تلك الخطوطُ التي تفصلُ الأشياءَ؛ الخطوطُ غيرُ المرئيّة، الغامضةُ، العصيّةُ، الأبديّة: لا لستُ أراها. منذ سبع سنوات توقّفتُ عن المحاولة، محاولةِ معرفةِ الفرق بين الأشياء في هذا البيْن - بيْن: بين أن تكونَ بطلًا قوميًّا، تُرفَعُ صورُكَ على الأكفّ وفوق الأعناق، ثمّ تغتالكَ الشُّهرةُ أو الموساد؛ وأن تكونَ مجرمًا اغتصبتَ فتاةً وهي عائدةٌ من مدرستها، أو فنّانًا رأيتَ الله على طريقتك.
لا أدري إنْ كنتُ الوحيدةَ التي زاغت بوصلتُها. لكنّني، منذ سُجنتَ، وأنا أسألُ نفسي عن معنى كثيرٍ من الأشياء التي خُضنا حروبًا من أجلها: أكانت محاولتُكَ تغييرَ أيّ شيءٍ في هذا العالم أجدى من أن تُعلِّقَ لي مرجوحةً في الحديقة؟ ما كان أغباكَ وأشدَّ عنادَكَ يا أشرف! اليوم، أعتقدُ أنّكَ كنتَ تتذرّع بأيّ شيء كي تبقى بعيدًا عنّي، كي تفصلَنا جدرانُ المسافات وبوّاباتُ السُّجون وعتمةُ المجهول.
لقد خذلك الجميعُ. ذلك الوطنُ - الذي عشتَ فيه منفيًّا، حين جرُّوكَ من قميصِكَ، ورَموْكَ في قبوٍ مظلمٍ تحت الأرض مع المجرمين والقتلة - بقي كلُّ شيءٍ فيه على حاله. أما زلتَ تصدّق أنّ كِتابًا يقرأه بعضُ مئاتٍ سيغيِّر تاريخَ أمّة؟ ما كان أشدَّ سذاجتكَ يا عزيزي!
كنتَ عائدًا من مبنى اتّحاد الكتّاب يومها. كانت الساعة الخامسةَ عصرًا، وقد أنهكتْكَ الاجتماعاتُ المطوَّلة. أرسلتَ إليّ تقول إنّهم لا يتّفقون على مَن سيتولّى رئاسةَ الاتّحاد؛ فكلُّ فصيلٍ يطالب بأن يكون الرَّئيسُ من كتلته، بعد أن تساوى عددُ المنتسبين من كلّ فصيل. "ليس الكتّابُ استثناءً يا عزيزتي." كنتُ قد سهرتُ على تنظيم المَحاضر، وإعدادِ مسوَّدةِ النظام الدّاخليّ، لياليَ بطولها تركتَني فيها. لكنْ، حين جرجرتْكَ الشّرطةُ، لم يقل أحدٌ منهم كلمة. صمت الجميع، وبقيتَ وحدَكَ تصرخ.
أذكرُ جيّدًا تلك الأيّامَ التي اضطُررتَ فيها إلى الهرب. كنتُ أطالعُ هاتفي كلَّ لحظة، علّ رسالةً منكَ تصل. ما إنْ صدرتْ مجموعتُك الثانية، وجهُ الله، حتّى صدر ذلك الحكْمُ، وكأنّه كان حُكْمًا جاهزًا. لم يستدعوك ويسألوك. لم يجرِّبوا الاستعانةَ بخبراءِ لغةٍ لتفسيرِ ما كتبتَ. قلتَ لهم: "يمكنكم أن تسألوا اللهَ إنْ كنتُ كافرًا به." فأهدروا دمَكَ.
بعدها بيومين، أُعلن أنّ مصطفى أبو شنب "فاز برئاسة الاتحاد."
بدا لي أبو شنب رجلًا مراوغًا. منذ رأيتُ صورتَه في الفيسبوك، على صفحة اتّحاد الكتّاب، مبتسمًا بين بقيّة الأعضاء بعد فوزه، شعرتُ أنّ ابتسامتَه تخفي دهاءً مرًّا. ثم قابلتُه لمصلحة الجريدة التي أعملُ فيها. ومنذ ذلك اليوم لم أتوقّفْ عن لقائه.
في البداية كنتُ أتهرّب منه، ثمّ راقت لي لعبةُ الإغواء التي كان يحاول أن يمارسَها. وشيئًا فشيئًا، وجدتُني أتلذّذُ بحبِّ ما أكرهُه. لقد خنتُكَ أنا كذلك، يا أشرف. سوّغتُ لنفسي خيانتي لك بأنْ زعمتُ أنّني أحاول أنْ أجدَ رابطًا بين اعتقالِكَ وترؤّسِ أبو شنب عضويّةَ الاتّحاد. لكنّني حين وجدتُ ذلك الرابط، وضعتُه في صندوقٍ ورميتُه في بحر النّسيان.
دخل مصطفى يستحمّ. عادةً ما يتأخّر، فيتركُ المياهَ تنساب فوق رأسه طويلًا. يقول إنّه يكتب أفضلَ نصوصِه وقتها. تناولتُ هاتفَه بحجّةِ مهاتفةِ إحدى صديقاتي ولا رصيدَ كافيًا لديّ. أعطاني الباسوورد وقال: "أغيّرُه لاحقًا، لا يهمّك." كان من بين الأرقام رقمٌ يتّصل به يوميًّا، لكنّ صاحبَه لم يُحفَّظْ في القائمة. فتحتُ صفحةَ المحادثات، فوجدتُ شبّاكَ المحادثة بينه وبين ذلك الرقم في أعلى الصفحة. فتحتُ الشبّاكَ، فوجدتُ اسمَكَ قد تُدووِل بين الأسماء.
كان أبو شنب يقترح أن تخفَّفَ العقوبةُ من الإعدام إلى السِّجن، وكان صاحبُ الرّقم (وهو لواءٌ في الشّرطة) يرفض ذلك. طال النِّقاشُ بينهما، حتّى كتب أبو شنب:
- سنثير ضجّة بلا فائدة. من سنين ونحن نفعل هذا، من دون أن تصل الأمور إلى الإعدام. يكفيه أن يتعفّن في قبو مظلم. لماذا تصرّون على إعدامه؟ ستقوم قيامة المنظّمات الحقوقيّة ولن تقعد. الرئيس يتابع موضوعَ أشرف. وهو، وإنْ أراد أن يعاقبَه على مواقفه، فإنّه لا يرغب في فتح جبهة جديدة. نحن نخوض حربًا على جبهاتٍ عدّة، ونحتاج أن نجمع الجميع من حولنا. ولو خفّفنا الحكم إلى السّجن، وعرف الجميع أنّ ذلك حصل بسبب تدخّلنا من أجل "ابن بلدنا،" فسيخفِّف ذلك مِن وقعِ ما فعلناه.
- لقد أصدر المفتي حكمَه. لن يكون سهلًا أن يتراجع. ولكنْ سنرى.
كان مصطفى قد أنهى حمّامَه. سمعتُ حمحمتَه خلف السّتارة، فأغلقتُ المحادثة وطلبتُ نجوى. دخل عليّ وأنا أخبرُها أنّني سأتأخّر عن الاجتماع. نظر إليّ، وطلب منّي الجهاز. أنهيتُ كلامي مع نجوى، وناولتُه إيّاه. كانت رسالةٌ قد وصلتْ. هزّ برأسه. عضّ على شفتيه. رمى الجهازَ على السَّرير وقال: "علينا أن نسرع. لديّ اجتماع طارئ."
لم أره بعدها شهرًا أو أكثر. في ذلك الوقت، حُكم عليكَ بالسّجن ثماني سنوات، وجُلدْتَ ثمانين جلدةً. قالت الأنباء إنّ محاكمتَك كانت شفّافة، وإنّك محظوظ لأنّ إدارةَ السّجن ستسمح لذويك بزيارتك. ارتحتُ إلى أنّك ستعيش.
حين انتهت زوبعةُ الانتخابات، هاتفني أبو شنب. قال إنّه يريد مقابلتي. حين التقينا عرفتُ منه أنّه أصبح منتدَبًا في إحدى الدُّول العربيّة كسفير، وأنّه مضطرّ إلى ترك رئاسة الاتّحاد، وأنّه اقترح اسمي بديلًا، وقد وافق الأعضاءُ بالإجماع.
لستُ أعرف كيف بدأتُ كلامي وأنا أريد أن أفسّر لك، يا أشرف، لِمَ لَم أستطع انتظارَك. لم يكن سهلًا أن أختارَكَ وأنت تختارُ الموت، أن أمضي السّنين في انتظار رجلٍ سيخرج حُطامًا. أردتُ أن أعاتبَكَ على تركي لأسبابٍ وطنيّةٍ تافهة. لم تتركْ في بيتي ولو صورةً لطفلٍ ورِث ضحكتَكَ العريضة. وانتهى الأمرُ بأن أخبرَكَ بأنّي قتلتُكَ بدمٍ بارد. لا أعرف إنْ كنتُ أكتبُ إليك لأنّني أحنُّ إليك، أمْ لأنتقمَ منك. ولكنْ يبدو لي أنّ كلّ شيء بين بين.
صيدا