إلى الصديق خالد إبراهيم الراهب
يحلو لكثيرٍ من الناشطين العرب، واليساريّين بشكل خاصّ، أن يَقتبسوا من المفكّر الشيوعيّ الإيطاليّ أنطونيو غرامشي عبارةً شهيرةً كان قد اقتبسها بدوره من رومان رولان: "تشاؤمُ العقلِ... تفاؤلُ الإرادةِ." وكان غرامشي قد استخدم تلك العبارةَ أثناء سجنه الفاشيّ المديد (11 عامًا)، من دون أن يكونَ لديه كبيرُ أملٍ في إطلاق سراحه.
لكنْ، هل مِن مبرِّرٍ لتشاؤم عقولِ العرب؟ وهل مِن مبرّرٍ لتفاؤلِ إرادتهم؟ فلنبدأْ أوّلًا بتشاؤم العقل.
هل لتشاؤم العقل مسوِّغاتٌ عربيّة؟ بالتأكيد. فلا شكّ في أنّنا نعيشُ (أو بالأحرى نموتُ) في سجنٍ أسوأَ من سجنِ غرامشي، لكونِه محاطًا بمحتلّين أجانبَ وناهبين نيوليبراليّين وإرهابيّين أصوليّين "أمميّين" ومستبدّين وفاسدين وطائفيّين داخليّين. ولا شكّ في أنّ إمكانيّةَ الفرار من هذا السجن تزدادُ صعوبةً. صحيحٌ أنّ "الربيع العربيّ" كَسَرَ حاجزَ الخوف من السلطات البوليسيّة، لكنّ تلك كانت البدايةَ فحسبُ في معظم الحالات؛ إذ ما لبثتْ أن حلّتْ مكانَ هذه السلطات أصوليّاتٌ مخيفةٌ، وشُرّعتِ الأبوابُ أمام الاحتلالِ الأجنبيّ وعمليّاتِ النهبِ والتقسيمِ والحروبِ الداخليّةِ المروِّعة؛ بل يمكن القولُ إنّ "الربيع" المذكور لم يتخلّصْ أحيانًا من تلك السلطات أصلًا لأنّها سرعان ما عادت تحت مسمَّياتٍ مختلفة أو ضمن تحالفاتٍ جديدة.
وفي ما يخصُّ "قضيّةَ العرب المركزيّة،" فإنّ فلسطين لم تعد مركزيّةً ولو على مستوى الخطابِ الرسميّ العربيّ (المنافقِ بدءًا وأبدًا). بل لم تعد فلسطينُ مركزيّةً على مستوى خطابِ كثيرٍ من فصائل "المعارضة" العربيّةِ المشغوفة ـــ على حين غرّةٍ في بعض الحالات ـــ بالديمقراطيّة ولو على حساب السيادة الوطنيّة، وبالعروبةِ ولو على حساب ملايينِ العرب، وبنبذِ العداء للاحتلال الأجنبيّ ولإسرائيل بذريعة "الأولويّات" المحلّيّة العاجلة.
وأمّا الإنتاجُ الثقافيّ والاستهلاكُ الثقافيّ والإنتاجُ العلميّ العربيّ، وغيرُ ذلك ممّا يعتبرُه البعضُ حجرَ الزاوية في رقيّ أيِّ أمّةٍ من الأمم، فلا جدالَ في أنّها في تراجعٍ مريع، سبق أن فصّلنا ظواهرَه وأسبابَه المحتملةَ في غير مقالٍ أو مقابلة.
لسنا في هذه السطور القليلة في معرض بسْط مسوِّغات التشاؤم العربيّ؛ فهي أكثرُ من أن تُحصى، وما عرضناه ليس إلّا بضعَ مؤشّراتٍ دالّةٍ على بؤس الواقع العربيّ بشكلٍ عامّ، علمًا أنّنا لم نتطرّقْ إلى بواعثِ تشاؤمٍ قد تكون أكثرَ دلالةً: كارتفاع البِطالة، وانخفاضِ معدّلات النموّ الاقتصاديّ، وازديادِ معدَّلاتِ الفقر، وتواصلِ "نزيف الأدمغة،" وانتشارِ الشعوذة والمشعوِذين، وتفاقمِ حالات الكره المذهبيّ والإثنيّ. ولسنا، في المقابل، في صدد تعدادِ بعضِ المؤشّرات الإيجابيّة المضادّة، وعلى رأسها: تجدّدُ حركة الاحتجاج الشعبيّ الأصيل في غير قطرٍ عربيٍّ (تونس، مصر، ...)، وفشلُ التطبيع الشعبيّ مع العدوّ في كلّ الأقطار العربيّة بلا استثناء (بما في ذلك داخل "أمِّ الدولِ المطبِّعة،" قطَر)، وبروزُ حالاتٍ إبداعيّةٍ شابّةٍ على مستوى الإنتاج القصصيّ والروائيّ بشكلٍ خاصّ (نتلمّسُها بوضوحٍ كناشرين ومحرِّرين)، وتصاعدُ حركة المقاطعة العالميّة للسياسة الإسرائيليّة وللمؤسّسات الداعمة للكيان الصهيونيّ. ما تهمّنا الإشارةُ إليه هنا هو أنّ تشاؤمَنا المطلق هو أحدُ الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحنُ عليه من بؤسٍ على صعدٍ كثيرة. بمعنًى آخر: تشاؤمُنا "العقليّ،" حين لا يرى في المشهدِ العامّ إلّا الظلامَ والانسدادَ العميميْن، سيَسْتتبِعُ على الأرجح نكدًا وسوداويّةً عميميْن، فقعودًا كاملًا عن النضال، ليصيرَ هو ذاتُه (أي التشاؤمُ العقليّ) جزءًا لا يتجزّأُ من قوى التكبيلِ والتعويقِ والاضطهاد التي تحيطُ بسجننا و"تَحْرسُه" وتؤبِّدُه.
***
ماذا عن تفاؤل الإرادة الآن؟
ماذا نقول عن أولئك الذين لا يكلّون ولا يملّون من التظاهرِ والاعتصامِ وكتابةِ البيانات ورشقِ الحجارة والتعرّضِ للضربِ والتعذيبِ على يدِ الاحتلال أو أنظمةِ العسفِ العربيّة، وما بدّلوا تبديلًا؟ ماذا نقول عن أسرى يقبعون في السجونِ العربيّة أو الإسرائيليّة أو الأوروبيّة (أمثال جورج إبراهيم عبد الله) منذ ثلاثة عقودٍ كاملة لأنّهم رفضوا أن يتعهّدوا أمام جلّادِهم بأن "يَعْقلوا" و"يتوبوا" عن طلبِ الحقّ والحريّة والعدالة لشعبهم؟ أنقول إنّهم مجانين؟ متهوّرون؟ رومانسيّون لا ينتمون إلى عصور الواقعيّة والتعقّل السائدة؟
سنقول، في كلّ الأحوال، إنّهم استثناءاتٌ مشرِّفةٌ في الواقع العربيّ الراهن، أيْ إنّهم الآن لا يَعْكسون (بالمعنييْن: التمثيل والقلْب)(1) حالَ الركودِ أو التراجعِ في غالبيّة الدوائر الشعبيّة والسياسيّة العربيّة. أمّا "سوادُ الناس،" فلكي يتملّكَهم "تفاؤلُ الإرادة" الغرامشيُّ، فإنّهم يحتاجون إلى إنجازاتٍ على أرض الواقع، وإلًا بات تفاؤلُهم محضَ تضليلٍ ذاتيٍّ يذكِّر بالشعارات المستهلَكة عن "حتميّةِ الانتصار" أو "انبلاجِ الفجر بعد الليلِ مهما طال." بل إنّ تفاؤلَ الإرادة، المجرّدَ من المعرفةِ الجيّدةِ بالتاريخ وتجاربِه الناجحة ومعوّقاتِ الانتصار وعواملِ الانتصار، قد يغدو عائقًا دون هذا الانتصار، وحجرَ عثرةٍ أمام التفكيرِ النقديّ والقراءةِ الموضوعيّة. تفاؤلُ الإرادة من دون عقلٍ يقظٍ سيكون تفكيرًا رغبويًّا لا يُسْمن ولا يُغْني من جوع، وَصْفةً "أخلاقيةً" للثباتِ على الصراط السياسيّ المستقيم (political correctness).
***
شخصيًّا كنتُ وما أزال متشائمًا، ولكنّني كنتُ وما أزال أعتقدُ أنّ عدالةَ الأهداف تستلزمُ ما قد يتخطّى التفاؤلَ والتشاؤمَ أحيانًا. لذا حوّرتُ، منذ أكثر من عقدٍ، شعارَ غرامشي، بل جعلتُه مبدأً يهدي حياتي كعاملٍ في الشأنيْن الثقافيّ والسياسيّ: "تشاؤمُ العقل... عدالةُ القضيّة." فعدالةُ القضيّة التي نناضلُ من أجلها (وهي، بالنسبة إليّ، تحريرُ فلسطين في الدرجة الأولى) جديرةٌ بكلِّ الجهدِ والوقتِ والمال، بغضِّ النظر عن تشاؤمِنا أو تفاؤلِنا. ولطالما ربطتُ هذه المقولةَ المحوَّرةَ بقول الإمام عليّ "لا تستوحِشوا طريقَ الحقّ لقلّةِ سالكيه" ـــ وهو قولٌ كثيرًا ما ردّده حكيمُنا الغالي الدكتور جورج حبش كلّما ادلهمّ الظلامُ. لكنّني مقتنعٌ اليوم بأنّ هذه "الخلطة" الفكريّة نخبويّةٌ جدًّا، بمعنى أنّها لا تقدِّم حوافزَ كافيةً لانخراط سوادِ الناس في معترَكِ النضال. وإنّني لأحسبُ أنّ معظمَ الناس لا يكفيهم "تفاؤلُ الإرادة،" ولا الإيمانُ بـ"عدالة القضيّة،" لكي يبذلوا الغاليَ والنفيسَ من أجل هذه القضيّةِ أو تلك، بل يحتاجون أولًا إلى أن يثقوا بقدرتِهم على التغيير، وأن يتوفّروا ثانيًا على قادةٍ يثقون بوعيهم وإخلاصِهم ونزاهتِهم وحنكتِهم وطُولِ نفَسهم، وأن يعوا ثالثًا (وهذا هو الأمرُ الأهمُّ في مجرى حديثنا) أنّ ثمّة "أملًا واقعيًّا" في انتصارهم في نهايةِ المطاف، أملًا يستندُ إلى القراءةِ المعمّقةِ لتجاربنا وتجاربِ حركاتِ النضال العالميّة، وإلى التحليل الحاذقِ والمركّب، فيَشعروا أنّ تضحياتهم لن تَذهبَ هدرًا... أو لحشوِ جيوبِ "قائدٍ" انتهازيٍّ فاسد.
هنا تصبح مهمّةُ الناشطين والمثقفين الميْدانيّين والعضويّين حاسمةً: أن يقدّموا إلى الناس مثلَ هذا "الأملِ الواقعيّ،" المستندِ إلى حقائق الأرضِ والتاريخ، لا إلى السذاجةِ "النضالويّة" الزائفة. عندها، سيتقدّم الناسُ، بثقةٍ أكبرَ وجسارةٍ أصلبَ، نحو ساحاتِ التغيير الحتميّ.
بيروت
1- Represent and reverse.