لا شكّ في أنّ خروجَ الجيشين العربيّيْن المصريّ والسوريّ إلى قتال العدوّ الإسرائيليّ في السادس من أكتوبر سنة 1973 كان حدثًا منتظرًا ومرغوبًا على المستوييْن السياسيّ والشعبيّ الفلسطينيّين، بما يتجاوز حربَ الاستنزاف إلى حربٍ شاملةٍ، تَستردّ الكرامةَ المهدورةَ، وتعدِّل موازينَ القوى منذ هزيمة 1967، التي لم تودِ فقط بما تبقّى من فلسطين (غزّة والضفّة الغربيّة)، وإنما أدّت أيضًا إلى احتلال سيناءَ المصريّة، وصولًا إلى الضفّة الشرقية لقناة السويس، وإلى احتلال الجولان السوريّة، بما تجاوز القنيطرة إلى سعسع على مشارف العاصمة دمشق.

هذا النصّ، إضافةً إلى تذكّر أولئك الأبطال المجهولين من الفدائيين الفلسطينيين وأفرادِ جيش التحرير الفلسطينيّ، وتوجيهِ التحيّة الواجبة إليهم، يهدف إلى إلقاء الضوء على المشاركة الفلسطينيّة شبهِ المغيّبة. ولا يَخفى أنّ أيّ باحثٍ في موضوعٍ تاريخيّ، عربيّ بشكلٍ خاصّ، سيواجِه مشكلاتٍ معقّدةً في ظلّ غياب تقاليد الأرشفة ونشرِ الوثائق؛ وهذا مرتبطٌ بطبيعة الأنظمة الحاكمة، وبسياستِها التي تتعمّد إخفاءَ المعلومات عن الجمهور واحتكارَها. وهذه هي المعضلة الأولى التي تواجه هذا النصَّ بالذات.

المعضلة الثانية تتمثّل في ميْل الكتابات التاريخيّة المتداولة إلى تضخيم الدور الفلسطينيّ، أو التقليل منه، وذلك لاعتبارات سياسيّة مختلفة.

القيادة الفلسطينيّة: الحرب مَعْبرٌ إلى التسوية؟

عندما اندلعتْ حربُ اكتوبر 1973 كان من الطبيعيّ أن تكون الثورةُ الفلسطينيّةُ في خضمّها، لا لكون الفلسطينيين "أهلَ القضيّة الأصليّين" فحسب، بل أيضًا بسبب حاجة الثورة آنذاك إلى استرداد مكانتِها وإعادةِ تقديم نفسِها ـ لجماهيرها خصوصًا وللعرب عمومًا ـ قوّةً أساسيّةً في الصراع، بما يبرِّر سعيَ منظّمة التحرير الفلسطينيّة إلى أن تكون "الممثّلَ الشرعيَّ والوحيدَ للشعب الفلسطينيّ،" ولتُثْبتَ أنّها تجاوزت السنواتِ العجافَ بعد أحداث "أيلول الأسود" والخروجِ من الأردن وإعادةِ التمركز مؤقّتًا في سوريا ثمّ الانتقال إلى لبنان بشكلٍ رئيس.

لكنّ السؤالين المترابطيْن اللذين يُطرحان هنا: هل كانت المشاركةُ الفلسطينيّةُ في هذه الحرب مرتبطةً فقط بالغايات أعلاه، أمْ كانت مرتبطةً أيضًا بتحقيق ظروفٍ أفضل للدخول في نهج التسوية؟ وهل كان انضمامُ القيادة الفلسطينيّة المتنفّذة آنذاك إلى "جبهة الصمود والتصدّي" مرتبطًا بمشاعر الخذلان من سلوك أنور السادات طريقَ التسوية مع العدوّ، أمْ كان مرتبطًا بمشاعر الخذلان من ذهابه في طريق التسوية وحده؟

وبالعودة إلى ظروف المشاركة، فإنّ المآلاتِ السياسيّةَ، وتوجّهاتِ الطرفين العربيين الرئيسيْن في الحرب (سوريا ومصر)، تشرح الظروفَ العامّةَ التي أحاطت بالتقليل من الدور الفلسطينيّ أو إهمالِه.

فعلى الجبهة السوريّة، كانت المشاركةُ الفلسطينيّة أوسعَ، وأكثرَ فعّاليّةً، وأكثرَ انسجامًا مع وضع الجبهة العمليّاتي، من الجبهة المصريّة، خصوصًا أنّ "جيش التحرير الفلسطينيّ" العاملَ في سوريا كان تحت قيادة الأركان السوريّة، وجزءًا من تشكيلاتها وخطّةِ عمليّاتها، ما جعل مشاركتَه أمرًا بديهيًّا. لكنْ، لم تكد الحربُ تضع أوزارَها حتّى اندلعت الحربُ الأهليّة في لبنان (نيسان 1975)، ووقع التدخّلُ السوريُّ في لبنان (ربيع 1976) والاشتباكُ مع الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والثورة الفلسطينيّة في ما يُعرف بـ"حرب السنتين" (1975 ـ 1976). وبرغم اندراج الجانب الفلسطينيّ لاحقًا في "جبهة الصمود والتصدّي،" ومعارضتِه للانسحاب المصريّ من الصراع مع العدوّ الإسرائيليّ، فإنّ حالةَ العداء والحساسيّة بين الطرفين السوريّ والفلسطينيّ كانت واقعةً لا مفرّ منها. وربّما انعكس هذا الأمرُ على التجاهل السوريّ، عامّةً، للمشاركة الفلسطينيّة في حرب اكتوبر.

أمّا على الجبهة المصريّة فقد كان الأمرُ مختلفًا. فبعد زيارة السادات إلى القدس المحتلّة، ثمّ توقيعِه اتّفاقيّاتِ كامب ديفيد، وقعتْ حالةُ العداء (وإنْ شكلًا) بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة والنظامِ المصريّ. ولعلّ هذا ما يجعل الحصولَ على معلوماتٍ ذاتِ مصداقيّةٍ كبيرةٍ عن المشاركة الفلسطينيّة على جبهة مصر أكثرَ ندرةً، بل يختفي ذكرُ هذه المشاركةُ في أغلب (إنْ لم يكن جميع) مذكّراتِ القادة العسكريين المصريين في تلك الحرب.

هنا نعود إلى السؤالين الكبيرين اللذين طرحناهما أعلاه عن حقيقة "الاشتباك السياسيّ" بين السادات وقيادةِ منظّمة التحرير. فقد جاء توجّهُ السادات إلى السلام مع "إسرائيل" مترافقًا، إنْ لم يكن مسبوقًا في حقيقة الأمر، مع تبنّي المنظّمة لـ"مشروع النقاط العشر" في اجتماع القاهرة سنة 1974، على الرغم من أنّ قيادة المنظّمة كانت قد ردّت على قرار وقف إطلاق النار بعد حرب اكتوبر بأنّ الرصاص "لن يتوقّف حتى تحرير كامل التراب الفلسطينيّ." فالحقّ أنّ الحاجة إلى الحرب مَعْبرًا إلى التسوية لم تكن بعيدةً عن أهداف أصحاب هذا المشروع؛ بل على العكس. فقد استندت الجبهةُ الديمقراطيّة لتحرير فلسطين، في تقديمِها لـه، إلى نتائج هذه الحرب بالذات. ونحن نعْلم أنّ "حركة فتح" هي مَن كان وراء هذا المشروع في الأساس، ونشتبه في أنّ فكرة "قيام دولة فلسطينية مستقلّة في الضفّة والقطاع" قد كانت في جوهر مسارٍ ثنائيٍّ تفكّر فيه قيادةُ المنظّمة بالتوازي مع مسعى السادات نحو "السلام." إلّا أنّ اختيارَ السادات المسارَ الأحاديّ أحبط التسوويّين الفلسطينيين، فذهبوا إلى خيار "الصمود والتصدّي"؛ وهو خيارٌ مؤقّتٌ في كلّ حال، إذ ما لبث أن سقط حين زار عرفات القاهرةَ في العام 1983، فكسر عزلتَها التي فرضتْها عليها جامعةُ الدول العربيّة بعد توقيع كامب ديفيد.

الفلسطينيون وتوقيتُ المعركة

ارتبط حجمُ المشاركة الفلسطينيّة على الجبهتين المصريّة والسوريّة بثلاثة عوامل: 1) الجغرافيا السياسيّة وطبيعة الوجود العسكريّ الفلسطينيّ على الجبهات. 2) اختلاف ظروف القتال على هذه الجبهات تبعًا للوضع الطوبوغرافيّ والميدانيّ للمعركة. 3) ظروف توازن التدريب والتسليح والقوى البشريّة مع الجيشين السوريّ والمصريّ.

لكنّ النقطة التي لا يمكن القفزُ عليها قبل الانتقال إلى سجلّ القتال الفلسطينيّ الفعليّ هي الإجابة عن السؤال الآتي:

هل كان ياسر عرفات، وقيادةُ المنظّمة، وقيادةُ حركة "فتح،" على علمٍ بساعة الصفر، كما تزعم كتاباتٌ متناثرةٌ، أغلبُها دعائيّ "فتحاويّ،" في سياق تضخيم الدور الفلسطينيّ؟

لقد ردّد البعضُ أنّ القيادة الفلسطينيّة أُطلعتْ على توقيت المعركة، ودُعيتْ إلى المشاركة في صنع قراراتها، وإلى تحمُّل جزءٍ من واجباتها القتاليّة. ويستند هذا البعضُ إلى رواياتٍ شفويّة، والى نداء أبي عمّار، الصادرِ في بداية المعركة، وفيه توجَّهَ إلى "الإخوة المقاتلين داخل الأراضي المحتلّة وخارجها،" معتبرًا الحربَ "لحظاتٍ حاسمةً من تاريخ شعبنا وأمّتنا،" ومحدّدًا الدورَ الفلسطينيّ "بالمزيد من الضربات لخطوط مواصلات العدوّ ومراكزِ تجمّعه ومرافقِه الحيويّة داخل الأراضي المحتلّة وحدودها كأمرٍ هامّ وحاسم."

أمّا محمد حسنين هيكل فيَذكر في كتابه، الطريق إلى رمضان، ما يأتي:

"قبل الحرب بأسابيع، قام محمّد أنور السادات بطلب الاجتماع ببعض كبار المسؤولين في قيادة منظّمة التحرير الفلسطينيّة. وفي لقائه بهم أوضح لصلاح خلف وفاروق القدّومي أنّ الموقف قد توتّر، وأنّ مصر مضطرّةٌ إلى تنشيط جبهة القناة. وفهما من حديثه أنّ مهمّة المقاومة [الفلسطينيّة] ستكون الاشتراكَ بعمليّاتٍ فدائيّةٍ داخل سيناء. وقد وصل عددٌ من ضبّاط المقاومة، ونحو 120 من رُتَبٍ أخرى، إلى القاهرة للاشتراك في المعركة يومَ الأوّل من تشرين أوّل (أكتوبر) 1973."

من هذا الكلام نستطيع التوصّلَ بسهولة إلى أنّ قيادة منظّمة التحرير، عمومًا، لم تكن تعرف بموعد الحرب؛ وأنّ عرفات، بالخصوص، لم يكن يعْلم بذلك، ولم يَحضر اجتماعَ القاهرة. ولو كانت للسادات النيّةُ في اتّخاذ قرارٍ مهمٍّ مثل إبلاغ القادة الفلسطينيين بالموعد، لكان طلب حضورَ عرفات شخصيًّا. بل إنّه سيكون من قبيل السذاجة العسكريّة استدعاءُ قوّات إلى جبهة عسكريّة قبل ستّة أيّام فقط من موعد الحرب!

ولو افترضْنا جدلًا أنّ القيادة الفلسطينية أُبلغتْ بتوقيت المعركة قبل حدوثها، أفلا يكون أكثرَ منطقيّةً أن يقوم السوريّون، لا المصريون، بهذا التبليغ، لأنّ القوّة الفلسطينيّة الرئيسة موجودةٌ في سوريا، ولأنّ المقاتلين الفلسطينيين يسيطرون على جبهة جنوب لبنان؟!

كلّ هذا يؤكّد أنّ الطرفيْن السوريّ والمصريّ تجاهلا الفلسطينيين في تحديد موعد الحرب لأسباب لا نعرفها، وإنْ لم يؤثِّر هذا التجاهلُ في سرعة تجاوب المقاومة وجاهزيّتِها للانخراط في المعركة.

القتال الفلسطينيّ على الجبهة المصريّة

على هذه الجبهة كانت القوّةُ الفلسطينيّةُ الرئيسة هي "قوّات عين جالوت،" بقيادة عبد الرزاق المجايدة. وأُلحقتْ بها كتيبةٌ من "قوّات العاصفة،" هي "الوحدةُ الخاصّة" بقيادة غازي الجبالي. كما أُلحقتْ بها وحداتٌ من البحريّة الفلسطينيّة التي كانت متمركزةً في قاعدة رأس هلال، شرق ليبيا، فانتقل جزءٌ منها إلى الجبهة المصريّة في السويس وبور سعيد (وانتقل جزءٌ آخر إلى اللاذقيّة في سوريا).

تشكّلت الوحداتُ المشاركةُ في قوّات عين جالوت من الكتائب 39 و49 و59، إضافةً إلى ثلاث كتائب مدفعيّة، وجميعُها تحت تصرّف القيادة المصريّة، وأُسندتْ إليها واجباتٌ قتاليّةٌ، كوحدات مشاةٍ خفيفة، أسوةً بوحدات المشاة المصريّة. وانتشرت الكتائبُ الستُّ في خطّ قتال كبريت وكسفريت، جنوب الدفرسوار، على جبهةٍ امتدادُها 25 كيلومترًا، في مواجهة البحيْرات المرّة. بينما عملتْ وحداتُ العاصفة خلف خطوط العدوّ.

بعد صدور أمر القتال وعبور الجيش الثالث للقناة، بقيتْ قوّاتُ عين جالوت في مؤخّرة الجيش المصريّ لتقوم بحماية المؤخّرة والدفاع. وكذلك كُلّفتْ بتنفيذ عمليّات خلف خطوط العدوّ: كقنص دبّاباته، أو الإغارةِ على مرابض مدفعيّته، وضربِ قوافله وآليّاته. تضاف إلى ذلك مهمّة مراقبته، عبر الدفع بمجموعاتٍ متقدّمةٍ إلى مناطق سيطرته الأماميّة. ولعلّ أهمَّ الإنجازات في هذا الصدد هو الإبلاغ الفلسطينيّ المبكّر، يوم 16 أكتوبر، عن خرق الدفرسوار. ولو استجابت القيادةُ المصريّة لتحذيرات قوّات عين جالوت لربّما تغيّر مسارُ القتال في الدفرسوار.

بعد نجاح الخرق وتوسّعِه، يومَيْ 22 و23 من أكتوبر، صمدتْ قوّاتُ عين جالوت في مواقعها، وقاومتْ محاولاتِ العدوّ التقدّمَ على الطريق الواقع بين البحيْرات المرّة والمرتفعات الجبليّة، وتصدّت لمحاولات النزول من الجبال، عبر وادي الجاموس، لمدّة 72 ساعةً، ابتداءً من 18 أكتوبر؛ ما دفع العدوَّ إلى ضربها بالمدفعيّة، وبقنابلَ تزن 500 رطل، وبالقنابل الكيميائيّة. لكنّها تصدّت للاندفاع المدرّع الإسرائيليّ بالألغام وبالأسلحة الفرديّة المضادّة للدروع، محاولةً تأخيرَ تقدّمه.

بعد صمود ثمانية أيّام، تلقّت قيادةُ قوّات عين جالوت، يوم 24 أكتوبر، برقيّةَ تحيّةٍ لثباتها، وأمرًا بالانسحاب جنوبًا باتّجاه مدينة السويس للدفاع عنها. وقد تكبّدتْ قواتُ عين جالوت ثلاثين شهيدًا ومفقودًا وسبعين جريحًا؛ وقدّمت الثورةُ الفلسطينيّة، من رجال الضفادع البشريّة (الذين كانوا قد أتوْا، كما أسلفنا، من قاعدة سابقة للبحريّة الفلسطينيّة، هي قاعدة "رأس هلال" الليبيّة)، ومن المتطوّعين الفدائيين (وأغلبُهم من طلّاب الجامعات ومن أبناء قطاع غزّة الموجودين في مصر منذ العام 1967)، ثمانية عشر شهيدًا ومفقودًا.

القتال الفلسطينيّ على الجبهة السوريّة

اشتركتْ في القتال، بشكلٍ أساس، قوّاتُ جيش التحرير الفلسطينيّ، وهي "حِطّين" و"القادسيّة." وقد تكوّنتْ من كتائبَ نظاميّةٍ مسلّحةٍ بأسلحةٍ خفيفةٍ ومتوسّطة، وبتدريبٍ جيّد، وبمعنويّاتٍ عالية، وبمعرفةٍ جيّدةٍ بالأرض. وكانت هذه الكتائبُ ذاتَ قدرةٍ على القيام بمهامّ خلف خطوط العدوّ، وبالإغارة المحمولة، وبدفعِ فِرقٍ من المشاة المرافقين للدبّابات.

كما شاركتْ في القتال قوّاتُ "العاصفة" و"الصاعقة." وتشكّلت الأولى من الكتيبتيْن الثالثة والثانية، ومن كتيبة قطاع الجولان، وسريّة خالد بن الوليد.

كانت جميعُ القوى الفلسطينيّة مشاركةً في القتال منذ اليوم الأوّل، باستثناء قوّات جيش التحرير الفلسطينيّ الموجودة في لبنان. وجاء في برقيّة، أرسلها ياسر عرفات إلى الرئيسين حافظ الأسد وأنور السادات، ما يأتي: "سيطرتْ قوّاتُ الثورة الفلسطينيّة، بناءً على الواجبِ المطلوبِ منها، على مرتفعات الرؤوس في سفوح جبل الشيخ الغربيّة. وتمّت السيطرةُ على الرؤوس الثلاثة من بعد ظهر اليوم [يقصد السابع من أكتوبر، ثاني أيّام الحرب]."

وفي التفاصيل أنّه تحدّدتْ واجباتٌ قتاليّةٌ لقوّات حِطّين، التي أُلحقتْ كتائبُها بالفرقتين التاسعة والخامسة من المشاة، في الجبهة الشماليّة للجولان. فوُضعت الكتيبة 411 من هذه القوّات تحت تصرّف رئاسة الأركان السوريّة، وأُسندتْ إليها، يوم 15 أكتوبر، مهمّةُ اقتحام تلّ الشمس وتلّ الشحم، على محور القنيطرة ـ سعسع، بقوّة 200 جنديّ. في تلك المعركة، التي استُشهد فيها النقيبُ الباسل محمد فايز حلاوة وآخرون، حقّقت الكتيبةُ نصرًا مجيدًا عندما تمكّن أفرادُ إحدى سراياها، المحمولون جوًّا بطائراتٍ مروحيّة، من النزول خلف خطوط العدوّ، واحتلالِ موقعَ تلّ الفرس. وتلّ الفرس تلٌّ مرتفعٌ ومهمٌّ استراتيجيًّا، يبعد 18 كيلومترًا عن القنيطرة جنوبًا، ويسيطر على محور الطرق بين القنيطرة والرفيد وفيق؛ وقد حصّنه العدوُّ كقلعة قتالٍ متقدّمة، تدافع عنه سريّةٌ كاملة، وهو مجهّزٌ بمعدّاتِ رصدٍ واتّصالٍ وتشويش. وقد تمركزت قوّةُ جيش التحرير الفلسطينيّ في الموقع، واستمرّت في الدفاع عنه، إلى أن اضطُرّت إلى الانسحاب مع قوّات الجيش السوريّ.

وكانت السريّتان الأخريان من الكتيبة 411 من قوّات حطّين خلف خطوط العدوّ تمهّدان لتقدّم القوّات السورية. كما نُقلتْ، بالمروحيّات، سرايا من الكتيبة 412 من هذه القوّات، وهي ملحقة بالفرقة التاسعة من الجيش العربيّ السوريّ، فتمكّنتْ من احتلال تلّ عكاشة وتلّ العباس، ودمّرتْ موقعَ العدوّ في تلّ الشعاف الكبير. ثمّ تقدّمتْ، بمساندةٍ من الدبّابات السوريّة، إلى تلّ أبو الذهب بعد احتلال الشعاف والسماقيّات.

كما قامت الكتيبة 413 من قوات حطّين، الملحقة باللواء 132 ميكانيكيّ في الفرقة الخامسة من المشاة في الجيش العربيّ السوريّ، بمهاجمة النسق الأوّل للعدوّ في القطاع الجنوبيّ للجبهة، واحتلّت خسفين والعال.

هذا وقد قدّمتْ قوّاتُ حطين 44 شهيدًا و65 جريحًا في هذه المعارك.

على الجبهة الجنوبيّة، تمكّنت كتيبةٌ من قوّات القادسيّة، التابعة لجيش التحرير الفلسطينيّ هي أيضًا، من احتلال جبهة وادي الرقاد بطول سبعة كيلومترات، فمنعت العدوَّ من الحؤول دون تحرّكِ الجسم الرئيس لفرقة القتال السوريّة التاسعة هناك. كتيبةٌ أخرى من قوّات القادسيّة تمكّنتْ من الدخول، مع قوّة استطلاع الفرقة الخامسة السوريّة، والوصول إلى السفوح المطلّة على بحيْرة طبريّا، قرب جسر بنات يعقوب.

كما شاركت الكتيبةُ الثالثةُ من قوّات العاصفة، وكانت على تماسٍ مباشر مع العدوّ. فحاربتْ على القاطع الشماليّ للجبهة السوريّة في بلدة خان الشيح، وبلدة بيت تيما. واتّخذتْ مواقعَ إسناد في بلدة كفر حور وبيت سابر، في مواجهة مزرعة بيت جنّ، على السفوح الشرقيّة لجبل الشيخ. وتمكّنت السريّةُ الثانية من الكتيبة من السيطرة على قرية دربل ومغر المير. ومن خلال مواقعها المتقدّمة، تمكّنتْ من تسيير دوريّات خلف خطوط العدوّ.

وفي الساحل السوريّ، شارك رجالُ الضفادع الفلسطينيون، المنتقلون من قاعدة رأس هلال في ليبيا، في المعارك البحريّة. وكانوا يقومون بعمل "رادارات بشريّة" لتوجيه النيران السوريّة، وذلك بعد ضرب الرادارات السوريّة وإرباكها.

الأردن

سعت قيادةُ منظّمة التحرير الفلسطينيّة إلى فتح الجبهة الأردنيّة، وكان لافتًا أنّ العدوّ سحب معظمَ قوّاته على الحدود مع الأردن، مكتفيًا بلواءيْن من المشاة فقط على طول خطّ الجبهة. وهذا الوضعُ كان مناسبًا تمامًا لعمليّات العبور الفدائيّة المكثّفة، وللعمل خلف خطوط العدوّ في عمليّات محدّدةٍ وقصيرةِ الأمد، لو وافق النظامُ الأردنيّ على ذلك. لكنّ هذا النظام "صمد" أمام الضغوط الشعبيّة والسياسيّة المحليّة والإغراءات العربيّة للدخول في الحرب.

هذا وقد أبدت المقاومةُ الفلسطينيّة استعدادًا لتخطٍّ فوريٍّ لحالة العداء القائمة بينها وبين السلطات الأردنيّة منذ مجازر الأردن سنة 1970. فأوفدتْ في التاسع من أكتوبر 1973، أيْ في ثالث أيّام الحرب، وفدًا إلى عمّان لإقناع السلطات الأردنيّة بالسماح بعبور خمسة آلاف فدائيّ إلى الضفّة الغربية للنهر. ضمّ الوفدُ أبا داوود وصالح رأفت، واجتمع برئيس الوزراء الأردنيّ زيد الرفاعي. إلّا أنّ النظام الأردنيّ ماطل في الردّ بحججٍ مختلفة، ولم يعلن الرفضَ المباشرَ خشيةً من ردود الفعل المحلّيّة المتعاطفة مع المشاركة في الحرب، وتحاشيًا لإعادة الأمور مع الفلسطينيين في الأردن إلى نقطة الصفر بعد محاولات النظام رأبَ صدع أيلول.

لكنّ النظام الأردنيّ لم يتردّدْ في اعتقال 70 فدائيًّا فلسطينيًّا كانوا في طريقهم لعبور النهر، وامتنعوا عن الاشتباك مع الجيش الأردنيّ الذي اعتقلهم. كما استشهد عددٌ آخر نتيجةً لوقوعهم في حقل ألغامٍ أردنيّ.

الضغط على النظام لم يكن من المقاومة فقط؛ فقد أرسل الرئيسُ المصريّ، أنور السادات، برقيّةً إلى الملك حسين، يوم 13 أكتوبر، دعاه فيها إلى السماح بمشاركة الفدائيين في الحرب عبر الجبهة الأردنيّة. في ظلّ هذه الأوضاع، وتلافيًا للحرج، أرسل الأردن اللواءَ المدرّع 40 للمرابَطة في سوريا ـ وهو اللواءُ ذاتُه الذي سبق أن هُزم في مواجهةٍ قصيرةٍ مع الجيش السوريّ سنة 1970. إلّا أنّ النظام الأردنيّ نجح في استثمار العمليّة إلى أقصى حدّ، مبالغًا في الدور الحاسم للواءٍ لم يشاركْ في المعركة أصلًا.

في 15 اكتوبر 1973 عاد وفدُ منظّمة التحرير الفلسطينيّة إلى التفاوض مع الأردن. إلّا أنّ الردّ كان حاسمًا هذه المرة من زيد الرفاعي، رئيسِ الوزراء: الأردن لن يدخل الحربَ مع الإسرائيليين!

الجبهة الثالثة: لبنان والداخل الفلسطينيّ

إضافةً إلى المشاركة على مسرح عمليّات الجيشين العربيّين المحاربيْن، انخرطت الثورةُ الفلسطينيّة في جبهتها الخاصّة، التي وُصفتْ بأنّها "الجبهة الثالثة" في الحرب، سواء عبر جنوب لبنان، أو في الداخل الفلسطينيّ المحتلّ.

امتدّت الجبهةُ اللبنانيّةُ من المتوسّط غربًا إلى كفر شوبا شرقًا، وكفر حمام في قطاع العرقوب عبر المحاور: الغربيّ والأوسط والشرقيّ.

وكانت القوّاتُ المشتركة في القتال تضمّ قوّاتِ العاصفة، وقوّاتٍ من فصائل منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وكتيبةَ "مصعب بن عمير" من جيش التحرير الفسطينيّ المرابطة في لبنان. وكان تسليحُ القوّات يشمل المدفعيّةَ بأنواعها، والراجماتِ الحديثة. واعتمد القتالُ بالخصوص على العمليّات الفدائيّة الراجلة في عمق خطوط العدوّ في الأرض المحتلّة.

كان فتحُ جبهة الجنوب اللبنانيّ قرارًا ذا أهميّةٍ سياسيّةٍ بالغة، إضافةً إلى أهميّته العسكريّة. فقد مثّلَ تجاوزًا للعُقد التي فرضها "اتّفاقُ القاهرة" على الوجود الفلسطينيّ، وأسقط الحجّةَ التي تتذرّع بـ"صمت الجبهات العربيّة الأخرى" لإسكات جبهة الجنوب اللبنانيّ.

وصل تعدادُ القوى الفلسطينية في جبهة الجنوب إلى عشرة فصائل من كافّة الفصائل، إضافةً إلى كتيبة مصعب بن عمير التي تسلّمت العملَ خلف خطوط العدوّ، وقصفَ تجمّعاته، وتدميرَ رادار جبل الجرمق، والدفاعَ عن محور حاصبيا ـ ميمس ـ راشيا الوادي، ومحور مرج الزهور ـ المصنع، لعوق تقدّم العدو في العرقوب.

نَفّذت القوى الفلسطينيّة عددًا كبيرًا من العمليّات، نورد ما يتناسب منها مع اعترافات العدوّ وتسريباته:

بلغ عددُ العمليّات الفلسطينيّة 207 عمليّات على طول جبهة جنوب لبنان. منها 23% عمليّاتُ قصف، استُخدمتْ فيها المدفعيّةُ وصواريخُ الغراد وراجماتُ الكاتيوشا؛ و23% عمليّاتُ تفجيرٍ في العمق بواسطة القنابل والعبوّات الناسفة والألغام؛ و23% هجماتٌ على القوات الإسرائيليّة والتحامٌ بها؛ و13% كمائن؛ و11% اشتباكات؛ و7% إغارة وقنص. وأُخليتْ 42 مستعمرةً صهيونيّةً من سكّانها، بحسب البيان الذي ألقاه يوسف تكواه، مندوبُ "إسرائيل" في الأمم المتّحدة خلال مناقشات وقف إطلاق النار.

وإضافةً إلى إرباك العدوّ وإجبارِه على تخصيص جزءٍ من مجهوده الحربيّ لجبهة الشمال مع لبنان، فقد كانت المواجهةُ على هذه الجبهة فرصةً لـ"تصفية الحساب" مع المراكز التي كان العدوُّ قد أقامها على الأراضي اللبنانيّة. إذ جرت معاركُ عنيفةٌ في العرقوب الشرقيّ يوم 7 أكتوبر، أسفرتْ عن تحرير تلّ الدانة، والسيطرة عليه في جنوب شبعا، وتحرير بركة النقّار المحتلّة منذ العام 1970.

أمّا في الداخل الفلسطينيّ، فبالإضافة إلى الاستجابة الجماهيرّية الواسعة لنداء ياسر عرفات وأعمال التخريب الشعبيّ الواسعة، فقد تمكّنت المقاومةُ الفلسطينيّة من بلوغ عدد من المَرافق الحيويّة الإسرائيليّة والمنشآت الاقتصاديّة والإنتاجيّة ومصادرِ الطاقة: فدمّرتْ مستودعاتِ النفط في كفار حسيديم (حيفا)، ودمّرتْ خطَّ الأنابيب يانفطاه، وعددًا من أبراج كهرباء الضغط العالي في أسدود وريشون لتسيون. كما دمّر رجالُ المقاومة جزءًا من مصنع الورق في الخضيرة، وأشعلوا النيرانَ في مستودعات الوقود في الخالصة، ودمّروا قسمَ تركيب طائرات كومودورجت في بيت شيمش. وغير ذلك كثير.

ومن المستعمرات التي قُصفتْ بكثافة: نهاريا، وجسر الزيب، وكريات شمونة، وحرشات تال، وكيبوتس يفتاح، ومرجليوت. كما قُصفت المطلّة، ومعالوت، وشلوميت، وزرعيت، ورأس الناقورة، والمنارة، والمالكيّة، ودان، وشلومي، ورامات مجشميم، وبيرانيت، وافيفيم، وبيت هليل وغيرها.

وقد اعترف عميدُ الاحتياط الإسرائيليّ، حاييم هرتسوغ، بخطورة الجبهة الشماليّة، وذلك في تصريحٍ أدلى به إلى الإذاعة الإسرائيليّة في العاشر من أكتوبر 1973، حين قال: "في هذه الليلة فُتحتْ جبهةٌ أخرى على الرغم من صغرها؛ ولكنّها، على كلّ حال، تُعتبر جبهةً. والمقصود هو النشاط التخريبيّ من وراء الحدود ضدّ مستوطناتنا." وأكدّتْ غولدا مائير جدّيّة هذه الجبهة، حين اعتبرتْ أنّ قرار وقف إطلاق النار في حرب اكتوبر يجب أن يشمل الجبهةَ الثالثةَ أيضًا!

خاتمة

سعى هذا النصّ إلى إلقاء ضوءٍ أكبر على الظروف السياسيّة والعسكريّة للمشاركة الفلسطينيّة في حرب أكتوبر، من دون أن يدّعي امتلاك الأجوبة الكاملة. والقصد الأخير يبقى الوفاءَ للدماء التي أريقت من أجل الوطن، ولا ذنْب لها في أيّ استثمار سياسيّ لاحق. وتبقى تجربة التعاضد العربيّ، وبمعزل أيضًا عن الاستثمار السياسيّ، نموذجًا لقدرة المقاتل العربيّ على مواجهة العدوّ الصهيوني، لو حُرِّرت الطاقاتُ، وأُطلقتْ إرادةُ الحريّة والكرامة.

المنصورة (مصر)

اعتمدتُ في المعلومات العسكريّة الواردة في النصّ على المصادر الآتية:

ـ الكتاب السنويّ للقضيّة الفلسطينيّة من 1964 إلى 1976 (مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة).

ـ العددان 27 ـ 28 وما بعدهما من مجلّة شؤون فلسطينيّة.

ـ مازن عزّ الدين، العسكريّة الفلسطينيّة 1948- 1973 (مطابع دار الأيتام الإسلاميّة الصناعيّة، 2009).

ـ محمد حسنين هيكل، الطريق إلى رمضان (بيروت: دار النهار للنشر، 1975)، ص 32.

ـ الموسوعة الفلسطينيّة، "جيش التحرير الفلسطينيّ."

ـ عبّاس مراد، "القتال والتسوية وموقع النظام الأردنيّ،" شؤون فلسطينية، العدد 28، ص 144-155.