في آخر صحن الدار، أمام باب المطبخ القديم المغلق منذ سنين، حيث نورُ المصابيح يصل خافتًا، انزوى منشول يرقب المائدةَ ومَن حولها، بعد إفساده عشاءَ العائلة. لأوّل مرّةٍ يضع منشول رأسَه في قصعة الكسكسيّ ليفتكَ بقطعة اللحم من أمام هالة، مربّيتِه التي دلّلتْه، ودعَتهُ بهذا الاسم قائلةً: "إنّي نشلتُه من غديرٍ في الشارع." وبقدرِ ما كانت هالة تحبّه، كان أفرادُ العائلة يَنْفرون منه. ولعلّ أغرب ما في هذه الحادثة أنّ منشولًا ألقى باللحمة أرضًا ولم يأكلها؛ فكأنّه أحسّ بجسامة الجرم الذي اقترفه.
"أأعجبكِ هذا يا هالة؟" صاحت أمُّها، ويدُها اليمنى تبحث ــــ تحت المائدة ــــ عن شبشبها الثاني لتصيب به منشولًا، أو "وجهَ النّحس" كما كانت تلقّبه. "ألم أقل لك مرارًا: لنتخلّصْ من هذا الحيوان القذر؟ انظري إلى بنصرك اليسرى؛ إنّها دامية!"
ــــ لكنْ لماذا، بعد كلّ حبّي له، عَضّ اصبعي؟
أجابها والدُها، وقد وضع ملعقتَه في الكسكسيّ ليأكل، غيرَ مبال بما صنع القطّ:
ــــ لأنّكِ منعتِ عنه عشاءه.
ــــ بابا!! منشول ليس جائعًا، فأنا أطعمتُه بيدي منذ قليل. ألم تر كيف بصق اللحمة؟
تدخّلتْ أختُها الكبرى، بدعابتها المعهودة:
ــــ إنْ لم يكن جائعًا فهو غيران. لعلّ خاتمَ خطوبتك الجديد استفزّ مشاعرَه!
أغرق الجميعُ في الضحك. انسحبتْ هالة إلى إحدى الغرف لتعاينَ عضّة قطّها، فلم تجد على إصبعها سوى أثر نابٍ واحد. هل أراد أن ينشل خاتمي؟
في تلك اللحظة فوجئتْ بمنشول يتمسّح بقدميها ويموء مواءً حزينًا كأنّه اعتذار. فحملتُه في حضنها. وتذكّرتْ خطيبَها الأوّل الذي أحبّته، لكنّ المنيّة حالت دون زواجهما.
ــــ سامحْني يا حبيبي! عامان مرّا على رحيلك، فهل أبقى عزباءَ إلى الأبد؟ لقد قطعتُ على نفسي ألاّ أنساك ما حييتُ. فهلّا عفوتَ عنّي يا حبيبي؟
نامت هالة ليلتها تلك محتضنةً قطَّها المدلّل الذي وجدتْ فيه، طوال سنتين، خيرَ مؤنسٍ لها. وفي سباتها رأت أنّها تعانق خطيبَها الأوّل.
صباحًا، قصّت رؤياها على أمّها، فانقبض قلبُها وقالت:
ــــ لا تخبري أحدًا بحلمكِ. صلّي وتعاليْ لتفطري.
ــــ ألم يفق أبي إلى الآن؟
ــــ آه! أبوك خرج مبكّرًا.
ــــ لمَ؟
أدارت الأمّ وجهها منطلقةً نحو المطبخ:
ــــ ليرميَ القطّ بعيدًا. أخيرًا سنرتاح من متاعب منشول.
ــــ كيف خوّلتْ لكم أنفسُكم اقترافَ هذا الإثم؟ ماذا فعل لكم منشول؟ أين أنتَ يا منشول؟
عاد الأب، وفي يده الكيسُ فارغًا، فساد الدارَ صمتٌ جنائزيّ. ظلّ صفوُ العائلة مكدّرًا لأيّام. ندم الأبُ بعد أن حاول، سُدًى، إيجادَ القطّ في المكان الذي تركه فيه. أمّا هالة فحزنتْ حزنًا جمًّا. كان يُهيّأ لها ليلًا صوتُ موائه قادمًا من أمام المطبخ، فتهرع من فراشها، وتنير المصباح، وتخرج إلى فناء الدار، لكنْ لا أثر لمنشول.
بعد أسبوع مؤرّق من نفي القطّ، قصدتْ هالة الجبّانةَ الواقعةَ في أقصى المدينة لزيارة قبر حبيبها. كانت الظلمة ما تزال قائمة. وكان المكانُ موحشًا بسكونه القاتل، وأرماسِه البيضاء الناصعة المبعثرة كالزوارق في اليمّ.
على بعد مترين من الصفصافة الكبيرة بدا قبرُ الحبيب. وفجأةً، تحرّكتْ ريحٌ خفيفة، فحفّت كلُّ النباتات هامسةً بقدوم زائرٍ غريب. تقدّمتْ هالة نحو مرقد حبيبها. وكلّما تقدّمتْ كان الهواءُ يحمل إليها رائحةً نتنةً. رفعتْ كفّيْها لتلاوة الفاتحة، لكنّها عجزتْ عن النّطق. بقيتْ شاخصةً صامتةً، يرتجف كفّاها، وصاحت منتحبةً غيرَ مصدّقةٍ ما رأت: منشــــــــول!
تونس