لم تكن عشيّةُ 14/1/2011 لحظةً تونسيّةً فحسب، وإنّما كانت لحظةً عربيّةً أيضًا. فإثر هروب الرئيس التونسيّ الأسبق زين العابدين بن عليّ من قصر الرئاسة، حصلتْ متغيّراتٌ كثيرةٌ في المشهد التونسيّ، وسريعًا ما تجاوزتْه لتشملَ ساحاتٍ عربيّةً أخرى شهدتْ هبّاتٍ جماهيريّةً كثيرة. وقد يختلف موقفُنا من هذه الهبّات، لكنّ ما لا يمكن أنْ نختلفَ فيه بالتأكيد هو حقُّ الجماهير في استرداد حريّتها وحقوقها التي سلبتْها إيّاها الأنظمةُ المستبدّةُ والعميلة.
حريّة الإعلام كانت كبرى علامات استبداد هذه الأنظمة. وإذا نظرنا إلى تونس، فلن نستطيع إحصاءَ الانتهاكات ضدّ الإعلام والإعلاميين: من منع نشر الصحف، إلى لجم الأصوات الإعلاميّة المعارضة (مثل زهير اليحياوي).[1] وتبعًا لذلك، لم يكن تأثيرُ الإعلام كبيرًا في عمليّة التثوير وإشعالِ فتيل الانتفاضة التي انطلقتْ من مدن الداخل (سيدي بوزيد ومنزل بوزيان والرقاب وتالة والقصرين...) لتصل إلى شارع الحبيب بورقيبة. وكانت قيادةُ الحَراك الثوريّ تتشكّل من بعض الحقوقيين والمعارضين السياسيين، ومن المدوِّنين الشبّان الذين قاموا بـ"تدويل" الانتفاضة عبر مراسلاتهم اليوميّة الإلكترونيّة إلى وسائل الإعلام في الخارج؛ وهذا ما لم يستطع نظامُ بن علي مراقبتَه، بعد أنْ نجح في تنويم الإعلام التقليديّ الداخليّ الذي كان في صفّه حتى اللحظة الأخيرة.
أكشاك ممتلئة وأصوات متزايدة
غادر الديكتاتور تونسَ، وسقط نظامُه سقطةً واحدة، فتخلّص الإعلامُ من الكابوس المخيِّم عليه طويلًا. وبسرعةٍ مفاجئةٍ للجميع، انفلتت الأصواتُ والأقلامُ من قيدها، واكتظّت الصحفُ في رفوف الأكشاك والشوارع، حتى باتت تطالعكَ صحيفةٌ جديدةٌ كلَّ يوم.
وبالتوازي مع ذلك، تضاعف عددُ القنوات السمعيّة والمرئيّة. فهذه استغلّت تحرّرَ رجال الأعمال المتردّدين، واستغلّت حصولَهم على فرص إطلاق مؤسّساتٍ جديدةٍ بعد سقوط العائلة، التي كانت تترقّب أيَّ ظهور لمشروع إعلاميّ جديد كي تضمنَ ملْكيّتَها له وتبسطَ سيطرتَها عليه.
زهير اليحياوي، المعروف بلقب ''التونسيّ،'' هو أوّل ضحيّة لشرطة المعلوماتيّة في نظام بن عليّ
إذن تهاطلت الجرائدُ والمجلّاتُ والقنواتُ من كلّ حدب وصوب مرحّبةً بالثورة. فانتظر القارئ والمشاهد مادّةً ثوريّةً تتماشى مع شعارات حراك 17 ديسمبر - 14 يناير المُطالب بحقوق اجتماعيّة يوميّة بحتة، كالتشغيل والقضاء على المحسوبيّة والفساد، إلى جانب مطلب الحريّة.
لكنْ سرعان ما حادت العناوينُ الجديدةُ عن المطلوب، وسقطتْ في فخّ الفضائحيّة، في صراعات هويّةٍ مستحدثة لا تعكس الاستحقاقاتِ التي تأسّس عليها المسارُ الثوريّ، ولا تعبِّر عن حقيقة الواقع التونسيّ. بل إنّ كثيرًا منها ارتبط بحربٍ ناعمةٍ ومزيّفةٍ دارت، ولا تزال تدور، بين شقٍّ يمينيّ رجعيّ وآخر حداثويّ، وكلاهما لا يمتّ بصلة إلى قيم الأصالة أو الحداثة الحقيقيّتين. وتبيّن أنّهما كليهما يملك وسائلَ إعلاميّةً يخوض عبرها حربَه.
تدريجيًّا، تجلّى أنّ تلك الهبّةَ الإعلاميّةَ التي جاءت بمؤسّسات كثيرة لم تكن متعلّقةً بما هو إعلاميّ احترافيّ، بقدر ارتباطها بأجنداتٍ حزبيّة وسياسيّة معيّنة، وبطموحاتٍ انتخابيّة لأصحابها أو الراعين لها من رجال أعمالٍ مسكونين بالتوق إلى المناصب والتوزير. وهذا أدّى إلى صعود وهبوط عدد من القنوات التونسيّة بشكلٍ سريع، كقناة الحوار وتونس الإخباريّة وتونس العالميّة والمتوسّط. كما أنّ بعضها اشتراها الرأسماليّون الجدد ليتغيّر خطُّها التحريري تمامًا.
والدليل الأكبر على هذا الزواج الإعلاميّ - السياسيّ الفاشل هو موتُ أغلب تلك المؤسّسات الإعلاميّة بعد فشل القائمين عليها في أوّل استحقاق انتخابيّ، تلاه فشلٌ ثانٍ في انتخابات 2014. وبالتالي خمدت تلك الهبّةُ، وعاد الهدوءُ إلى المشهد الإعلاميّ بعد السيطرة عليه من قبل الرابحين في الانتخابات. هكذا، يمكننا لحظُ ما تورده ﺍﻟﻬﻴﺌﺔُ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﻠّﺔ للاتصال السمعيّ البصريّ "ﺍﻟﻬﺎﻳﻜﺎ،" ﻋﻠﻰ موقعها ﺍﻟﺮﺳﻤﻲّ، اليوم، من ﺃﻥّ ﺗﺴﻊَ قنوات مرخّصٌ ﻟﻬﺎ ﺭﺳﻤﻴًّﺎ عام 2019. ﻭﺇﺫﺍ ﺃﺿﻔﻨﺎ ﺇﻟﻴﻬﺎ القناتين العموميّتين، الوطنيّة ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻭالوطنيّة ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ، فيمكن القول إنّ المشهد ﺍﻻﻋﻼﻣﻲّ اليوم يضمّ قرابة إحدى عشرة مؤسّسةً فقط، بينما كان ﻫﻨﺎﻙ ما يفوق العشرين من القنوات الناشطة عام 2014.
ﺃﻣﺎ الصحف فقد اختفى أغلبُها بعد عامين على أبعد تقدير من تاريخ إجراء ﺃﻭّﻝ ﺍﻧﺘﺨﺎﺑﺎﺕ (أكتوبر2011). فاليوم، لا نجد مثلًا عناوين كـالحقيقة والجرأة والمرصاد وﺍﻟﺮﺍﻳﺔ ﻭﺍﻟﻤﺴﺎء ﻭﺍﻹﻋﻼﻥ الجديد. ﻭﺣﺘّﻰ بعض العناوين التقليديّة أو القديمة، كـالأضواء وصباح الخير، اختفت نهائيًّا.
ﻭعمومًا، فالمشهد الراهن لا يضمّ أكثرَ من عشر صحف، بين يوميّة وأسبوعيّة. وأغلب هذه التجارب التي ماتت في المهد توقّفتْ لأسباب ماليّة بسبب غياب داعمين لها، أو نظرًا لكونها فشلت في مهمّة ترويجيّة انتخابيّة أُوكلتْ إليها من قبل الباعثين.
الإعلام والديمقراطيّة الواهية
إذا أجرينا بحثًا تاريخيًّا في مآلات الإعلام ما بعد الثورات، فلن نجد بلدًا واحدًا في العالم حدثتْ فيه ثورةٌ إعلاميّةٌ بعد صعود اليمين إلى سدّة الحكم. وهذا يعود أساسًا إلى طبيعة رؤية اليمين للفنّ والإعلام وغير ذلك من المجالات الحيويّة التي يحسب انفلاتَها من قبضته تأشيرةً لسقوطٍ مؤجّلٍ له.
اختفى أغلبُ الصحف بعد عامين على أبعد تقدير من تاريخ إجراء ﺃﻭّﻝ ﺍﻧﺘﺨﺎﺑﺎﺕ
ولأنّه لا يمكن الحديثُ عن الصحافة بعيدًا عن المناخ السياسيّ العام، فإنّه وَجب التصريحُ بحقيقة مكشوفة، وإنْ أخفاها البعضُ في تونس، وهي "أنّ ازدراء الواقع الإعلاميّ من إزدراء الواقع السياسيّ." فبعد 2014 كان المشهد يمينيًّا صرفًا إثر تحالف الإسلاميين مع الدساترة لتشكيل الحكومة بعد تفوّقهم الصارخ في الانتخابات التشريعيّة. هذا اليمين، المتكوّن أساسًا من رجال أعمال ورجال دينٍ، أفرغ الثورةَ والإعلامَ من جوهره بعد سيطرته على المشهد من خلال شركات الإنتاج التي يملكها.
وأمام تشظّي المعارضة التقدميّة، وضعفها الواضح في مجاراة تغوّل اليمين، بات المناخُ الإعلاميُّ أحاديًّا، وأضحى المشهد العام منقسمًا إلى: سلطة تقوم بأخطاء كارثيّة سلّم الجميعُ بنتيجتها الآن؛ وإعلام يبرّر لها أخطاءها تارةً، ويبتكر ملهاةً للشعب كي يصوّب نظرَه بعيدًا عن الحكومة تارةً أخرى.
هذا المشهد الإعلاميّ يجعلنا نجزم بأن كلَّ متابعٍ لمحتويات الإعلام الجديد يشعر باغتراب كبيرٍ، إذ يجد نفسه بين أمرين متناقضين:
- بين واقعٍ معيشٍ يشهد فيه البلدُ أزمةً اقتصاديّةً خانقة، وأزماتٍ اجتماعيّةً جمّة، كتفشّي الجريمة وازدياد عدد الفقراء والعاطلين عن العمل؛
- وبين مادّة إعلاميّة سمجة لا تحاكي هذا الواقع ولا تسعى إلى معالجته بقدر سعيها إلى اختلاق أزمات يوميّة جديدة تُرهبُ بها المُشاهد المستهلك كي تنسيه أزماتِه الحقيقيّة.
صحيح أنّ مكسب الحريّة الذي تحقّق بعد 2011 مهمّ جدًّا. وصحيح أنّ المناخ العامّ في البلاد يعدّ ديمقراطيًّا إلى حدٍّ ما. لكن مشكلة هذه الديمقراطيّة أنّها مُسيّرة عن بعد من رأس المال المالك لوسائل الإعلام وللسلطة في آن. وهنا يكمن المأزق الحقيقيّ في تونس.
فقد جاءت الثورةُ بمشهد إعلاميّ جديد، لكنّ هذا المشهد لم يكن ثوريًّا في لحظةٍ ما، بل كان السببَ الحقيقيّ في إخماد الثورة وإخفاء صوت من صنعوها؛ أولئك الذين خذلتهم صناديقُ الاقتراع لعدم توفّر سبيل إعلاميّ يخدمهم ويدفع بهم إلى ساحة الأضواء والتلفزة.
***
ختامًا، تجب الإشارةُ إلى أنّ بعض المجالات شهدتْ تقدّمًا ملحوظًا في تونس بعد العام 2011، وبالأخصّ مجالا الحقوق والحريّات. إلّا أنّ الأزمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي قامت من أجلها الثورةُ تضاعفتْ للأسف. ومثلَها كانت أزمةُ الإعلام الذي لم يستطع مجاراةَ ثورةٍ سبقته. لكنّ الأمل يبقى قائمًا في ثورة إعلاميّة حقيقيّة مع صعود الجيل الجديد للصحفيين كي لا يأكل الإعلامُ ما تبقّى من الثورة.
تونس
[1] زهير يحياوي، المعروف بلقب ''التونسيّ،'' هو أوّل ضحيّة لشرطة المعلوماتيّة في نظام بن عليّ. ففي خريف2001، أطلق مجلّةً إلكترونيّةً بعنوان TUNeZINE (اختصار لاسميْ زين العابدين بن عليّ وتونس). لاقى الموقع نجاحًا فوريًّا، وأثارت كتاباتُ يحياوي، العامّيّةُ الساخرة، غضبَ السلطة التونسيّة. وعندما نظّم بن عليّ استفتاءً للحصول على مباركة شعبه طمعًا في ولاية رابعة، اقترح موقعُ TUNeZINE استفتاءه الخاصّ: "هل تونس جمهوريّة أمْ مملكة أمْ حديقة حيوانات أمْ سجن؟" وقد واظب اليحياوي، عبر مدوّنته وموقعه، على نشر مقالات معارضة لنظام بن عليّ، يدعو فيها إلى الحريّة والديمقراطيّة؛ ما عرّضه للاعتقال مرّاتٍ عدّة، عانى فيها الويلات، وخلّفتْ لديه أمراضًا مزمنةً أدّت إلى وفاته يوم 13 آذار/مارس 2005.