"إذا أردتَ أن تتذوّق الكمّثرى، فلا بدّ من أن تأكلَها بنفسك. وإذا أردتَ أن تَعرف النظريّةَ والتطبيقَ لأيّ ثورة، فعليكَ أن تشارك في تلك الثورة؛ ذلك أنّ كلّ المعرفة الأصيلة تأتي من الخبرة المباشرة" (ماو تسي تونغ)
في مثل هذه الأيّام قبل مئة عام، وقف لينين بين رفاقه ليقرِّر أنّ الوقت قد حان للانتفاضة، وإلّا فإنّ تأجيلَها سيعني الموت! وعلى الأثر تحرّكتْ وحدةٌ من خمسة آلاف بلشفيّ. ومع حلول الفجر تمكّنوا من السيطرة على معظم الأبنية الإستراتيجيّة في سان بطرسبرغ، من دون أيّة مقاومةٍ تُذكر. حينها، ختم لينين بيانَ الثورة الأوّل، مطمئنًا الناسَ إلى أنّ السلطة الآن هي في يد "السوفييت،" وصدح بالشعار التاريخيّ: "عاشت ثورةُ العمّال والجنود والفلّاحين."
تلك الأيّام كانت استثنائيّةً في تاريخ روسيا؛ فقد كانت النظريّة الثوريّة على محكّ التطبيق بناءً على خصوصيّة الواقع والظرف الموضوعيّ للثوّار المنتفضين على القيصريّة الروسيّة وحكمِ نيقولاس الثاني. لكنّ الثورة الروسيّة مهّدتْ أيضًا لقيام قوّةٍ عظمى وكتلةٍ تاريخيّةٍ غيّرتا وجهَ العالم. فما لبثتْ هذه الثورةُ أن أرخت بظلالها على أماكن كثيرةٍ من العالم، خصوصًا تلك التي تقع شعوبُها تحت سطوة الاستعمار وأطماعِه. وانتشرت الحركاتُ اليساريّة والأحزابُ الشيوعيّة والاتحاداتُ والنقاباتُ العمّاليّة والمهنيّة، وتطورتْ أساليبُ نضالها لمواجهة الهجمة الرأسماليّة على شعوب الجنوب الثائر بشكل خاصّ.
في هذه الأثناء كانت إمبراطوريّةُ الاستعمار، بريطانيا، قد وَعدتْ بإقامة "وطن قوميّ لليهود في فلسطين" من خلال رسالة صديق الصهيونيّة الحميم، آرثر جيمس بلفور، في 2 نوفمبر 1917، إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد. ولكنْ، بعد أيّامٍ من إعلان الوعد، وبناءً على مرسوم السلام الذي وقّعه لينين، والقاضي بإلغاء جميع الاتفاقات السرّيّة التي وقّعتْها الحكومةُ القيصريّة، أعلن البلاشفةُ نصَّ اتفاقيّة سايكس ــــ بيكو. وبعد ثلاثة أيّام ترجمتْ صحيفةُ مانشستر غارديان النصَّ ونشرتْه، فعرف العالمُ بمعاهدات تقسيم الإمبراطوريّة العثمانيّة،[1] ما رفع من شعبيّة لينين وحزبه والاتحادِ السوفييتيّ في المنطقة العربيّة.
(لينين مخاطبًا جماهير ثورة أكتوبر)
في العام 1922 وصل وولف أورباخ، اليهوديُّ الروسيُّ، الملقّبُ بأبي زيام أو حيدر، إلى فلسطين، وذلك بقرارٍ من الكومنترن، لتأسيس الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ، الذي امتدّ نشاطُه إلى سوريا ولبنان،[2] وتشكّلتْ نواتُه من أغلبيّةٍ يهوديّة. في هذا الوقت، كان المشروعُ الصهيوني ماضيًا في إنشاء بناه المادّيّة على الأرض، وفي استكمال مخطَّطاته لاستقدام المهاجرين اليهود من أنحاء العالم كافّةً ليصبحوا ــــ موضوعيًّا ــــ جزءًا من المشروع الاستيطانيّ الصهيونيّ بمجرّد وصولهم إلى فلسطين.
في الفترة التي تلت العامَ 1917 مباشرةً، ساد اعتقادُ بين الشيوعيين مفادُه أنّ مستقبلَ ثورتهم يكمن في الثورة الاجتماعيّة في البلدان الرأسماليّة المتقدّمة، وبخاصّةٍ أوروبا، لا في ساحات الكفاح من أجل التحرّر من التبعيّة والاستعمار. مبعثُ هذا الاعتقاد هو تنبّؤ ماركس باندثار القوميّات عندما قال: "ليس للعمّال وطن؛ إنّ الفوارق القوميّة والتناقضات بين الشعوب تتلاشى يومًا بعد يوم، ويَدفع إلى ذلك تطوّرُ البرجوازيّة وحريّة التجارة والسوق العالميّة ووحدة نمط الإنتاج وظروف الحياة المتماشية معه."
هذا الاعتقاد انسحب على الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ بطبيعة الحال، إذ كان يتلقّى تعليماتِه مباشرةً من الكومنترن، الذي لم يرَ في الصراع بين العرب واليهود مواجهةً استعماريّةً، بل اعتبر أنّ للمهاجرين اليهود إلى فلسطين حقوقًا مساويةً لحقوق السكّان الأصليين. وهنا كان مكمنَ الخلل في هذه المسألة: فقد جرى تناولُ محدّدات الصراع الوطنيّ في بلادنا على أساس تجارب بلدان أوروبيّة كانت قد خرجتْ منذ زمن بعيد من مرحلة تشكيل الهويّة القوميّة، وتشكّلت التناقضاتُ الداخليّةُ فيها على أساس الهويّات الطبقيّة ــــ لا القوميّة أو الإثنيّة.
على قاعدة النضال الطبقيّ (لا القوميّ) المشترك، إذن، بدأ الشيوعيون عملَهم في فلسطين. فركّزوا على الحاجات الاجتماعيّة والاقتصاديّة "المشتركة" بين العرب واليهود، "باستثناء عملاء الاستعمار البريطانيّ" من الجهتين. ورفضوا فكرةَ أنّ اليهود كتلةٌ غيرُ متمايزة، وأنّهم جزءٌ من المشروع الصهيونيّ. وهذا اعتقادٌ يعبّر، في رأيي، عن سذاجة أعضاء الحزب العرب.
ففي العام 1948 اجتمعتْ جماعاتٌ شيوعيّةٌ يهوديّة على دعم إقامة الدولة اليهوديّة ضمن الحدود التي رسمتْها مقترحاتُ التقسيم الصادرة عن الأمم المتحدة.[3] المثير في الموضوع أنّ المهاجرين اليهود، قبل تأسيس الحزب الشيوعيّ الفلسطينيّ، كانوا قد بدأوا بتأسيس منظّمة عمّاليّة عبريّة سُمّيت "الهستدروت،"[4] وتتناول الحاجاتِ الاجتماعيّة والاقتصاديّة بواجهةٍ "يساريّة،" ولكنْ بمنطلقات وأهداف قوميّة صهيونيّة استيطانيّة بحتة. وأصبحتْ هذه المنظّمة، فيما بعد، موازيةً للحكومة الإسرائيليّة في ثقلها وتأثيرها.
قصورُ الشيوعيين الفلسطينيين آنذاك في تقدير الموقف وتحديدِ سبل المواجهة يَظْهر، على سبيل المثال، في موقفهم من ثورة البُراق سنة 1929 ومن الغضب الشعبيّ الذي عمّ أرجاءَ فلسطين. فقد كان من الواجب حينها أن يَطرح الشيوعيون العرب السؤالَ على أنفسهم: هل يمتلك "رفاقُهم اليهود" الاستعدادَ لأن يكونوا إلى جانبهم في مثل هذه المواجهة؟ الجواب: بالطبع لا؛ فأحدُ أهداف أولئك "الرفاق" كان إيهامَ العالم بأنّ ما يتمّ العملُ على إقامته في فلسطين هو مشروعٌ "اشتراكيّ،" لا مشروعُ استيطانٍ وتطهيرٍ عرقيّ.
بعد قيام الكيان الصهيونيّ، قرّر الشيوعيون العرب في شمال فلسطين الانضمامَ إلى الدولة اليهوديّة، من خلال دعوتهم أهالي الجليل إلى المشاركة في الانتخابات البرلمانيّة. وسبق ذلك ما أشيع عن تورّط الحزب الشيوعيّ في صفقة الأسلحة التشيكيّة الضخمة التي قُدّمتْ إلى "إسرائيل" في العام 1948، بإيحاءٍ من الاتحاد السوفييتيّ، وكانت مصدرَ فخرٍ واعتزاز لكونها أداةَ حسم المعركة لصالح قيام دولة الكيان.[5] وفي خطاب توحيد الشيوعيين في الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ لم ينسَ إميل حبيبي ــــ الذي أصبح عضوًا في الكنيست فيما بعد ــــ الإشادةَ بدور "عصبة التحرّر الوطنيّ" في دعم المجهود الحربيّ الإسرائيليّ في الحرب ضدّ "الاستعمار والرجعيّة العربيّة"!
أسئلة كثيرة طُرحتْ حول التجربة الشيوعيّة في فلسطين: بدءًا بتأييد الشيوعيين الفلسطينيين قرارَ التقسيم (القرار 181)؛ مرورًا بقرار "عصبة التحرّر" مقاومةَ الجيوش العربيّة على الأراضي الفلسطينيّة؛ وفيما بعد قرار الانضمام إلى الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ؛ والمشاركة في انتخابات الكنيست الصهيونيّ سنة 1949، أيْ بعد سنة من قيام دولة الكيان على أرض شعب فلسطين؛ إلى مطالبة القياديّ في الحزب، توفيق طوبي، رئيسَ الحكومة الإسرائيليّة سنة 1949 بفتح باب التجنيد أمام العرب في الجيش الإسرائيلي (لحسن الحظ أنّ بن غوريون رفض هذا الطلب!).
وإلى يومنا هذا يصرّ كثيرون من أبناء هذه التجربة على إدراجها تحت إطار "المطالبة بحقوق المواطَنة." ومن هؤلاء: النائب في الكنيست الصهيونيّ محمد بركة، الذي ذهب معزِّيًا في قتلى جنود صهاينة في عمليّة نفّذتها المقاومةُ الفلسطينيّةُ على أبواب المسجد الأقصى؛[6] ومنهم، كذلك، النائبُ في الكنيست الصهيونيّ، عايدة توما، التي شاركتْ مؤخّرًا في يومٍ دراسيّ عقده "مركزُ أبحاث الأمن القوميّ" الصهيونيّ الساعي إلى صياغة العقيدة الأمنيّة والإستراتيجيّة لـ"إسرائيل."[7]
***
بعد نكسة حزيران 67، وعلى قاعدة أنّ الشعوب هي التي يجب أن تشكّل المحرِّكَ الأساسَ للنضال ضد الإمبرياليّة و"إسرائيل،" جاءت الجبهةُ الشعبيّة لتحرير فلسطين بمنطلقاتٍ قوميّة اشتراكيّة. وفيما بعد استرشدتْ بالنظريّة الماركسيّة، وبمقولاتٍ أهمُّها: "فهمُ الخصوصيّة" و"الحربُ الشعبيّة الطويلة الأمد." وكانت العلامة الفارقة في هذه التجربة اليساريّة الثوريّة هي الكفاح المسلّح، لكونه أرقى أشكال النضال بحسب أدبيّات "الجبهة." كما وضعتْ هذه الأدبيّاتُ الشرطَ الاستعماريَّ على رأس سلّم أولويّات عملها، والتأكيد على أنّ التناقض الرئيس هو مع الاحتلال وأعوانِه وأدواته، مع ضرورة العمل على التحرّر الاجتماعيّ في سياق العمل الكفاحيّ.
مستندةً إلى قواعد حرب العصابات التي صاغها القائدُ الشيوعيّ ماو تسي تونغ، بدأت الجبهةُ الشعبيّة عملَها الكفاحيّ بضرب العدوّ من الخلف، وإنشاءِ قواعدَ للثورة بتركيز العمل العسكريّ على الحدود الأردنيّة المحاذية لفلسطين المحتلّة، مع التشديد على نقل الأسلحة وتثبيت وجود الجبهة الشعبيّة داخل الأراضي المحتلّة حيث كان قد بدأ العملُ هناك.[8] وعمدت "الجبهة" إلى توسيع رقعة الاشتباك،[9] تحت شعار "وراء العدوّ في كل مكان،" فأبدع "جهازُ العمل الخارجيّ" بقيادة وديع حدّاد في ضرب العدوّ ومصالحه. كما استطاعت الجبهة استقطابَ الثوريين من كافّة أنحاء العالم على قاعدة النضال الأمميّ ضدّ الإمبرياليّة. ناهيكم عن تجربة حرب العصابات في أواخر الستينيّات وأوائل السبعينيّات في قطاع غزّة، وكان عضوُ المكتب السياسيّ للجبهة الشعبيّة، الشهيد محمد الأسود (جيفارا غزّة)، عنوانَها؛ فضلًا عن إسهام "الجبهة" الرئيس في الانتفاضة الجماهيريّة الأولى.
(ضريح الشهيد محمد الأسود "غيفارا غزة")
إلى أن جاء اتفاق أوسلو، الذي رفضته "الجبهة،" لكنّ دورَها لم يرتقِ إلى تطلعات الجماهير المنتفضة. على العكس: وقع العديدُ من كوادر هذا التنظيم في فخّ المشهديّة والمكتبيّة والعمل فوق الأرض. وهذا نقدٌ تسجّله هذه الجماهيرُ على الجبهة الشعبيّة وفصائلِ اليسار الأخرى. وفي هذا السياق لا يمكننا تجاهلُ الضربات الكبيرة التي كانت أجهزةُ الأمن الصهيونيّة، ولا تزال، توجّهها إلى "الجبهة" بشكل مستمرّ، من أجل ضمان عدم نهوضها مرّةً أخرى.
***
الآن، ونحن نحتفل بمئويّة ثورة أكتوبر، تواجهنا أسئلةٌ كبيرة وملحّة، من قبيل: اليسار الفلسطينيّ إلى أين؟ وهل وقف وقفةً حقيقيّةً أمام العوامل التي أدّت إلى تراجعه؟! وأين هو من التحوّلات الدوليّة والإقليميّة؟! وما أسباب انقسامه على نفسه في موقفه من قضايا الإقليم، ومن الحروب التي تشنّها أمريكا و"إسرائيل" وأنظمةُ الرجعيّة العربيّة لضرب ظهر المقاومة وإشغال الشعوب العربيّة بالحروب الطائفيّة والدينيّة والعرقيّة؟ وأين بُنى اليسار المادّيّة في فلسطين؟! أين مؤسّساتُه التعليميّة، وهو الذي كان يرفع دومًا شعار "تعليم ديمقراطيّ لكلّ الناس"؟ وما هو موقعه من الحيّز الثقافيّ؟ وأين هو من قضايا الناس الحقيقيّة؟
إنّ الأحداث على الساحة الفلسطينيّة والإقليميّة والدوليّة تمنح قوى اليسار القوميّ، والجبهةَ الشعبيّةَ بالتحديد، لحظةً تاريخيّة. فقد فشلتْ أنظمةُ الرجعيّة العربيّة والبرجوازيّة الكبيرة والكومبرادور في برامج التسوية و"السلام" ــــ ما فاقم الأزماتِ الاقتصاديّة والاجتماعية، وأنهك قوى الجماهير الفاعلة. ومن ثمّ وجب على قوى اليسار القوميّ التقاطُ هذه اللحظة والنهوضُ من جديد، وبناءُ أدوات العمل الفكريّ والنضاليّ على جميع المستويات.
إنّ النظرة اليوم إلى ثورة أكتوبر في سياق القضيّة العربيّة الفلسطينيّة، وفي سياق أثرِها في اليسار الفلسطينيّ، تستوجب قراءةً نقديّة حقيقيّة، بعيدًا عن التكرار وجلْد الذات. وهذه القراءة ينبغي ألّا تقتصر على أهداف العودة والتحرير، وإنما تعمل أيضًا على ترسيخ قيم العدالة الاجتماعيّة والاشتراكيّة الإنسانيّة. ذلك لأنّنا لن نستطيع مواجهةَ المشروع الصهيونيّ وأدواتِه، والانتصارَ عليها جميعِها، من دون تشكيل كتلة تاريخيّة تقدّميّة ومشروع إنسانيّ قوميّ ثوريّ نقيض.
فلسطين
[1]. عبد المطّلب العلمي، رسالة خاصّة، 2017
[2] موسى البديري، شيوعيون في فلسطين: شظايا تاريخ منسيّ (رام الله: مواطن، 2013)، ص 23.
[5] عادل مناع، نكبة وبقاء، حكاية فلسطينيين ظلّوا في حيفا والجليل (1948 – 1956) (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2016)، ص 180.
[8] جورج مالبرونو، جورج حبش، الثوريون لا يموتون أبدًا (بيروت: دار الساقي، 2009) ص 75.