"ما تجرّصينا! بدّك تساوي فضيحة بالعيلة؟ بكرا بتِبْلي خَيّك أو بَيّك!"
عبارات أسكتتْني حين أردتُ قولَ الحقيقة.
كنتُ في التاسعة من عمري حين تعرّضتُ للتحرّش. ولم تكن تلك هي المرّةَ الأخيرة، بل تكرّرتْ مع تقدّمي في السنّ وبروزِ ملامحِ جسدي.
حين بدأتُ أعي ما حصل معي، قرّرتُ أن أرفعَ صوتي. لكنّ خشيتي من العقاب والمحاسبة جعلتني أختار الانتحارَ حين بلغتُ الرابعة عشرة.
لم أمت طبعًا، وها أنا أخطّ هذه السطورَ إليكم اليوم بعد سنواتٍ من التحفّظ.
لقد قرّرتُ أن أتكلّم وأن أواجِه.
***
أرعبتني أمّي بعباراتها الضعيفة والخائفة من ذنْبٍ لم أرتكبْه، ومن جريمةٍ أنا ضحيّتُها. كان همُّ أمّي، التي تربّت في بيئةٍ تقليديّة، أن "تَستر الفضيحة،" وأن "تحفظَ شرفَ العائلة،" المرتبطَ، في رأيها، بعذريّة بناتها قبل الزواج. و"الفضيحة" لم تقتصر على ذلك فقط، بل تعدّتها إلى هويّة المتحرِّش أيضًا:
إنّه زوجُ أختي، وأبو أولادها. وأنا خالتُهم!
لذا، ما كان من أمّي وأختي إلّا أن تمسّكتا بالكتمان خوفًا على زواج أختي من الانهيار، وخوفًا على "صيت" العائلة من أن يصيرَ "على كلّ لسان."
أمّا الصدمة التي عانيتُها، والأذى النفسيّ الذي لحِق بي، فلم يشغلا بالَ أحد. كان "الصيت" هو وحده الخطرَ المحدقَ بالجميع.
***
يقال إنّ الأقربين أوْلى بالمعروف. لكنْ، عن أيِّ "أقربين" أحدّثكم؟
عن ذلك الوحش الذي دخل عائلتَنا طالبًا القربَ من أختي الكبرى، ونجح في استغلال قلبها، فأصبح فردًا من عائلتنا، وامتلك ثقتَها من صغيرها إلى كبيرها؟ كان ينام في منزلنا، ويزورنا في أيّ وقت شاء. شارك إخوتي غرفتَهم، ولم يتوانَ في مضايقة أصغر أخواتي كلّما أتيحت له الفرصة!
***
كنتُ أجهد في البحث عن عذرٍ لهذا المجرم، وذلك حين عجزتُ عن تبرير تكتّمي على جريمته. فتارةً أقول إنّه مريض نفسيّ كي لا أُضمرَ له الكرهَ والعداء. وتارةً أخرى أقول إنّه حيوان لا يعرف ما يفعل؛ وحينها لا أستطيع أن أكظمَ غيظي، فأنهالُ عليه بدعوات الانتقام، راجيةً من الله أن يستجيبَ لدعواتي. وتارةً ثالثة أتمنّى أن تقتصّ منه عدالةُ الأرض لأنّني لم أعد قادرةً على انتظار عدالة السماء.
لماذا أبوح اليوم بما حدث لي؟
ألأنني أخشى على فتاةٍ غيري من أن تتعرّضَ لِما تعرّضتُ له؟
ألأنني أريد أن يعرفَ غيري مدى الألم الذي تشعر به الفتاةُ التي تعرّضتْ للتحرّش، أو مدى الألم من أن لا تجد أحدًا يساندُها في محنتها، بل يحاول أن يقْنعها بأنّ ما حصل لا "يستحقّ" ألمَها؟
أتذكّر أنّ أمّي وأختي خذلتاني. قد تتأقلم الفتاةُ مع جرح التحرّش، لكنّ الجرح الذي لا يلتئم مهما مرَّ الوقتُ إنّما هو جرحُ الخيانة الذي يصيبها من الأقارب الذين تركوها تصارع الألمَ وحيدةً.
لم تواجهْ أختي زوجَها. كلُّ ما فعلتْه هو أنّها أنجبتْ طفلًا ثانيًا منه، متوهّمةً تمتينَ علاقتهما بتكبير أسرتهما. ولكنّني أتساءل: كيف استطاعت أن تلمسَ مَن قتل البراءةَ في أختها الصغيرة؟ كيف تستطيع أن تشاركَه السريرَ كلَّ ليلة؟ أليس هذا أكبرَ من وجع التحرّش نفسه؟
زوجُ أختي مريضٌ حتمًا. لكنْ ما مرضُ أختي وأمّي؟ لماذا لم تقفا في وجهه؟ لماذا أجبرتاني على السكوت؟
***
بدلًا من أن أجد مبرِّرًا لصمتي، وعذرًا لمجرمي، صرتُ أبحث عن تبريرات لجبن أختي الكبيرة كي أحتفظَ على الأقلّ بحبّي لها؛ تبريراتٍ لم أقتنعْ بها إلى اليوم، وأحاول من خلالها توصيفَ أختي بـ"الضحيّة." صرتُ أقول لنفسي: لربّما خشيتْ أن يحرمَها زوجُها أولادَها فأُجبرتْ على البقاء معه، أو لربّما خافت من أن يطلّقَها إذا واجهتْه بفعلته معي.
يضجّ رأسي بعشرات التبريرات التي أوظّفها في خدمة أفعال الآخرين، لكنني لا أجد تبريرًا واحدًا يعلّل صمتي الذي احتميتُ به من عقاب العائلة وسيفِ المجتمع.
أأنا ضعيفة أمْ قويّة؟ جبانة أمْ شجاعة؟ ذكيّة أم غبيّة؟
كلّ هذه الأسئلة كانت تخطر في بالي حين أحاول أن أعلّلَ صمتي على ما حصل. قد أكون في نظر الكثيرين ضعيفةً لأنّني لم أتّخذ، حينها، خيارَ المواجهة. وكنتُ أقول لنفسي: فلأكن كذلك إلى حين يصير الآخرون أكثرَ تفهّمًا ونضجًا!
***
لم تمنعني هذه الحادثة من بناء الأسرة التي أحلم. بها ولم أخَفْ من أن أُخبر الشابَّ، الذي أصبح زوجي اليوم، بما حصل. وللمرّة الأولى أخالفُ نصيحةَ أمي التي حذّرتني من إخباره خشية أن يرفضَ الزواجَ منّي؛ فلا علاقة ناجحةً يمكن أن تُبنى على الكذب.
أنا اليوم أمٌّ لطفل. سأعلّمه أنّ جسدَه ملْكُه، وأنّ جسدَ أيّ فتاة ذو حرمةٍ لا يمكن انتهاكُها. سأعلّمه أنّ بعضَ تقاليدنا الاجتماعيّة بالية ورجعيّة ومزيّفة، كالمقولة المنحطّة "إنّ الشابّ لا يعيبَه شيء،" وكالمقولة المنسوبة إلى يوسف وهبي: "شرف البنت زيّ عود الكبريت ما يتولّعش غير مرّة واحدة!"
صحيح أنّ علاقاتي بالناس قلّت، وتراجعتْ ثقتي بالمحيطين بي، وفقدتُ الأمانَ في مجتمعٍ يحاكِم المظلومَ ويُنصِف الظالم. لكنّي وجدتُ رجلًا قادرًا على فهم وجعي، وتخفيف حالات الانهيار التي تنتابني حين أذْكر أنّ المجرمَ ما زال يعيش في بيتنا.
***
لم أستطع أن أضعَ حدًّا لما فعله زوجُ أختي، وللأسف أنّني ما زلتُ إلى هذه اللحظة أناديه كذلك. ومع أني لم أحظَ بالدعم الذي كنتُ أريدُه من عائلتي، فإنّ مواصلة الكتمان لم تعد مجديةً، بل راحت تقتلني رويدًا رويدًا. وفي المقابل فقد وجدتُ أنّ المواجهة تخفّف الكثير من الألم.
بيروت
*اسم مستعار. لبنانيّة. حائزة شهادةً في العلاقات العامّة. تعمل في مجال التسويق. مقيمة في الخارج.