وتريدون أن لا يُجنّ جنونُ اللبنانيّين؟
21-11-2019

 

في منعطف التحوُّلات، تبحث عن الآخرين، فتكتشف نفسَكَ التي لا تعرفُها. في التحوُّلات الكبرى، أنتَ تتحوَّل. لا تبقى كما كنت. تصير أنتَ والآخرين. تصير نحن. و"نحن" مفردةٌ بصيغة الجموع. ولا تعود لغتُك بحاجةٍ إلى مفرداتٍ كثيرة، لأنّ قاموسَكَ يتّسع لحشودٍ من الناس تقول قولًا واحدًا تقريبًا: قولًا ينتمي إلى فعل الحريّة، إلى فضاءٍ يتجاور فيه الإنسانُ مع نفسه التي تشبه رفيقَه، في رحلةِ الصراخِ الصاعدِ إلى العدالة؛ ذلك لأنّ خبزَ ما دون الكفاف ينتمي إلى الفاقة والحرمان والظلم.

***

في منعطف التحوُّلات، اتّضح أنّ لبنان قد وُجِدَ مختلفًا جدًّا. ليس ضروريًّا أن "تفتّشَ" عنه؛ فهو هنا، والآن، يملأ الساحاتِ والحناجرَ والقلوبَ والقبضات. لقد وُلِد، وسيظلّ يُولد، إلى أن تكتملَ صفاتُه ولغتُه وقبضتُه. ها هو لبنانُ الآخر، لبنانُ الذي أُسِر منذ مئة عامٍ بالكمال والتمام. مَن لم يرَ ذلك، بعدُ، يراهنُ على أنّ السياقَ اللبنانيّ يسير وفق نصٍّ مكتوبٍ، ومختومٍ، ولا تنقطع أنفاسُه. لبنان الماضي لن يتعافى. قد لا يموت، ولكنّه مميتٌ، بكلّ معاني الموت ودلالاتِه.

يُقال "إنّ لبنان الجديد لم يصل بعدُ." هذا صحيح. لكنّ صافرةَ قطاره انطلقتْ في الساحات والشوارع والمدنِ والقرى. هذا الحلم بدأ يتكلّم. نصوصُه كثيرة، وفوضويّة، وجميلة. كلُّها تريد أن تُحِلَّ محلَّ "المزرعة اللبنانيّة القذرة" وطنًا يستحقّ أن تصافحَه كلّ يوم، وتتلو عليه "صباحَ الخير،" وتنشغل به، وينشغل بك، فتكونَ له، ويكونَ لأجلك.

أليس ذلك سابقًا لأوانه؟ كلّا بالتأكيد. فالولادة مصحوبةٌ دائمًا بمخاض.

أمّا لبنانُهم الواضح، والمفضوح، والمنفصم، فهو ميِّت جدًّا، ولا حياةَ لمن تنادي. تَحْرس جثّتَه سلطةٌ تريد سعرًا باهظًا لدفنه. تريد دمَنا اللبنانيَّ لتُجبَرَ على تلمُّس مراسمِ الرحيل. إنّهم يريدون موتَنا، بطرقٍ مختلفة، كي لا تموتَ الجثّة!

***

في منعطف التحوّلات، يغيِّر الزمنُ إيقاعَه. مطلوبٌ أن يقفلَ الباب على الماضي الرثّ والموبوءِ والحثالة. ومطلوبٌ أن يفتحَ الباب على مستقبلٍ يصوِّب ناسُه عيونَهم وعقولَهم وقبضاتِهم إلى أفق: إلى ضوء، إلى مدًى، إلى فرصة، إلى إنجاز، إلى مساواة، إلى حقوق، إلى فنّ، إلى إبداع، إلى جمال، إلى قيم، إلى إنسانيّةٍ يتعاطف حولها الناس.

يستطيع لبنانُ الثاني أن يكون كذلك، لأنَّه من الطبيعيّ أن يكون النقيضَ التامَّ للبنان التخلّف، والتمزّق، والتكاذب، والتطاعن، و"التعايش،" والنهب، والتبعيّة، و"الأمر بالمنْكر والنهي عن المعروف." لبنان، البشعُ هذا، كلّفنا قرنًا من القرف والانحطاط وتحويلِ الناس الطّيبين فيه إلى زبائن، تُمتهَن كراماتُهم وتُهضَم حقوقُهم، لقاء فئاتٍ من العيش بكرامةٍ راكعةٍ على جبهتها.

اليوم، يَشهد لبنانُ مفاجأةَ انفجارِ ناسِه. في لحظاتٍ، خرجوا من مطارحَ مختلفة. جمعتْهم الكأسُ التي فاضت. الخدماتُ منعدمة، في حين أرباحُها منهوبةٌ بفجورٍ لا تجدُه في مواخير التهريب والعربدةِ والمافيات. قرنٌ من الزمن والبلدُ يَغْرق، بينما تطفو الطغمةُ السلطويّة المتوارَثة على جُزُرٍ من المنافع المَصُونة والمجهَّزةِ بكلابِ حراسة، مدرّبةٍ على ملاحقة الناس الطيّبين، الخاسرين، المنبوذين، المذلولين، لإقصائهم عن فُتات ولائم الحاكمين. ولقد حصّنتْ هذه القلّةُ الطاغيةُ نفسَها باحتلال مواقع المقامات الدينيّة والمذهبيّة، وألحقتْها بثكناتِها السياسيّة، وأقامت لها جناحًا خاصًّا لتدريب الناس على الطاعة، بعصا "الإيمان" ونصِّ الآية وفُتاتِ المساعدات.

في منعطف التحوُّلات، تشْهر السلطةُ - ومن معها من أتباعٍ مدرَّبين، وإعلامٍ منافق، وكلماتٍ فاسقة - سلاحَ التخوين. يا لَلظلمِ المكشوف! يشْهرون تهمةَ العمالة للخارج. بئس الوقاحة والصلف! الطبقة السياسيّة الحاكمة من زمان، والمتحكّمة في كلّ العهود، وخصوصًا في الزمن الراهن، تعيش على تدفُّقاتٍ ماليّةٍ من كلّ حدبٍ وصوب. لبنان ملتقى أموال دول الخليج، كلِّ الخليج، ودولِ الغرب، كلِّ الغرب. كلّ الأعداء في الخارج والداخل يلتقون حول طاولة الحكم. الأموال المتدفِّقة معلنة، وليست سرِّيَّة. ومع ذلك، لا يصحّ فيهم إلّا قولُ الشاعر مظفّر النواب: "أولادَ (...) لا أستثني أحدًا!"

***

الذين خرجوا من بيوتهم في كلّ لبنان ليسوا قدِّيسين أبدًا! بينهم مَن اختارَ أن يكون زبونًا عند قوًى خارجيّة. بينهم مَن يُعادي قضايا كبرى، ولا يقيم وزنًا للأعداء الحقيقيّين للبنان وللأمّة. بينهم مَن يتبرّأ من فلسطين، ومن كلِّ انتماءٍ غيرِ لبنانيّ. بينهم انتهازيّون ووصوليّون.

لكنْ، ما عدا هذه القلّةَ القليلة، هناك مئاتُ الألوف التي دفعها وجعُها إلى الصراخ. حرّضتْها كرامتُها على مواجهة الإذلال. ألحّت عليها كرامتُها كي تقفَ عاليةَ الجبهة. نادتها الحاجةُ إلى الكهرباء، والبيئةِ النظيفة، وأقساطِ المدارس والجامعات. أوجعتها البطالةُ المتفشّية التي أفرغت البلد. هؤلاء، للأسف الشديد، وصَمَتْهم طغمةُ السلطة بالتبعيّة، واتّهمتْهم بتنفيذ مؤامرةٍ لا يستفيد منها إلّا الأعداء. والهدف من تأثيم هذا التحوُّل: دفاعُ السلطة عن مكتسباتها.

***

أمّا بعد؛

فللبنانَ سجلٌّ مثقَلٌ بالتخوين الداخليّ. هو كذلك بحكمِ تأسيسِه على قاعدةِ صكوكِ ملْكيّةٍ للطوائف. لبنان أوجدتْه الطائفيّة. لولاها، لَما كان، ربّما. لا نجزم، بل نرجِّح. وتَبيّن أنّ أصحابَ صكوك الملْكيّة الطائفيَّة استثمروا ذلك في تنقيح نظامٍ سياسيّ، حجرُ الأساس فيه: إعطاءُ كلّ طائفةٍ سياسيّةٍ حصّتَها.

لكنّ الحصصَ لم تكن متساويةً. المشهد المتكرّر سياسيًّا، منذ ما قبل الاستقلال، هو في تشبيه الممثّلين الطائفيّين بلاعبي القمار، مع قدرةٍ أكبر على الغشّ وفرض الخوّة: الحصة المارونيّة كانت محظيّةً. حصّةُ السنّة مظلومة. حصّة الشيعة معدومة. حصّة الدروز متوعّكة لِما أصاب هذه الطائفةَ في الفتنة وفي زمن المتصرفيّة.

ولم يكن خافيًا أنّ لكلّ فريقٍ طائفيّ ظهيرًا خارجيًّا:

- الموارنة من حصّة الرعاية الفرنسيّة ــ الغربيّة.

- السنّة من حصّة الرعاية السعوديّة، ثمّ انتقلوا من سوريا إلى مصر، وحطّوا رحالَهم أخيرًا في السعوديّة.

- الشيعة تأخّروا لنيل حصّتهم. عوقبوا لأنَّهم حملوا السلاحَ ضدّ الانتداب الفرنسيّ وهُزموا وسُفكتْ دماؤهم وهُتكتْ قُراهم. الستينيّات أظهرتْهم قوّةً لا يُستهان بها. بعد الاحتلال الإسرائيليّ للبنان، تزعّمتْ هذه الطائفةُ مقاتلةَ هذا الاحتلال وتحريرَ لبنان تحريرًا ناصعًا، غيرَ مسبوقٍ ولا ملحوقٍ في مسيرة الكفاحات العربيّة والفلسطينيّة ضدّ "إسرائيل." لكنْ، لأسبابٍ كثيرة، تعود في أغلبها إلى الموروث السياسيّ الطائفيّ، عُزلت المقاومةُ بحجّة "السيادة المنقوصة." يا لَلتهمة الفادحة!

غير أنّ لبنان بلا سيادة بسبب قياداته، التي تداولت السلطةَ فيه منذ زمنٍ طويل. لبنان لم يكن سيِّدًا ولا مستقلًّا إلّا لفظًا. في الواقع، الداخل اللبنانيّ الطائفيّ يستدعي التدخُّلَ "الأخويّ،" ويستقوي فيه على شريكه اللبنانيّ مِن غير طائفته.

المقاومة كانت دائمًا في حاجةٍ إلى مَن يحمي ظهرَها. وطبيعيّ أن تكون هذه المقاومةُ لبنانيّةَ الإقامة، شيعيّةَ البنْية، إيرانيّةَ الهوى والصلة والعقيدةِ والدّعم. وإيران طرفٌ خليجيّ تخشاه ولا ترغب فيه دولٌ خليجيّة، والسعوديّةُ في الطليعة. وطبيعيٌّ أن يوالي السنّةُ السعوديّةَ، وأن تكون هذه المملكةُ حاضنتَهم.

وكان ما كان من كرٍّ وفرّ. وكان ما كان من نزاعاتٍ واغتيابات. مُدّعو السيادة، بعد التحرير بأيّام، طالبوا بنزع سلاح المقاومة، واعتبروا أنّ اللّحظةَ مؤاتية للتحرّر من سلاح حزب اللّه. انشقّ البلد، على مرأًى ومسمعٍ ومطمعٍ من الولايات المتحدة الأميركيّة، حليفةِ "إسرائيل" المثاليّة، وحليفةِ دولِ الخليج الثريّة والسخيّة، والملبِّية حتمًا لإغراءات شراء الأسلحة الأميركيّة.

***

بعد عدوان 2006، وتحقيق انتصارٍ على "إسرائيل،" انشقّ الصفُّ اللبنانيُّ عموديًّا، ولم يَعُد قادرًا على الالتئام. تعطّل البلد وكاد أن يدخلَ في حربٍ أهليّة. تداعوْا إلى تسويةٍ هشّةٍ في الدوحة (قطر). كلُّ ذلك كان يعمّق الفجوةَ بين المقاومة ومَن معها من جهة، وبين خصوصها وأعدائها من جهةٍ أخرى، مع ازدياد منسوبِ الأحقاد والكراهية في كلّ لبنان ومناطقه، بين السنّة والشيعة.

آنذاك، كانت القياداتُ المسيحيّة "على الرفّ،" وكان صوتُها غيرَ مرجِّح، ومواقفُها غيرَ ضاغطة. غير أنّها برهنتْ أنَّها لا تستجيب لأمْرةٍ طائفيَّةٍ مارونيّةٍ واحدة. الانقسام المسيحيّ كان سببًا في احتضان الفريق الأقوى للمقاومة. "ورقة التفاهم" [بين التيّار الوطني الحرّ وحزب الله] صمدتْ، وجرى تصليبُها في ما بعد.

***

لا تغيب هذه العجالةُ عن منعطف التحوُّلات الراهنة: الاهتراء بلغ القاعَ، وطفا على السطح. السلطة، كلّ السلطة، فضيحة. كلّ يوم فصلٌ من فضيحة. لبنان يهوي من هاويةٍ إلى هاوية. السلطة منشغلة بالصفقات، متلهِّية بالمناصفة. الإدارات أوكار. المؤسّسات أسواقُ منافسةٍ بين السماسرة والنهّابين. الموازنة حبرٌ على ورق، إلّا ما يتّصل بأموالِ الفقراء والطبقة الوسطى. لا صوت يعلو على صوت: "هاتوها!"

سلطة متسلِّطة. سلطة إذا امتُحِنتْ سياسيًّا وأخلاقيًّا وإنمائيًّا واجتماعيًّا وإداريًّا وصحّيًّا وبيئيًّا وإنسانيًّا، صُنِّفتْ في ذيل قائمة الدول الفاسدة. ديونٌ مستعصية على السداد. معظمُها، بسبب هندسات ومشاريع وتلزيماتٍ وفوائد، عاد إلى نصّابي الجمهورية. سلطة لا تريد أن يحاسبَها أحد. كلُّ فاسد يحتمي بطائفته. لا أحد يتجرّأ على أن يدلَّنا إلى نقطة ضوءٍ واحدة، إلى حسنةٍ يتيمة، إلى كفٍّ نظيفة، إلى رائحةٍ لا تنتمي إلى فضيحة.

"بلد الستّ فضيحة" هو هذا البلد!

***

وتريدون أن لا يُجنّ جنونُ اللبنانيِّين؟ لقد خبِرْتُموهم من قبل. كانوا مطيعين للطائفة. أو كانوا متذمّرين عاجزين. لكنْ خلص! لقد جُنَّ جنونُ هؤلاء الناس. لم تُجنِّنْهم أميركا ولا السعوديّة ولا إيران ولا المخابرات. هؤلاء الناس بشرٌ حقيقيّون! قرَّروا أن يغضبوا. قالوا أقوالًا شتّى. أصابوا كثيرًا وأخطأوا قليلًا. كانوا كثرة  مفاجئة. صُدمت السلطةُ، وحاولت التسوية. تراجعتْ قليلًا. ثم استقالت الحكومة. وكان ذلك أوّلَ إنجاز.

***

هنا، لا بدّ من فتح قوسيْن. للمقاومة سجلٌّ ناصعٌ في التحرير. سجلٌّ غيرُ مسبوق في الصراع العربيّ - الإسرائيليّ. هي قدوةٌ يصعب تقليدُها. نجاحٌ تلو نجاح. قرَّبتْنا من فلسطين المحرَّرة غدًا أو بعده. مقاومة صلبة، عقائديّة، متفوِّقة، نموذجيّة. ولقد كنّا معها وفيها ومنها، ولم نكن يومًا عليها، لأنَّ ما قدّمتْه كان معجزةً عجزتْ عنها أنظمةٌ وأحزابٌ ودولٌ. إنّما، ولأسبابٍ تخصّ حمايةَ ظهر المقاومة، اختارت أن تكون في السلطة، شريكًا لأكثر أعدائها شراسةً (الحريري، وجنبلاط، وجعجع،...)، وحليفًا لشطرٍ مارونيّ، إضافة إلى متراسٍ شيعيّ. تمّ ذلك منذ زمان طويل. ومنذ ذلك الزمان، ولبنانُ يتراجع، وتنهبه سلطةٌ باغية.

هل كنّا نتوقّع أن تكون المقاومة حاميةً لهذه السلطة؟ أمْ كنّا نتوقّع أن تكون حاميةً لشعبٍ، أو لنصفِ شعب، أو لربع شعب، خرج بنقاء الضوء، ليقول لهذه السلطة: "برا... برا... يللا فلّلو" لأنّ كيْلَ الفساد والإذلال قد طفح وبلغ السيلُ الزُّبى؟

كلام كثير يجب أن يُقال، لكنَّنا نكتفي بالتساؤل والشكوى. ونكتفي أيضًا بالتأكيد أنَّنا من المؤمنين بأنّ تحريرَ لبنان من الاحتلال الطائفيّ يوازي تحريرَ جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيليّ!

فإلى اللقاء، على الرغم من الاختلاف، في مستقبلٍ يتحرّر فيه لبنان، وتتحرّر فيه فلسطين.

ما أروعَ هذين الإيمانيْن!

بيروت

نصري الصايغ

كاتب وصحافيّ عربيّ من لبنان. من مؤلَّفاته: بولينغ في بغداد؛ لو كنتُ يهوديًّا؛ حوار الحُفاة والعقارب: دفاعًا عن المقاومة؛ لستُ لبنانيًّا بعد؛ القاتلُ إنْ حكى: سيرةُ الاغتيالات الجماعيّة؛ مقامُ الجنس وتصوّفُ الحواسّ؛ مَصارعُ الاستبداد؛ محمّد: السيرة الذاتيّة.