الوعد
21-08-2016

 

ــــ ألو.
ــــ أهلًا غسّان، كيف الحال؟
ــــ ماشي. عماد رحلتك إلى برلين في الثانية صباحًا. يجب أن تكون في المطار قبل الواحدة.
ــــ شكرًا لك. ها أنا أحزم أمتعتي.
ــــ جيّد. أتريد منّي شيئًا آخر؟
ــــ لا. شكرًا غسّان.
ــــ اذًا لا تتأخّر على موعد الرحلة. سلام.
ــــ سلام.
إنّها الثانية عشرة إلّا عشر دقائق. أين قبّعتي السوداء؟
لعلّها في الدرج. لا... إنّها ليست هنا.
ــــ صفاء. أين قبّعتي؟
ــــ ما بالك يا عماد؟ لقد أعطيتكَ إيّاها قبل قليل. من المبكّر أن تصاب بالألزهايمر.
ــــ يا أختي، أنا لا أتكلّم عن تلك القبّعة. أسألُ عن القبّعة السوداء التي أهدتني إيّاها "حنين" في عيد مولدي منذ عامين.
ــــ آااه. إنّها في الدرج الصغير الذي تضع فيه الرسائل.
ــــ حسنًا. شكرًا لك. بقيتْ لديّ خمسون دقيقة قبل أن أكون في المطار.
توجّهتُ نحو الدرْج لأحضر القبّعة وأضعَها في حقيبة سفري. فتحتُ الدرج. أيّ درج! إنّه بحر من الرسائل بيني وبين حنين.

وضعتُ القبّعة على السرير. خطفتْ نظري رسالةٌ مكتوبٌ على غلافها: "وعد." أذكرُ هذه الرسالة: كانت من أجمل رسائل حنين. نظرتُ إلى الساعة: إنّها الثانية عشرة وعشرون دقيقة. هناك وقتٌ لرسالة.
 أخذتُ الرسالة، وأحضرتُ معها دفترَ الصور القديمة. أوّل صورة تعود إلى ثلاثين عامًا مضت؛ كنتُ يومها في السابعة، وقد جمعتني بوالدي ووالدتي ــــ رحمهما الله ــــ وأختي صفاء التي لم يتجاوز عمرُها آنذاك الأشهر العشرة. استلقيتُ بجسدي على السرير وسرحتُ في الصورة. عدتُ إلى حيث كنّا في مخيّم عين الحلوة، بعد رحلة التهجير الشاقّة التي مررنا فيها. يومها، حين كان رفيقُ والدي، أبو زياد، هو الوحيدَ الذي يملك كاميرا، طلب والدي منه أن يلتقطَ لنا صورة. لا أنسى أبدًا كلماتِ والدي، إذ قال بثقة: "ستكون هذه الصورة ذكرى ما عانيناه حين نعود الى فلسطين."

ابتسمتُ يومها، وقلتُ في سرّي إنّي سأرسل هذه الصورة إلى حنين؛ فقد بقيتْ في فلسطين.

الصورة التالية كانت تعود إلى أوّل يوم مدرسيّ لأختي صفاء: عند بوّابة المدرسة، أمّي تقف مبتسمةً بخفر، وأنا أحضنُ صفاء بقوّة وأطبع قبلةً على خدّها الأيسر. أمّا صفاء، فتبدو فرحتُها لا توصف وكأنّها ذاهبة إلى القدس.

اخترتُ عشوائيًّا صورةً من آخر الدفتر. آاااه...إنّه عيدُ مولد صفاء الثامن عشر. أنا أقف خلف صفاء وقد لففتُ يدَيّ حولها، وهي تمسك  ذراعَيّ بكلتا يديها. ابتسامتُها الرائعة طقسٌ أساسٌ في أغلب الصور. كان أمامنا قالبُ الحلوى الصغير وثلاثُ شمعات: واحدة لأبي، والأخرى لأمّي، وبالطبع لم ننسَ فلسطين. دمعة صغيرة فرّت خلسةً من عيني. أغلقتُ الدفتر بهدوء، وحملت رسالةَ الوعد من حنين. رسالة صغيرة لم تتعدَّ السطر الواحد، كتبتْ فيها حنين: 
"أعدكَ بأنّي سأنتظر، عِدْني بأنّك ستعود."
رنّ الهاتفُ في هذه الأثناء.
ــــ ألو... أجل غسّان...
ــــ عماد، أين أنت يا رجل؟ لقد أقلعت الطائرة. ماذا دهاك؟ كيف تفعل ذلك؟ ﻻ أصدّق أنّك أضعت الرحلة؟
ــــ غسّان...
ــــ ماذا؟

ــــ تعال نرجع إلى فلسطين.

لبنان

حسن ابراهيم عبدالله

مدرّس تربية رياضيّة. إجازة في الإعلام، فرع الإذاعة والتلفزيون. طالب سنة ثانية في العلوم الاجتماعيّة.