في 28/1/2020 أعلنت الإدارةُ الأمريكيّة خطّةً لتصفية القضيّة الفلسطينيّة وتحويل الفلسطينيّين إلى تجمّعاتٍ مشرذمة، بما يتنافى مع حقوق الشعب الفلسطينيّ التاريخيّة. وقد رفض الفلسطينيّون هذه الخطّة جملةً وتفصيلًا، قيادةً وشعبًا.
على أنّ إعلانَ هذه الخطة لم يأتِ مفاجئًا. فالسياسات الغربيّة الاستعماريّة تهدف باستمرار إلى دعم دولة الكيان الصهيونيّ - - منذ إعلان المؤتمر الصهيونيّ الأوّل عام 1897 في مدينة بازل السويسريّة، مرورًا باتفاقيّة سايكس - بيكو (البريطانيّة – الفرنسيّة) عام 1916 التي نجم عنها فرضُ الانتداب على بلاد الشام وتقسيمُها، وإعلان وعد بلفور البريطانيّ عام 1917 بإقامة وطنٍ قوميٍّ لليهود في فلسطين.
أمّا الولايات المتّحدة، تحديدًا، فهي الشريكُ الأوّل لـ"إسرائيل" منذ لحظة إعلان الدولة عام 1948 إلى يومنا هذا. لكنْ قد تكون سياساتُ ترامب أكثرَ وضوحًا من سابقيه: فهو، على سبيل المثال، لا يكتفي باستخدام حقّ الفيتو في مجلس الأمن، بل يتنكّر أيضًا لقرارات مجلس الأمن والجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة، ويضرب بعرض الحائط مبادئَ القانون الدوليّ وحقوق الإنسان.
"صفقة القرن" هي، إذًا، تتويجٌ للسياسات الأمريكيّة الأخيرة، وتعكس دعمَ كلّ رئيس أمريكيّ سابق، أديمقراطيًّا كان أمْ جمهوريًّا، للكيان الصهيونيّ. وهي تتويجٌ أيضًا لسياسات ترامب نفسه في دعم هذا الكيان:
- فقد سبق أن اعترف بالقدس عاصمةً لـ"إسرائيل."
- واعترف بسيادة "إسرائيل" على الجولان السوريّ.
- واعتبر المستعمراتِ الصهيونيّةَ في الأرض المحتلّة عام 1967 شرعيّةً، خلافًا لقرار مجلس الأمن رقم 2334.
- وقطعتْ إدارتُه التمويلَ الأمريكيَّ البالغَ الأهميَّة عن وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيّين وتشغيلهم في الشرق الأدنى (الأونروا)،[1] بهدف تقويض عملها، ونقل مسؤوليّاتها إلى الدول المُضيفة.
- وألغت إدارتُه برامجَ الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدوليّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة - - وكانت أساسًا مرفوضةً من بعض الفلسطينيّين لاشتراطها تخلّيهم عن حقوقهم الوطنيّة العادلة وتجريم نضال الشعب الفلسطينيّ.
- كما أغلقتْ مكتبَ منظّمة التحرير الفلسطينيّة في واشنطن.
وفي المقابل، استمر الدعمُ الأمريكيّ لـ"إسرائيل،" سواء من خلال الكونغرس أو من خلال البرامج التنمويّة (مثل USAID).
استمر الدعمُ الأمريكيّ لـ"إسرائيل،" من خلال الكونغرس والبرامج التنمويّة
هذا مع العلم أنّ السياسات الأمريكيّة تجاه القضيّة الفلسطينيّة لا تختلف عن سياساتها تجاه باقي شعوب العالم المسحوقة، ومحاولتها إفشالَ أيِّ تجاربِ تحرّرٍ واستقلال. بل هي تفتعل الأزمات والحروب وتغذّيها في كلّ العالم. وقد يكون المثالُ الفنزويليّ هو الأحدثَ والأوضحَ في هذا المجال.
يجري ذلك في الوقت الذي تواصل فيه "إسرائيل" جرائمَ الحرب، والجرائمَ ضدّ الإنسانيّة، وتواصل انتهاكَ حقوق الفلسطينيّين أينما وجدوا، في غياب الرقابة والمحاسبة الدوليّتين وفق قواعد القانون الدوليّ، وأحيانًا بدعمٍ مباشرٍ وغيرِ مباشرٍ من بعض الدول العربيّة أو الغربيّة التي أبرمت اتفاقيّاتٍ اقتصاديّةً أو عسكريّةً معها.
كما أنّ "صفقة القرن" تنصُّ على عدم السماح للدولة الفلسطينيّة الجديدة بالتوجّه إلى محكمة الجنايات الدوليّة[2] من أجل محاسبة "إسرائيل" على جرائمها المستمرّة منذ اثنين وسبعين عامًا. وهذا انتهاك واضح وصريح للعدالة الدوليّة الجنائيّة.
على أنّ مواصلة التضييق على الشعب الفلسطينيّ من قِبل الولايات المتّحدة، وبموافقة بعض الدول العربيّة الرجعيّة، وبعض الدول الغربيّة (مؤخرًّا وضع الاتحادُ الأوروبيّ شروطًا لتمويل مؤسّسات المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ)، ليست إلّا جزءًا من نظامٍ عالميّ يتمثّل في الهيمنة الغربيّة الإمبرياليّة الاقتصاديّة على شعوب العالم. وبهذا، فإنّ "صفقة القرن" لا تهدف إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة فحسب، بل تستكمل أيضًا المطامعَ الاقتصاديّةَ في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسّط، وربْطَ آسيا بإفريقيا وأوروبا من خلال المصالح المشتركة مع "إسرائيل" والولايات المتّحدة؛ بالإضافة إلى محاربة أيّ حراكاتٍ ثوريّةٍ في المنطقة.
إنّ خطط "السلام" المزعومة منذ إعلان سياسة الجسور المفتوحة عام 1967، وحتى بداية التسعينيّات مع شرعنة اتفاقيّات أوسلو للاستعمار الصهيونيّ في غالبيّة فلسطين، وما تلا ذلك من اتفاقيّات بين "إسرائيل" وبعض الأنظمة العربيّة كمصر والأردن، لم تُسفرْ إلّا عن تفاقم أدوات الاستعمار وتجلّياته على الأرض.
إنّ الطموح الإسرائيليّ التوسّعيّ الكولونياليّ لن يكتفي بفلسطين فقط، بل يمتدّ إلى دول عربيّة وغير عربيّة أخرى. ولن ينقذ الشعوبَ المضطهَدة إلّا نفسُها، وتضامنُ الشعوب المضطهَدة الأخرى معها. أمّا نحن، الفلسطينيين تحديدًا، فعلينا بصورةٍ عاجلةٍ إلغاءُ "التنسيق الأمنيّ" مع العدوّ. وعلينا، من ثمّ، العملُ على الانفكاك الاقتصاديّ عنه. بل علينا إعادةُ النظر في السلطة الفلسطينيّة ذاتها؛ فهذه تمثّل سلطةً موقّتةً تمارس حكمًا ذاتيًّا، وقد انتهت فعّاليَّتُها القانونيّةُ أصلًا سنة 1999، وذلك بموجب شروط اتفاقات أوسلو نفسها.
وعلينا أيضًا إعادةُ النظر في تحالفاتنا، وتوسيعُ مساحات التعاون مع دولٍ وشعوبٍ أخرى، بحيث نحدِّد بأنفسنا مطالبَنا وحقوقَنا ثم نتوجّه بها إلى العالم، لا أنْ ننتظرَ من العالم أنْ يحدِّد لنا ما يراه هو "مقبولًا" و"منطقيًّا" و"عادلًا."
ختامًا، فإنّ خطّة ترامب ليست إلّا توصيفًا للوضع الراهن، وشرعنةً للمزيد من الانتهاكات والتوسّع الاستعماريّ والجرائم الإسرائيليّة. ومن ثم فإنّها لن تقابَلَ إلّا بالرفض الفلسطينيّ المتواصل، وبالإصرار على نهج المقاومة لإحقاق الحقّ وعودة اللاجئين وتقرير المصير.
فلسطين المحتلّة