منذ فترة وأنا أريد أن أكتب عن الفتاة الشقراء التي كُنْتُها: أنا، الفتاة المتوسطيّة الملامح، التي تتحوّل خلال ساعات إلى أخرى بشعر أشقر.
كان الأصفر الذي غزا رأسي مدعاةً لاستغرابِ كلِّ مَن رآه. الآن بات الجميع معنيًّا بإبداء رأيه في هذا التغيير الجذري الذي طاول توقّعاتهم عنّي كفتاة كلاسيكيّة تخشى التغيير. هؤلاء أنفسهم لم يلحظوا يومًا دموعًا في عينيّ، أو ذبولًا على وجنتيّ.
الاستنتاج رقم واحد: معظم الناس لا ينظرون في عيون الآخرين.
***
كيف سارت القصة؟
بكلّ بساطة، حملتُ ذلك الضيقَ الذي كان يعتمل في داخلي إلى مزيّن الشعر. قلت له أريد ألّا أتعرّف إلى نفسي عندما أنظر في المرآة. قال إنّ عليّ أن أدع الأمرَ له. وماهي إلّا أربع ساعات حتّى تحقّقتْ إرادتي. نزعتُ المنشفةَ عن رأسي لتتكشّف عن شعر أصفر تمامًا. تأمّلتُ نفسي بعناية وذهول. لم أتوقّع كلَّ هذا التغير. لم أتوقّع كلَّ هذه الغربة!
وفيما كنتُ أجول بنظري هبوطًا، لمحتُ عينيّ اللتين أعرفهما جيّدًا. قال مزيّنُ الشعر بافتخار أنثويّ: "شو رأيك؟ ما بيجنن؟" فأجبتُه بنظرة ذاهلة، وضحكة طويلة ساخرة.
الاستنتاج رقم اثنين: كوني واضحةً ومحدّدةً. لا تعوّلي كثيرًا على بُعد نظر مزيِّني الشعر!
***
نزلتُ من صالون الحلاقة. في الشارع أحسستُ أنّ نوعيّة العيون الشاخصة نحوي قد تغيّرتْ، وكذلك طريقة النظر. لا أعرف ما الذي يجعل الفتاةَ الشقراءَ محطّ أنظارٍ أكثرَ من غيرها، بغضّ النظر عن مدى جمالها. أتذكّرُ جملةً قالتها جارتُنا الحلبيّة المكتنزة، أمّ جلال، ذات مرّة في وصف كنّتِها الجديدة: "دخيل عينا ما أَكوَسا (أجملها)... شَقرا بَيضا بعيون ملوّنة،" متغافلةً عن كلّ ما يتعلّق بكونها غيرَ متعلّمة وذاتَ مزاج صعب.
الاستنتاج رقم ثلاثة: لا أعرف سبب هذا الإعجاب الجماعيّ بالشقراوات. ألأنّ الشقرة لونُ المستعمِر الذي تعلّمنا أن نكرهه وأن نتوق إلى التشبّه به في آنٍ واحد؟
***
في المنزل لم تستطع الدعاباتُ التي ألقيتُها على مسمع أمّي أن تمحو تكشيرتها؛ كان عليّ أن أقنعَها بأنْ لا علاقة لي بهذه الواقعة الأليمة، وبأنّني كنت ضحيّةً لمزيّن الشعر. لكنّ ذلك لم ينفع. كأنّها حزنتْ على شعري البنيّ الذي لطالما مشطتْه لي، وربطتْه بمختلف أنواع الشرائط الملوّنة، وفتّشتْ بين خصلاته عن بيوض القمل البيضاء اللزجة. أو كأنّ ثمّة جزءًا منها ما زال يحسبني تلك الفتاة ذاتَ الأعوام الستّة بجديلتيها البنّيتين.
بقيتْ أمّي مستاءةً من لون شعري الجديد إلى أن أَلِفتْه قليلًا مع مرور الوقت، وصار مادّةً لضحكنا المشترك.
الاستنتاج رقم أربعة: الأمّهات كائنات هشّة ولطيفة، معجونة بالحبّ والخوف.
***
مرّ الأسبوع الأوّل. ما الذي تغيّر في شعوري حيال نفسي؟ لا شيء على الإطلاق! لم أستطع ان أشعر كشقراء، ولا أن أفكّر كشقراء. كنتُ ما أزال، في خيالي ومناماتي، الفتاةَ القديمةَ ذاتها. وكلّما نظرتُ إلى المرآة، "ترجمتُ" صورتي. كنتُ كمن يتحدّث لغةً جديدةً: يُجبَرُ مع كلّ كلمة على أن يترجم أفكارَه عن لغته الأصليّة.
شيئًا فشيئًا بدأتُ أشعر أنّ زمن الانسحاب التكتيكيّ قد حان.
الآن أجلس على الكرسيّ عند مزيّن الشعر بانتظار أن يعيد إليّ لوني الحقيقيّ. تسألني امرأة تجلس بجواري: "ليش بدّك تغيّري لون شعرك؟! كتير لابقلك! اللوكْ الروسيّ آخر موضة!" وقبل أن تتسنّى لي الإجابة، تردّ عليها امرأةٌ أخرى، على كرسيٍّ مجاور، بملامحَ لامباليةٍ وشَعرٍ داخَلَه بعضُ الشيب: "حتّى بِهَيْ صار في روسي؟! يا بنتي اسمعي منّي... ما في أحلى من الورد البلدي... حتّى لو رخِصْ حقّو." فتردّ الأخرى بامتعاض: "إي ما حكينا شي! عا راسي الورد البلدي. بس متل ما بيقلّك المثل: الرُّوس ولا قطّاع الروس!"
ترمق المرأةُ الأخرى شعري بنظرة ساهية، وتنفث سحابة دخانٍ من لفافتها، كأنّها قطارٌ بخاريّ. أراقب كلتيهما بطرف عيني، وأبتسم.
الاستنتاج رقم خمسة: لقد أصبح كلُّ شيء مرتبطًا بالسياسة؛ حتّى شعري الأشقر.
شعري الأشقر الذي باغتُّ العالم به، كانقلاب عسكريّ، فشل في ساعاته الأولى.
اللاذقيّة