عائد الى حيفا: الحق في المفهوم الثوري (ملف)
09-07-2018

 

 

في خطاب عن الاستعمار،(1) يبيّن ايمي سيزير أنّ معرفة المستعمَر أنّ المستعمِر يكْذب قوّةٌ للأوّل على الثاني لأنّها تكسر قدسيّةَ "الحقيقة" الممأسَسَة. صحيح أنّ نضالَ المستعمَر لا يسعى إلى إقامة حقيقةٍ مطلقةٍ أخرى، غير أنّه يقوم على وقائعَ معيّنةٍ ترتبط بالحقّ... لكنْ ليس بالمعنى القانونيّ المرتبطِ بالتملّك والفرديّة في سياق ظهور القيم والممارسات الرأسماليّة (كما ورد عند ماركس في المسألة اليهوديّة). ففي ثورات المستعمَرين، يكون الحقُّ مفهومًا بمعناه الأخلاقيّ: أيْ بمعنى الأصيل، والثابت، والصحيح، وغير المُضِرّ بالآخرين.

نضالُ الفلسطينيين هو نضالُ حقٍّ لا يمكن تعريفُه أو تأطيرُه "قانونيًّا"؛ ذلك لأنّ القانون هو المؤسّسة التي شرّعتْ سلبَ فلسطين أصلًا، مثلما شرّعت الاستعبادَ في مستعمَرات الأمريكيتيْن من قبل. وقد سبق لكلود مكاي أن رأى أنّ الإنسان الأسْود لا يمكن أن يكون جزءًا من نمط حياةٍ يقوم على مؤسّسات العدالة والقانون: فالعدالةُ "عاهرةٌ يرافقُها ويعانقُها كلُّ قوّادٍ متحضِّر،"(2) والقانونُ محضُ مؤسّسةٍ وعظيّةٍ تبرِّر الاضطهادَ وتشرعنه. لكنّ رفض مكاي لتلك المؤسّسات لا يرجع فقط إلى كون السود ضحاياها، بل لأنّها أيضًا أدواتٌ للإدانة الأخلاقويّة لا غير، في حين أنّ "الحياة أروعُ للاستمتاع من أن نَدينها؛ اتركوا الإدانةَ للكائنات الأخلاقويّة الضئيلة التي خلقتها العدالةُ ’المتحضِّرة‘!"(3) وفي هذا الصدد أيضًا يقول ماو تسي تونغ إنّ المعيار الوحيد للحقيقة هو "الممارسة الثوريّة لملايين الناس."(4)

***

رواية كنفاني، عائد إلى حيفا (1969)، تطرح قضيّةَ الحقّ في أكثر صورها تعقيدًا. ففي حين يَرفض كنفاني أيَّ تأطيرٍ قانونيّ أو وعظيّ لقضيّة الفلسطينيّ المقتلَع من أرضه، نجده يصرّ على مفهوم الحقّ الذي يحمله الفلسطينيُّ بنفسه، ويحقّقُه بنفسه، ويكون وحده المسؤولَ عنه.

غير أنّ فيصل درّاج رأى أنّ كنفاني يضع القضيّةَ الفلسطينيّة ضمن مساحة التاريخ المفتوحة بحيث "تمتثل إلى الصراع المادّيّ ولا تلتفت إلى الذكريات والأماني،" سماتِ حياة البرجوازيّ المهزوم الذي يحاول الالتفافَ على المواجهة. ولكنّ تفاصيلَ الأشياء المفقودة لا تني تعيد الفلسطينيَّ إلى حتميّة المواجهة مع الاحتلال. لقد كانت استحالةُ الحوار مع المحتلّ، أو استحالةُ أن يدرك الفلسطينيون أنّهم محضُ "ضيوفٍ" في وطنهم، هي التي أمْلتْ على سعيد س. ذلك التركيزَ على البحث عن تفاصيل البيت القديم. سؤالُ سعيد س. عن الريشات الناقصة، أو بحثُ صفيّة عن ولدها المفقود، يبيِّنان عبثيّةَ السؤال عمّا ضاع في الماضي؛ فتحتَ غبار الذاكرة لا شيء سوى الغبار.

كنفاني، إذن، رفض التمسّكَ بتفاصيل الأشياء المفقودة أساسًا للنضال. لكنّ درّاج "مطّ" نقدَه لهذا الرفض بحيث شمل كلَّ ما هو حقّ. وبهذا يكون درّاج قد اتّبع، هو نفسُه، منطقًا برجوازيًّا في نقده لمفهوم "الحقّ" عند كنفاني. فوفقًا له، رفض كنفاني "بداهةَ الحق"؛ فالحقّ في فلسطين، كما الحقُّ في الأشياء المفقودة، لا يقوم على مبدأ الوراثة، بل على القتال من أجل الفوز بها. ووفقًا لقراءة درّاج، فإنّ "العربيّ المهزوم" يتعلّم من عدوّه أنّ الوطن ليس "حفنةً من ذكريات،" وأنّ "مَن لا يُحْسن القتالَ عن أرضه لا أرضَ له،" وأنّ الطفلَ هو "مِن حقّ الطرف الذي تَعهّده بالرعاية، لا مِن حقّ الطرف الذي أنجبه."(5)

بكلامٍ آخر، فإنّ درّاج، مثلَ سعيد س.، يقيم معادلةً بين فلسطين والأشياء المفقودة التي لا تُمْكن استعادتُها، ليستنتجَ أنّ نصّ كنفاني يعرِّف النضالَ من أجل فلسطين على أنّه نضالٌ من أجل الملْكيّة، وعلى أنّه نضالٌ يقوم على منطق القوة على حساب مفاهيم الحقّ والباطل. بيْد أنّ هذا الاستنتاج يقوم على فصل درّاج بين القتال والحقّ، وهو فصلٌ غيرُ موجود في الرواية. فبالنسبة إلى كنفاني، كما إلى ماو، لا يمكن أن يكون هناك حقّ في معزلٍ عن إرادة القتال من أجله.

وفي المقابل، يتأمّل عبد الرحمن منيف كلماتِ سعيد س. إلى محتلّيْ بيته، ميريام وزوجِها، في نهاية الرواية: "تستطيعان البقاءَ موقّتًا في بيتنا؛ فذلك شيء تحتاج تسويتُه إلى حرب." يرى منيف في هذا الكلام إنهاءً للمفهوم السلبيّ للوطن كـ"إرث،" وتقديمًا لمفهومٍ آخر، إيجابيّ، للوطن في اعتباره حقًّا يتطلّب القدرةَ على الدفاع عنه.(6) بهذه القراءة، يكون الإصرارُ على المطالبة بالحقّ ضمانًا على أنّ القوة العمياء لا يمكنها "أن تَفرضَ شروطًا إلى ما لا نهاية،" ومن ثمّ لا يكون التاريخُ (كما يقول كنفاني على لسان أحد أبطاله) "حدثًا سيّئَ الحظّ دائمًا."(7)
 

***

في الرواية، يكتشف سعيد س. لاجدوى الجدل حول الأسباب الحقيقيّة للهزيمة والخسارة؛ فالمهمّ في النهاية هو حقيقةُ الهزيمة والخسارة. بهذا المعنى يمكننا أن نفهم مقولةَ سعيد إنّ دوف ليس ابنَه وابنَ صفيّة، بل مجرّدُ طفلٍ يتيمٍ وجده الصهاينةُ في بولندا أو إنجلترا. فالحال أنّه ليس ممكنًا إلغاءُ فقدان خلدون، أو إلغاءُ كونه تربّى في بيتٍ صهيونيّ وعاش حياةَ صهيونيّ، ليصبح ما هو عليه الآن: دوف. دوف لا يمكن أن يعودَ خلدون؛ فالإنسان (كما يقول كنفاني) "قضيّة،" وليس "لحمًا ودمًا يتوارثه جيلٌ وراء جيل مثلما يتبادل البائعُ والزبونُ معلَّباتِ اللحم المقدَّد."(8)

بهذا المعنى لا يكون الابنُ مِن حقّ مَن أنجبه؛ فالانسان جزءٌ من الحياة، وهو ــــ مثلَ الحياة ــــ ينمو بتمثّل بيئته. وليس هناك، بالنسبة إلى كنفاني، جوهرٌ بيولوجيٌّ يجعل الإنسانَ فلسطينيًّا أو صهيونيًّا. الإنسان هو ما يُزرَع فيه يومًا بعد يوم؛ إنّه في حالةٍ مستمرّةٍ من التحوّل من خلال ما يفعله. ودوف هو ابنُ مستعمِرٍ، يحارب في جيشٍ مستعمِر.

دوف هو الخسارة والهزيمة، الضعفُ والعار. وهو مَن سيواجِه سعيد س. بذلك كلِّه، فيعطيه "قائمةً" بما كان يجب عملُه وما لم يكن يجب عملُه، مستخدمًا خطابَ المستعمِر للوْم المستعمَر: فالمستعمَرون عاجزون، والمستعمَرون مقيَّدون بالتخلّف والشلل، إلى آخره. لكنّ هذه، في الحقيقة، ليست عمليّةَ تمثّلٍ للخطاب الاستعماريّ، بل مواجهةٌ مع الهزيمة والعار كما هما.

سعيد س. لا يجادل التمثّلاتِ الخاطئة. فما يقوله دوف يبقى ضمن محاولات المستعمِر تبريرَ أعماله الاستعماريّة. الردّ الوحيد الذي يعطيه نصُّ كنفاني هو أنّ "أكبرَ جريمة يمكن لأيّ إنسانٍ أن يرتكبَها، كائنًا مَن كان، هي أن يعتقدَ، ولو للحظة، أنّ ضعفَ الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكّل حقَّه في الوجود على حسابهم، وهي التي تبرِّر له أخطاءه وجرائمَه..."(9)

بكلامٍ آخر، فإنّ المستعمِر يقيم وجودَه على أساس وجود المستعمَر. وبلغة فانون، فإنّ إنهاءَ وجود المستعمِر لا يكون إلّا بإنهاء وجود المستعمَر.(10)

***

في مسرحيّة سيزير، عاصفة،(11) رفض العبدُ المتمرِّد (كاليبان) طاعةَ السيّد (بروسبيرو) من أجل الحصول على حريّته. الحوار، بالنسبة إلى الثائر، شأن الطاعة: كلاهما ليس طريقًا إلى الحريّة. وقد بيّن فانون أنّ الأمر في الجزائر لم يتعلّق بـ"جهل" جبهة التحرير الجزائريّة لكيفيّة الحديث مع المستعمِر الفرنسيّ، كما زعم البعض؛ كلُّ ما في الأمر أنّ الجبهة لم تهدفْ إلى الاكتفاء بتحقيق إزالة سياسيّة رسميّة للاستعمار عن الجزائر أو تخفيف بناه القمعية،(12) وإنّما كانت تسعى إلى الاستقلال، أيْ إلى "السيطرة الكاملة على المصير."(13) وعليه، فإنّ انتظار تعاطف المستعمِر يعني أن يكون الإنسانُ غيرَ راغب أو غيرَ قادر على القتال لتحرير نفسه.(14)

تلك كانت الفكرةَ الأساسَ في رواية كنفاني: الحقّ لا يقدِّمه كيانٌ أقوى، بل يُنتزَع في المعركة من أجله. ولذلك فإنّ سعيد س.، حين يعود إلى حيفا بإذنٍ من الاحتلال، يشعر أنّ المدينة تُنْكرُه، ويرى في قيام المستعمِر بفتح الباب أمرًا "مرعبًا وسخيفًا، وإلى حدٍّ كبير، مهينًا تماما"؛(15) كما يرى في قبول ذلك الفعل انصياعًا إلى سلطة المستعمِر وقبولًا بدونيّة المستعمَر.(16)

موقف كنفاني كما يتجلّى في الرواية هو الآتي: لقد كانت مغادرةُ الفلسطينيين لفلسطين خطأً، ولكنْ كان من الخطأ أيضًا العودةُ إلى فلسطين على طريقة سعيد س. موقف كنفاني هنا ليس مثاليًّا أو مطلقًا: فهو يروي حكايةَ الفلسطينيّ الذي أُجبر على مغادرة فلسطين، كما يروي حكايةَ اليهوديّ الذي تعرّض للاضطهاد النازيّ في بلاده قبل أن يَحتلَّ فلسطين. كنفاني، إذن، يحافظ على التعدديّة والفرديّة في كينونة كلٍّ من المستعمِر والمستعمَر، ولكنّه في النهاية يَحسم أنّ "خطأ زائدًا خطأً لا يساويان صحًّا."(17)

***

لقد كان مستحيلًا ألّا يخسرَ سعيد س.: فلقد غادر منزله، وكان ذلك خطأ؛ ولكنّه أخطأ أيضًا حين قبِل أن يعودَ بإذنٍ من الاحتلال، مرتضيًا لنفسه إذلالًا مضاعفًا وهزيمةً مضاعفة.(18) لقد كان حتميًّا أن تُنْكرَه حيفا، كما أنكره ابنُه دوف (خلدون سابقًا). فهناك جريمةٌ لم يُدفعْ ثمنُها بعدُ، هي جريمةُ الاحتلال أو الاستعمار. إنّ عجزَ سعيد س. عن القتال لا يبرِّر جريمةَ المستعمِر، ولكنّه لا يبرِّر أيضًا اتّخاذَ موقفٍ متخاذلٍ ومهزوم.

أن يكون المرءُ مهزومًا، أن يخسرَ حقَّه، فذلك، في رأي كنفاني، دَيْنٌ على الإنسان الحرّ أن يسدِّدَه، إذا لم يُرِدْ أن يتحوّلَ إلى عبدٍ مذْنب. وهذا السداد لا يكون إلّا  بالقتال. دوف، الابنُ المفقود، هو عارُ الفلسطينيّ الذي فقد أرضَه. لكنّ خالد، المقاتلَ من أجل المستقبل، هو الشرف الباقي.(19)

فلسطين المحتلّة

 

  1. Aimé Césaire, Discourse on Colonialism, trans. Joan Pinkham (New York: Monthly Review Press, 2000).  
  2. Claude McKay, Banjo (London: X Press, 2000), p. 229
  3. المصدر السابق، ص 238.
  4. “On New Democracy,” in Selected Works of Mao Tse-tung, vol. II (Peking: Foreign Languages Press, 1965), p. 339-340. www.marx2mao.com/PDFs/MaoSW2.pdf
  5. فيصل درّاج، "العار الفلسطينيّ في رواية غسان كنفاني،" المستقبل العربي، العدد 372، 2010، ص53.
  6. عبد الرحمن منيف، ذاكرة للمستقبل (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، والدار البيضاء: المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، 2001)، ص 82.
  7. غسان كنفاني، عائد إلى حيفا، ضمن الأعمال الكاملة، م 1 (بيروت: مؤسّسة الأبحاث العربيّة ومؤسّسة غسان كنفاني الثقافيّة، طبعة 1994)، ص 413.
  8. المصدر السابق، ص 411.
  9. المصدر السابق ، الصفحة ذاتها.
  10. Frantz Fanon, The Wretched of the Earth, trans. Charles Lam Markmann (New York: Grove Press, 2004).    
  11. Aimé Césaire, A Tempest, trans. Richard Miller (New York: Tcg Translations, 2002).
  12. Fanon, Toward the African Revolution, trans. Haakon Chevalier (New York: Grove Press, 1994). Press, 1994).
  13.  المصدر  السابق، ص 101.
  14.  ص 100.
  15.  كنفاني، مصدر سبق ذكره، ص 343.
  16.  م.س، ص 344.
  17.  م.س، ص 410.
  18.  م.س، ص 359-360.
  19.  م.س، ص 412.

 

 

 

 

اميرة سلمي

أستاذة مساعدة في معهد دراسات المرأة في جامعة بيرزيت. حصلتْ على شهادة الدكتوارة في الخطابة من جامعة كاليفورنيا ــــ بيركلي، وعلى شهادة الماجستير في النوع الاجتماعيّ والتنمية من جامعة بيرزيت. لها أبحاثٌ في مجال الدراسات الاستعماريّة: الخطاب الاستعماريّ، دراسات ما بعد الاستعمار، الكتابة المناهضة للاستعمار، الكتابة الأدبيّة الثورية في فلسطين وأفريقيا. كما كتبتْ عن الكتابة النسائيّة، والخطابات التنمويّة.