهة الاستبداد. أمّا حقوقُ الإنسان، دينُ الإنسانيّة الراقية، فستبقى نموذجَ حياةٍ وممارسة لدى نُخبٍ ترى إلى المستقبل مشروعًا قابلَ الإنجاز.
لقد قضى "الإعلامُ العربيّ،" في معظمه، على الكثير من القيم والمبادئ والسياسات، وأصاب الأمّةَ بنزفٍ وتخثّر. لكنّه لن يقضي على مَن لا يزال مؤمنًا بالأمّةِ وناسِها وقيمِها ومستقبلِها. هؤلاء بخورٌ يخترق، فيملأ الجوَّ نظافةً ونصاعةً، ويبشِّر باستمرار الولادات، وبنموِّ أجيالٍ تعيد الحقائقَ إلى نصابها.
شكرًا لمن يتصدّى، بالقبضةِ التي تشبه الكلمة، لمحاربة التطبيع مع العدوّ الإسرائيليّ. مثلُ هذا التصدّي يَقْطع الطريقَ على تمرير الحلّ التصفويّ للقضيّة الفلسطينيّة. و"إلى اللقاء" هو شعارنا الدائم. فلن نكون، غدًا، وحدنا.
بيروت