*حوار أجرته: عُبادة كسر
***
قبل البدء بالمقابلة أراد الأستاذ عادل مالك أن يتوجّه بهذه الكلمة: "أترحّم على د. سهيل ادريس. كان من أعزّ أصدقائي. بتأسيسه مجلةَ الآداب، صنع تاريخًا عريقًا. وما تحاول الآداب أنْ تقومَ به اليومَ، من الحفاظ على هذا التراث، وباستقلاليّةٍ تامّة، يُعدّ عملًا جبّارًا.
*الآداب، كما قلتَ، حافظتْ على تراثها الثقافيّ العربيّ المستقلّ. لكنْ إلى أيّ حدّ يستطيع الإعلامُ عامّةً أنْ يتصادى مع قضايا الناس، وأن يتصدّى للطائفيّة والشرذمة والتبعيّة؟
- التحدّي ليس سهلًا أبدًا. لقد بدأتُ حياتي المهنيّةَ بالإعلام المكتوب، وأعتبرُ الصحافةَ المكتوبة هي الأساس [في العمل الإعلاميّ]، على الرغم من عملي سابقًا في الصحافة المرئيّة والمسموعة. التحدّيات التي واجهت الإعلامَ المكتوبَ في السنوات الأخيرة كبيرة. لذلك أخشى على الآداب من الموجات الجارفة التي تجتاح المنطقة، أو ممّا أُسمّيه "موجةَ التصحّر الثقافيّ" التي تهبُّ علينا من مختلف الاتجاهات. لكنّ الآداب حصَّنتْ نفسها بالرقيّ الذي نشرتْه، ما جعل بينها وبين الموجة الإعلاميّة الحاليّة بونًا شاسعًا. على الآداب الحفاظُ على موقعها الثقافيّ المتميّز هذه، بالرغم من كلّ التحدّيات.
* لننتقلْ الى موضوعنا. ما هو تقويمُك لدور الإعلام العربيّ، المرئيّ والمسموع والمكتوب، في تغطية الأزمات التي نشبتْ مع "الربيع العربيّ"؟
- دخلتْ على الإعلام متغيّراتٌ كثيرةٌ في السنوات العشر الأخيرة، لم تكن إيجابيّةً في معظمها أو مفيدة. وكان التحوّلُ الكبير قد برز في تغيّر مكانة الإعلام، إذ تحوّل من سلطة رابعة إلى سلطةٍ أُولى، وذلك بسبب قوّة تأثيره في الجمهور.
أمّا التغيّر الآخر، فيظهر في التنافس (غير المتكافئ) بين المؤسّسات الإعلاميّة على التغطيات ذاتِ الإثارة؛ وهذا يجعلني قلقًا على ما يقوم به الإعلام. فمحدِّدات الإعلام الجيّد والراقي اختلفتْ كليًّا، والمصداقيّةُ في الإعلام مهدّدة كثيرًا. وسأوضح ما قلتُه بأمثلة.
إذا قارنّا خبرًا بين أقنية إعلاميّة متعدّدة، سنجد أنّه مختلف تمامًا في ما بينها، ومختلف عن المصدر الذي أذاعه أصلًا. خذي أحداث حرب اليمن مثلًا: كلّ محطّة تقدّم روايتها الخاصّة التي تختلف عن نظيراتها.
هذا الواقع يضعنا على مفترق طرق بالنسبة إلى الجيل الإعلاميّ الذي نشأتُ فيه، كما يضعنا على مفترق طرق عند مقارنة ما بين الزمنيْن. جيلنا اعتاد صحافة موضوعيّة قدْر المستطاع. فأين كنّا وأين أصبحنا؟
لقد حصل تبدّل كبير لدى الأجيال. وطبعًا، نحن لا ندعو إلى التخلّف الإعلاميّ، ولكنّني من مدرسةٍ تفضِّل فصلَ الخبر عن التعليق. على الخبر أن يُعطى مادةً خامًا، ثم يُترَك للمُشاهد أو القارئ أو المستمع حقُّ تحليله واستنتاجُ ما يشاء. وما عدا ذلك، فلا دخلَ للإعلاميّ فيه!
السنوات العشر الأخيرة شتّتت المواطنَ اللبنانيّ والعربيّ على مستوى الأحداث السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة، أو على مستوى ما قدّمه الإعلام. الصحافة في هذه المرحلة تشهد تحدّيات حافلة، في حين تسعى كلُّ وسيلة إعلاميّة إلى الاحتفاظ بموقع متميّز في ظلّ تدفّق الإمكانات الماديّة الهائلة. إنّ طغيان رأس المال على العمل الإعلاميّ كان أكثرَ ما أساء إليه.
* أود أن نتعمّق في مسألة التحوّلات التي طرأتْ على الإعلام منذ حرب الخليج الأولى. ما هي مخرَجاتُ هذا الإعلام؟
- أوجد هذا السيلُ الكبيرُ من المعلومات والأخبار طفراتٍ مفاجئةً، بعضُها يستحقّ القراءةَ والتعليق، وبعضُها الآخرُ مضلِّل. وعلى دارس الإعلام أنْ يمتلكَ حسَّ التمييز بين الخبر الموجَّه، والخبرِ الدقيق. منذ العام 2011، يشهد العالمُ العربيّ متغيّراتٍ كثيرة، فهل على الإعلام أنْ يعكس الواقعَ أم أن يسوِّقَ فكرةً معيّنة؟ لقد أصيب الجهاز الإعلاميّ إصاباتٍ في الصميم، طاولت التحليلَ الموضوعيّ. ما يقدّمه الإعلامُ اليوم، بشكل عامّ، لا يوضح لنا كيف وقع الحدث؛ الأمرُ الذي يوقعُ المشاهدَ أو القارئَ أو المستمعَ العربيّ في حالة من الضياع لتلقّيه الخبرَ بصيَغ مُختلفة.
* كيف غطّى الإعلامُ العربيّ مرحلة "الربيع العربيّ" وما بعده، كالأزمة السوريّة و"عاصفة الحزم،" وتفاقم المذهبيّة وحالات التطبيع مع العدوّ؟
- لنتّفق على مبدأ أساس ينطلق من الإيمان بجدوى الإعلام، وعلى هذا الأساس ستكون قراءتي. لقد شهد العالمُ العربيّ، ولا يزال، العديدَ من المتغيّرات الجذريّة. فلقد انقسم وتشتّت، وهنا تكمن الخطورةُ في البلبلة المتولّدة عند المتلقّي العربيّ نتيجةً للتغطيات الإعلامية المتعلّقة بالقضايا المطروحة. فبدلًا من أنْ يقدّم الإعلامُ المعلومات، تحوّل إلى منصّةٍ أسهمتْ في تأجيج الاحتقان والتشرذم في المنطقة. بل إنّ الإعلام كرّس آفاتٍ طائفيّةً وطبقيّةً لا أبالغ في القول إنّها شبيهة بالتي عاشتها أوروبا قبل مئة عام.
أدركُ أنّ المؤسَّسات الإعلاميّة ليست جمعيّات خيريّة؛ فهي بالتأكيد في حاجة الى تمويل لكي تستمرّ. لكن يجب أن تنحصرَ مهامُّ التدخّل الماليّ في حدودٍ وظيفيّةٍ مهنيّة، لا أنْ يؤثّر في قرار سياسة المؤسّسة الإعلاميّة.
في رأيي المتواضع، سوف يبقى الواقعُ الإعلاميُّ في حالة تخبّطٍ وفوضى لفترات طويلة. وستَنتُج عن ذلك فوضى في المجتمع العربيّ ككلّ.
* فلنغصْ في مضمون نشرات الأخبار والبرامج الحواريّة السياسيّة التي تناولت الأزمات المطروحة. كيف تقرأها كخبيرٍ في الإعلام؟ دعنا نتحدّث عن دور الإعلام في التسعير الطائفيّ والمذهبيّ أيضًا!
- العامل الطائفيّ من أخطر العوامل المشتِّتة للإنسان العربيّ. والمنطقة، في الذكرى المئويّة لاتفاقيّة سايكس - بيكو، تشهد ولادةَ نسخةٍ منقّحةٍ عنها، من احتلال وتقسيم. والإعلام زاد في تشويش الصراعات القائمة. أحدّثكِ عن 55 سنةً من ممارسة مهنة الإعلام! هذه المهنة كانت بالنسبة إليّ مهنةَ شغف، شغفٍ بالاطّلاع، خصوصًا أنّنا ننتمي - أنا وزملائي - إلى خطٍّ يؤمن بالموضوعيّة، ولذلك نشعر بالفارق الكبير اليوم. ما نعيشه اليوم هو أكثرُ عصور الإعلام ظلامًا...
*مَن تحمِّل المسؤوليّة؟
- طرفيْن: مقدِّمَ المادّة الإعلاميّة، والمتلقّي. الخطأ مشترك بينهما. ليس المطلوب من أجهزة الإعلام أن تكون "مدرسة،" فتتعاطى مع الناس مثلَ "التلاميذ." ولكنْ يجب أن يحافظ الجهازُ الإعلاميّ على الحدّ الأدنى من الصدقيّة.
* اذا قرّرتَ أنْ تقدّم برنامجًا حواريًّا سياسيًّا، فأيّ برامج تختار أن تقدّمها على القنوات العربيّة أو اللبنانيّة؟
- لعلّك تعلمين أنّني أوّلُ مَن أجرى مناظرةً تلفزيونيّةً بين الحكومة والمعارضة في لبنان. كانت مبادرةً فرديّةً منّي في العام 1974، قبل اندلاع الحرب الأهليّة بسنة. استضفتُ فيها تقيّ الدين الصلح، ممثِّلًا الحكومةَ في حينه، مقابلَ ريمون إدّه، الوجهِ المعارض البارز. في تلك الأثناء كانت ملْكيّةُ التلفزيون تعود إلى الدولة، ومع ذلك تمكّنتُ من أن ألّا أكون أسيرَ الإعلام الرسميّ. أشير إلى أنّ الحريّات الإعلاميّة في تلك الفترة كانت محدودةً جدًّا، ولكنّني استطعتُ إقناعَ الرئيس سليمان فرنجيّة بجدوى المناظرة، ولهذا الغرض اجتمعتْ حكومةُ الرئيس رشيد كرامي واختارت وزيرَ الداخليّة ليمثّلها، وتُرك لي اختيارُ زعيم المعارضة، فاخترتُ إدّه. شكّل ذلك حدثًا كبيرًا، إذ فرغتْ حينها الشوارعُ والمقاهي ودُورُ السينما.
إنّني أوّلُ مَن أجرى مناظرةً تلفزيونيّةً بين الحكومة والمعارضة في العام 1974
أعطيتُكِ هذا المثال مقدّمةً للإجابة عن سؤالك. في الوقت الحاضر، لا أجدُ لنفسي موقعًا مهنيًّا يمكن أنْ انطلقَ منه لتقديم برنامج حواريّ كما أريد أو أتصوّر، لأنّ الحالة السائدة في العالم العربيّ ولبنان تربط الإعلاميَّ بسياسة الوسيلة الإعلاميّة. وهذا لا يعبّر عن قناعاتي، لأنّني أؤمن بالعمل المستقلّ، بأن تنحصر العلاقة بين الإعلاميّ والجمهور فقط لا غير. البرامج الحواريّة السياسيّة تغيّرتْ مقاييسُها. أصبح المُشاهد يتابع صراخًا وشتائمَ، وهذا ليس لمصلحة أيٍّ من البرامج الحواريّة على الإطلاق. باختصار، لا أجد موقعًا لي في الوقت الحاضر.
*ولا في أيّ برنامج؟ هناك برامج مهمّة تُعرض على الجزيرة والميادين و...
-لا أقلّل من أهمّيّة أيّ برنامج. مشكلتي هي في تصنيف الإعلاميّ رغمًا عنه عندما يقدِّم برنامجًا في أيّ محطّة من المحطّات.
* هل لديك تحفّظات عن دور الإعلاميّ في التقديم؟
- ما دام المقياس قد بات مرتبطًا بالـ"رايتينغ" [نِسبِ المشاهَدات]، فقد أصبح التنافسُ بين الضيوف على قذف بعضهم بعضًا بأكواب المياه وكيْل الشتائم! لذلك أقول لكِ إنّ معطيات إجراء برنامج حواريّ موضوعيّ غيرُ متاحةٍ في الوقت الحاضر.
*ما بعد 2011، ما هو رأيك بدور الإعلام في المسألة الطائفيّة؟
- ما يجري على التلفزيونات في الوقت الحاضر هو حربٌ أهليّةٌ تلفزيونيّةٌ واضحة. يتجلّى ذلك في نشرات الأخبار، وتحديدًا في مقدِّماتها. أهمُّ مؤشّر تأخذينه عن واقع البلد يأتي من مقدِّمات نشرات الأخبار. لنضربْ مثلًا. الزميلة مريم البسّام، في قناة الجديد، عوّدت الناسَ نوعًا معيّنًا من المقدِّمات الإخباريّة المحمَّلة بالتحليل، علمًا أنّ هذا يخالف "قانونَ الإعلام المرئيّ والمسموع"! أصبحتْ مقدِّماتُ نشرات الأخبار تعكس وجهات نظر محدّدةً واضحة. فمثلًا تعبّر شاشتا OTV والمستقبل عن الخلاف بين رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة. إنّ ما يجري ليس كسبًا إعلاميًّا أبدًا. إنّه يعبّر عن شيء واحد لا غير: تحوُّل الإعلام إلى سلعة!
*لنفترضْ أنّك قرّرتَ أنْ تقدّم برنامجًا حواريًّا سياسيًّا، فما هو المبدأ العامّ الذي تعمل عليه؟
- أنْ يعكس البرنامج واقعَ البلد، ويطرح الحلول. هذا النوع يمكن أنْ يُسهم في عمليّة البناء الوطنيّ في لبنان.
*ما هي المبادئ العامّة التي توصي بأنْ يعمل الإعلاميّون بها؟
- لا أضع نفسي واعظًا لأحد. إنّما المدرسة الإعلاميّة التي أنتمي إليها تقوم على أمرين أساسيّين: احترام عقول الناس (لأنّ قدرة الوسيلة الإعلاميّة على التأثير في الناس كبيرة جدًّا)، والمحافظة على الصدقيّة والموضوعيّة كما ذكرت سابقًا.
* كيف نؤسّس لإعلام وطنيّ؟ ومتى نستطيع أنْ نقومَ بذلك؟
- أقصى ما يمكن أن يقوم الإعلاميُّ به هو الابتعاد عن "التشفير" والكلام المسيء والإثارة. فالبرامج الحواريّة تستطيع أنْ تؤجِّج مشاعرَ الناس، لكنّها أيضًا قادرةٌ على خلق حدٍّ أدنى من الارتياح لديهم. أمّا عن الشقّ المتعلّق بـ"متى نستطيع؟" فأقول بصراحة: ليس قريبًا، لأنّ المنطقة ولبنان في مرحلة من الأزمات تتطلّب وقتًا طويلًا للتخلّص منها.
* أعود إلى سؤال سابق: كيف عكس الإعلام العربيّ واللبنانيّ الطائفيّة خلال تغطيته للأزمات (الأزمة السوريّة، عاصفة الحزم،...)؟
- الإعلام العربيّ، كما اللبنانيّ، يعكس الانشقاقات في المجتمعات. لكنْ مؤخّرًا طغى العاملُ التجاريّ على أيّ اعتبارٍ آخر. إذا رصدْنا العددَ الهائلَ للتلفزيونات العربيّة واللبنانيّة، والتنافسَ غيرَ المهنيّ بينها، فسنلاحظ أنّ معايير تقديم البرامج باتت تعتمد، في كثير من الأحيان، على السيّدات الجميلات من دون معايير أخرى (وهذا لجذب المُشاهد)، أو على استضافة سياسيين لا يعرفون سوى الاستعراض والإثارة. هكذا يتعاطى الإعلامُ العربيّ مع كلّ شيء، لا مع الأزمات فقط.
* ما رأيكَ بتفريخ القنوات الدينيّة في العالم العربيّ؟
- هذا من إفرازات المرحلة الحاليّة، وتأثيرُها بالغُ الخطورة. هذه المحطّات تقدّم برامجَ دينيّة، وهي مدعومة من جهات معيّنة. أخاف على المشاهد العربيّ المتابع لها من كثرة "الفتاوى" والاجتهادات التي تأخذ طابعًا مخيفًا في كثيرٍ من الأحيان، خصوصًا تلك التي تتفاعل مع المُشاهد مباشرةً عبر تلقّي اتصاله والحديث المباشر معه. هذا النوع من الإعلام يدمِّر ولا يعمِّر. أكثر ما يقدّمه هذا الإعلام هو التفرقة الدينيّة والطائفيّة والمذهبيّة والفتنة الموظَّفة سياسيًّا.
* أين فلسطين في الإعلام العربيّ؟
- من المؤسف أنّ هذه المرحلة تشهد دعمًا مذهلًا من جانب الرئيس الأميركيّ ترامب لنقل سفارة بلاده إلى القدس، إضافةً الى جهوده في "صفقة القرن" وانعقاد مؤتمر البحرين. القضيّة تمرّ في أخطر مرحلة، وكأنّها تذوب أمام لامبالاةٍ عربيّة، إلّا ما نراه في بيانات المقاومة. نستطيع أنْ نقرأ موقفَ الإعلام حيال ذلك من بين السطور؛ إذ لا توجد دعواتٌ ومواقف واضحة، باستثناء ما تقوم به وسائلُ إعلاميّة محدّدة تدعم محورًا سياسيًا محدّدًا.
* ما هو دور الإعلام العربيّ واللبنانيّ في التطبيع ومقاومته؟
- الأحداث السياسيّة هي التي تسرِّع بعمليّة التطبيع. لقد تابعتُ اتفاق كامب دايفيد، وكنتُ مضطرًّا أنْ أغطّيه لإذاعة مونتي كارلو. من حظّي المهنيّ أنّني كنتُ بين 6 إعلاميين اختيروا من 3000 إعلاميّ عالميّ لتغطية الحدث. ساعتذاك، كنتُ موجودًا في الغرفة الشرقيّة في البيت الأبيض، عندما جاء الرئيس كارتر ومناحيم بيغن والسادات. عندها انتابني شعورٌ فظيع، لكنْ كان لا بدّ من أنْ أحافظَ على موضوعيّتي لأنّني أنقل الأخبار.
كنتُ مضطرًّا أنْ أغطّي اتفاق كامب دايفيد، وعندما جاء كارتر وبيغن والسادات انتابني شعورٌ فظيع
كان المقصود بسلام كامب دايفيد هو التطبيع العربيّ الكامل مع "اسرائيل،" فاذا به ينتهي باتفاق مصريّ - إسرائيليّ على الصعيد الرسميّ؛ ذلك لأنّ الشعب، حتى الآن، ما زال يرفض التطبيع. والكلام الآن عن "صفقة القرن" أضعفَ الشعورَ القوميّ تجاه الفلسطينيين.
* أكان مسموحًا أن تقول "العدوّ الإسرائيليّ"؟
- أنا لا استعمل مثل هذا التعبير في التقديم. كلّ واحد لديه أسلوب معيّن في التقديم ونقل الأخبار!
* أين دور الإعلام في تعزيز الشعور القوميّ؟
- الإعلام اليوم تجاريّ، وملتزم بخطّ معين. والموجة السائدة في الإعلام هي التي لا تُعلِن موقفًا، لا مع ولا ضدّ. اللامبالاة هذه تشريعٌ للتطبيع، وتمييعٌ للانتماء القوميّ. أنا أشدّد على ضرورة أنْ يكون للإعلام موقفٌ واضحٌ من المسألتيْن، إذ نشعر وكأنّه "تعب" من القضيّة الفلسطينيّة. بعضُ حكّام العرب ملّوا من هذه القضيّة.
* أتوافق على أن تنقل وسائلُ الإعلام جرائمَ داعش؟ هل ساهمتْ وسائلُ الإعلام بدعم داعش، بقصدٍ أو من دونه؟
- حالة الإحباط عند بعض العرب من استبداد الأنظمة جعلتْهُم يميلون إلى داعش التي طرحتْ نفسها بديلًا! أمّا الإعلام فقد أُربِكَ أمام هذه الظاهرة، لكنّه لم يكن متعاطفًا معها.
*هل هناك إعلامٌ دعم داعش؟
- بعض المقموعين الحاقدين على بعض الأنظمة، سعيًا وراء البديل، تعاطفوا مع داعش. لقد كشفتْ ظاهرةُ داعش الخللَ في دور الصحافة الاستقصائيّة التي تتعاطى مع ظواهر كهذه. وهذا النوع من الإعلام ضعيف في العالم العربيّ ولبنان.
* أين يكمن الخلل في الإعلام العربيّ واللبنانيّ في موضوع التطبيع الإعلاميّ؟
- حتى اللحظة التي تركتُ فيها تلفزيون لبنان بعد الحرب (1976)، لم يكن مسموحًا عرضُ صورةِ أيّ شخصيّةٍ إسرائيليّة. وكلّ خبر كان يخضع لرقابةٍ من قِبل مراقبيْن: واحد من الأمن العامّ للرقابة على الصور، وآخر من وزارة الإعلام للرقابة على النصوص. أنا كنت أعارض هذه السياسة لأنّني أعتبر أنّ من حقّ المواطن التعرّفَ إلى عدوّه.
* إلى أي حدّ أنت مع الرقابة على الأجهزة الإعلاميّة؟
- أنا مع الرقابة الدقيقة. فمثلًا: على إثر عمليّة الاغتيال الإسرائيليّة الشهيرة التي قُتل فيها كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجّار في فردان (بيروت) سنة 1973، وذلك بعد أنْ استطاع إيهود باراك أن يدخل لبنان عن طريق البحر متنكّرًا وينفّذ العمليّةَ بشكل دقيق، وقع إشكالٌ كبير بين رئيس الحكومة صائب سلام وقائدِ الجيش، محورُه: لماذا لم يتدخّل الجيش؟ ما أريد قولَه إنّنا عشنا آنذاك نوعًا من الفعل وردّة الفعل. كان ثمّة جيل يرفض الروحَ الانهزاميّة العربيّة. أمّا اليوم، فنحن لم نعد نمتلك جرأة القول. لم نعد نمتلك جرأةَ القول إنّ نتنياهو نجح في إقناع العرب بأنّ إيران هي العدوّ لا "اسرائيل"!.
لم نعد نمتلك جرأةَ القول إنّ نتنياهو نجح في إقناع العرب بأنّ إيران هي العدوّ لا "اسرائيل"!
المسألة الأخرى، وهي الأخطر في رأيي، أنّ نتانياهو أقنع المجتمعَ الدوليّ بالتملّص من إعطاء الفلسطينيين حقوقَهم السياديّة ما داموا منقسمين. لقد عرفنا، في السنوات الأخيرة، طعناتٍ كبيرةً للشعور القوميّ.
* ما الدور الذي أدّاه الإعلامُ في طعن الشعور القوميّ؟
- كل الإعلام مشارك في الانتقاص من الشعور القوميّ، باستثناء عدد محدود (الميادين والمنار). لقد افتقر الإعلامُ، باستثناء المحطّتين المذكورتين، إلى المادّة القوميّة الرصينة. قناة الجديد تقدّم برنامجًا مهمًّا كلَّ يوم أحد، اسمُه "اعرفْ عدوَّك،" يطرح مسائل الصراع العربيّ – الإسرائيليّ، فيما المحطّات الأخرى يطغى عليها عاملُ الترفيه. نحن لسنا ضدّ الترفيه، بالمناسبة، لكنّنا ضدّ أنْ يعلو فوق أيّ اعتبار قوميّ آخر!
* ما رأيك في تجربة الإعلام الاستقصائيّ في البلد؟
- جيّد كمحاولة. لكنّ هذا النوع من الإعلام بحاجةٍ إلى إمكانيّات، ويتطلّب عملًا إعلاميًّا متميّزًا، ولديه هدف قوميّ.
* تتحدث عن هدف قوميّ. طيّب، ماذا تقول عن قيام بعض الإعلاميين الاستقصائيين بمحاربة حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان؟
- لا أزعم أنّ لديّ معلومات محدّدة في هذا الموضوع، لكنْ هناك عمليّةٌ لتحويل الأنظار [عن قضيّة التطبيع]، بعضُها مقصودٌ ومدروس، والبعض الآخر غيرُ مقصود. هنا تعدّدت الأسباب، والنتيجة واحدة!
المعادلة اليوم هي كالتالي: برامج استقصائيّة محدودة التأثير، مقابل نوع من التراخي من محطّات ثانية. وهذا ما خلق حالةً من الترهّل والاسترخاء. وهنا مكمن الخطورة الكبير الذي أحاول أن أبيّنه.
إنّ وضعنا أخطر بكثير من أن يتصوّره أحد. فلبنان غارق في مشاكله الداخليّة منذ فترة طويلة. وعلى الرغم من ذلك يجب أن يبقى رائدًا على المستوى الإعلاميّ، وأنْ يسلّط إعلامُه الأضواءَ على أمور عدّة بشكل مهنيّ وذكيّ، بعيدًا عن الغرق في الإعلان والترفيه. ثم إن الإعلام أيضًا عمليّة تراكميّة، فلا بد من المثابرة الجادّة لإيصال الرسالة، ولخلق وعيٍ جديدٍ ومختلف.
صيدا