لا شك في أنّ روايات غسان كنفاني رواياتُ أفكار. ولهذا، يمكن تلخيصُ أيٍّ من رواياته بجملةٍ أو جملتين يبني عليهما روايتَه.
خذْ مثلًا رواية ما تبقّى لكم (1966). عنوانُ هذه الرواية هو مضمونُها تقريبًا. فهي تقول لنا: لم يبقَ لكم إلّا السكّين، أي المواجهة؛ وبطلُها (حامد) وُضع في موقعِ مَن لم يبقَ أمامه إلّا المواجهة، فخاضها.
هذه الرواية كانت، في الواقع، ردَّ غسان على روايته السابقة، رجال في الشمس (1963)، التي يمكن، هي الأخرى، اختصارُها بجملةٍ واحدةٍ لا غير: "لماذا لم يدقّوا جدرانَ الخزّان؟" وعليه، فإنّ كلَّ ما فعله بطلُ ما تبقّى لكم هو أنّه دقّ جدران الخزّان. لقد أحضره غسّان ليدقّ جدرانَ الخزان، فيردّ، من ثمّ، على روايته السابقة.
أمّا رواية عائد إلى حيفا (1969)، فيمكن اختصارُها بجملةٍ واحدة هي أيضًا: "الإنسان قضيّة." وإذا أردتَ أن تزيد كلمةً أو كلمتين على هذه الجملة، فيمكنك أن تقول: الإنسان بقضيته لا بمولده.
لكنّ فرادة غسان تكمن هنا تحديدًا: في قدرته على خلق روايةٍ مكتملةٍ من فكرةٍ مكوّنةٍ من سطرِ واحد. وهذا السطر يكون، في ما يبدو لي، استخلاصًا توصّل إليه غسّان بتجربته، أو توصّلتْ إليها التجربةُ العامّةُ نفسُها، لكنّه (أيْ هذا السطر) يكون في حاجةٍ إلى قصّةٍ قادرةٍ على حمله. لهذا، كان همُّ غسان البحثَ عن مثل هذه القصّة. وكانت عينُه وأذنُه يقظتيْن، تفتّشان عن مثل هذه القصص، التي كان يعثر عليها في صحيفة أو في خبر يتناقله الناس.
خذ مثلًا: القصة البدئيّة التي انطلق منها في رجال تحت الشمس. فقد كانت خبرًا قرأه في جريدةٍ عن عدد من الفلسطينيين الذين اختنقوا في خزّان ماءٍ على الحدود العراقيّة ــــ الكويتيّة. وقد وضع غسان دائرةً بالأحمر حول الخبر، الذي صار روايةً في ما بعد.
أمّا عائد إلى حيفا فقد انطلقتْ من خبرٍ تداوله الناسُ عن أمٍّ نسيتْ طفلَها في البيت من شدّة الخوف والاضطراب لحظةَ الهرب من التقدّم الإسرائيليّ، وهي لحظةٌ تحوّلتْ إلى هجرةٍ دائمة كما نعلم.
كان غسان يلتقط مثلَ هذه القصص الصغيرة، والمخيفة أيضًا، ثم يبدأ بالعمل عليها. وما إنْ يمسك بقصّةٍ من هذا النوع حتى يكسوها باللحم، ويحوّلَها إلى رواية. لكنّ هذه الكسوة لا تتحوّل إلى ثرثرة أبدًا، بل تظلّ دومًا كسوةً متقشّفةً جدًّا. وهذه مأثرةُ غسان الثانية: البعدُ عن الثرثرة. فالرواية عنده أقربُ ما تكون إلى الشعر، حيث التقشّفُ والاختصارُ هما سيّدا الموقف.
بالطبع، لم يعد التقشّفُ سائدًا اليوم؛ فالرواية الآن، في معظمها، ثرثرةٌ لا نهاية لها.
***
لكنْ، علينا أن نقول إنّ بدء الرواية بفكرةٍ من سطرٍ واحد قد يحوِّل القاصَّ إلى إلهٍ ما. فلكي تتحقّق هذه الفكرة فإنّ هذا القاصّ يَدفع ببطله في الطريق التي يريدها (هذا القاصُّ)، غيرَ عابئ بتظلّمات البطل وتفلّتاتِه.
فقد قاد غسّان، مثلًا، أربعةَ أشخاص في الخزّان إلى حتفهم على الحدود الكويتيّة ــــ العراقيّة، كي يوصلوه إلى الجملة الحاسمة، أو الاستخلاص الكبير في رجال في الشمس: "لماذا لم يدقّوا جدرانَ الخزان؟" وهذه، في الواقع، هي جملةُ غسّان، لا جملةُ أبي الخيزران؛ لكنّ غسّان اضطرّ إلى وضعها على لسان البطل المضادّ (أبي الخيزران) لأنّ الكلّ أضحوْا موتى.
حامد أيضًا دُفع إلى المواجهة دفعًا في ما تبقّى لكم. فغسان ليس روائيًّا فقط، بل هو داعيةٌ أيضًا، لكنّ هذا الداعية لم يكن يخطب بل كان يمارس الرواية. كان يدعو عبر فنٍّ يتقنه جيّدًا. وهنا مأثرتُه الثالثة: فقد كان يكتب أدبًا دعاويًّا، لكنّه كان يكتبه روائيًّا. وهذه ليست باللعبة السهلة أبدًا؛ فما من أحدٍ مثله كتب أدبًا دعاويًّا من دون أن يَسقطَ في الدعاية.
فلسطين