يفكّر، وهو يتصفّح الألبوم، في نشر إحدى صوره الكثيرة مع علاء عبر الفايسبوك. يتخيّل احتفاءَ أصدقائه الافتراضيين، إذ يدركون مدى عمق صلته بالبطل وقِدَمِها. يقمع الفكرةَ سريعًا، خجلًا من نفسه. لم يَفتحْ ألبومَ الصور لمثل هذا الأمر، وإنّما ليتذكّر فقط.
الصور أمام عينيْه جامدة، ولكنّها في رأسه تتحرّك كأنّها مقاطعُ من فيلمٍ سينمائيّ، تُصاحبها موسيقى تصويريَّةٌ كئيبة.
الصورة الأولى قديمة جدًّا، يَظهران فيها طفليْن في حديقةٍ مكتظّةٍ بورودٍ حمراء. يعود الشريطُ في رأسه إلى الخلف، فيضبطُ نفسَه متلبّسًا بقطف الورود القليلة المتناثرة في الحديقة الواسعة قبل أنْ يُثبّتها - بعنايةٍ وتأنٍّ – متجاورةً في الحيّز الضيّق الذي سيجلسان فيه لالتقاط الصورة، مستخدمًا سيقانَ نباتاتٍ ليّنةٍ خيطانًا للربط متى اقتضى الأمرُ ذلك، بينما شقيقتُه تنتظر، بكاميرا متأهّبةٍ وبصبرٍ نافدٍ، وعلاء يضحك من غرابة الفكرة. حين ضغطتْ حَميدة على زرّ التصوير، كانت آثارُ الضحكة لا تزال عالقةً على وجه علاء، على شكل ابتسامةٍ طفيفةٍ وعينين دامعتين.
الصورة الثانية حديثةٌ نسبيًّا، وهي على متن زورقٍ في عرض البحر، يتصارع فيها علاء مع سمكةٍ كبيرة، وهو ينظر إليه بإعجابٍ مشوبٍ بالخوف. بعد ثوانٍ من ضغطِ صديقهما عماد على زرّ التصوير، نجحت السمكةُ في الإفلات والعودةِ إلى مملكتها، تاركةً للرفاق صورةً وجدالًا سيستعيدونه عشراتِ المرّات: هو يبرّر جُبنَه وتخاذلَه عن مساعدة علاء باستحالة مشاركته في إزهاق روحٍ بريئةٍ تحت أيّ ظرف؛ ثمّ يردف أنّه لا يحتمل النظرةَ الأخيرةَ في عينيْ كائنٍ حيّ، مستنجِدةً أو عاتبةً أو مستسلمة. يسأله علاء، الذي تعلّم الطريقةَ الشرعيّةَ في ذبح المواشي على يد والده في ملحمته الكبيرة (وهو يعرف الإجابةَ مسبّقًا)، إنْ كان مستعدًّا للتحوّل إلى شخصٍ نباتيٍّ والتوقّفِ عن تناول اللحوم على أنواعها، فيجيبه بالنفي. يخبره عندها أنَّ عليه الاعتذارَ عن كلّ مرّةٍ عاتبه فيها لانخراطه في عراكٍ في الشارع! يفسِّر له العلاقةَ الغريبةَ بين الأمريْن بأنّ بعضَ الناس يَنْذرون أنفسَهم لتحويل الحيوانات البريئة إلى لحمٍ شهيٍّ لإطعام الجائعين من أصحاب القلوب الضعيفة والمشاعر المرهفة، ويتحمّلون بالمثل رؤيةَ أنفٍ مهشَّمٍ أو فمٍ مكسورِ الأسنان أو جبهةٍ داميةٍ في سبيل الذوْد عن أصحاب الزنود الضعيفة إنْ تعرَّضوا للخطر والاعتداء. الخلاصة: ثمَّة مَن عليه أنْ يمتهنَ القسوةَ، ويَحترفَ الدوْسَ على مشاعره، مقابل أنْ يَنعم المُرهَفون أمثاله بسلامهم الداخليّ ويتفرَّغوا لكتابة القصائد!
والحقّ أنَّ علاء خاض نزالاتٍ كثيرةً من أجله، ولم يخرج منها إلّا منتصرًا. كان ذلك في أيَّام المراهقة، حين انكبَّ علاء على تمارين الكاراتيه، التي يؤدّي في الصورة الثالثة إحدى حركاتها مبتسمًا بثقة، فيما يقف هو إلى جانبه راسمًا على وجهه ابتسامةً بلهاء. يفكّر في الفوارق الكثيرة بين الوجهيْن المبتسميْن وصاحبيْهما، ثم يسأل نفسَه عن السبب الذي يدفع علاء إلى مصادقة شخصٍ مثله. يسأل نفسَه إنْ كان علاء الصبيُّ قد أشفق على ضعفه قبل أنْ يحبَّه علاء الشابُّ لاحقًا، فلا يجد جوابًا.
كان علاء وسيمًا جدًّا، ذا ثقافة واسعة، يُتقن الكاراتيه، ويَبْرع في كرة القدم إلى الحدّ الذي جعله قائدًا لفريق المدرسة. قلبُه لا يعرف الخوفَ. تخطب الفتياتُ ودَّه، ويتحلّقن حوله في ملعب المدرسة وفي الشارع وفي أيّ مكانٍ يكون فيه. بدأتْ علاقتُهما حين رآه باكيًا في ملعب كرة القدم لأنّ نِصابَ الفريقيْن اكتمل قبل حضوره، فأخرج لاعبًا من تشكيلة فريقه - بنظرةٍ واحدة - وضمّه إليه بدلًا منه.
الصورة الرابعة في ملعب كرة القدم بعد وقت طويل على الحادثة. يظهر فيها فريقُ علاء كاملًا، وقد أصبح هو ظهيرًا أيسرَ فيه. لم يعبأْ علاء حينذاك بملاحظات أفراد فريقه عن "الثغرة الفاضحة" التي اكتشفها الخصومُ على الجهة اليسرى من الملعب، بل جرَّب استثمارَ لياقته البدنيّة العالية في الجمع بين القيام بواجبه كلاعب وسطٍ مُدافعٍ وبين تغطية الثغرة التي تحوَّلتْ إلى "دفرسوار."
الصورة الخامسة تجمعُهما على بساطٍ أبيض، وحولهما ندفٌ من الثلج. كان يرتدي معطفًا جلديًّا، بينما اكتفى علاء بقميصٍ قطنيٍّ بكمّيْن قصيريْن. كان الطقس يومها مشمسًا، قبل أنْ يتبدّلَ فجأةً وتتساقطَ الأمطارُ بغزارة. ولكنّ برنامج الرحلة إلى "فاريّا" استُكمِل كما كان مقرَّرًا. وحين شعر بالبرد، منحهُ علاء معطفَه بلا تردّد.
في الصورة السادسة يرتدي علاء بزّةً رسميّةً كحليّةً أنيقة، ويضع على رأسه قلنسوةً من الفراء الأبيض، ويتقلّد سيفًا طويلًا رفيعًا يختبئ نصلُه اللامعُ خلف غمدٍ فضيٍّ لا يقلّ لمعانًا، وعلى وجهه ترتسم ابتسامةٌ تنبئُ بسعادته بتخرّجه أخيرًا من الكلّيّة الحربيّة. كان وفيًّا لنظريّته عن الأفراد الذين يَنْذرون حيواتِهم للذوْد عن الآخرين. ولكنّ "الآخرين" لم يعودوا أصدقاءَ مراهقين يتعرَّضون للتنمّر، وإنّما وطنًا كاملًا، بشعبه وأرضه. وتحوّل الدفاعُ عن الضعفاء والمقهورين من هوايةِ مراهقٍ متحمّسٍ إلى واجبٍ ليس دونه إلّا الخيانة. وعلاء لا يَخون.
يتذكّر مقطعًا قرأه علاء على مسمعَيْه مرَّةً من قصّةٍ للؤي حمزة عبّاس:
"الإنسان هو الكائنُ الوحيد الذي يخون أبناءَ جنسه. وأستغربُ كيف غابت الخيانةُ عن أذهان علماء الاجتماع، وهي الصفةُ الأهمُّ والعلامةُ الناصعةُ التي ميَّزتِ الإنسانَ منذ وطأتْ قدماه على الأرض. فإذا كان لابن آدم أنْ يتفاخرَ يومًا بين سائر المخلوقات، فسَيفْخر لا بكونه كائنَ العقلِ أو اللغة، كما يُحكى عادةً، بل بكونه الكائنَ الوحيدَ الذي قُدّر له أن يخونَ مرَّة بعد مرَّة، حتى أصبح كائنَ الخيانةِ بامتياز."
الصورة السابعة هي الأحدث، لم تلتقطْها كاميرا، ولكنّ عقلَه يَحفظ تفاصيلَها تمامًا. كانا عائديْن من سهرةٍ امتدَّت حتّى وقتٍ متأخّرٍ في منزلِ صديقٍ يقيم في منطقة البقاع، ولم يَفْطنا إلى أنّهما ضلّا الطريقَ ودخلا إلى الجرود التي تتحصَّن فيها جماعاتٌ إرهابيّة. وحين صادفا طريقًا مقطوعًا بالأحجار الكبيرة والصخور، نزل علاء ليستطلعَ الأمرَ، فحاصرتْه مجموعةٌ من ثلاثة مسلّحين نبتوا فجأةً في الظلام. كان سلاحُ علاء في السيّارة، وكان هو يجيد استعمالَه بعد أنْ تدرَّب على ذلك في الخدمة العسكريّة الإلزاميّة. وكان المسلّحون الثلاثة في حالة من الاطمئنان إلى سطوتهم والثقة بقدرتهم - - تدعمهم هيبةُ الظلام، واعتيادُهم المكانَ، والرعبُ الماشي مِن خلفهم ومِن أمامهم. كان ذلك كلُّه يجعل مِن مباغتتهم أمرًا ممكنًا، ولكنّه لم يفعل!
حين انتبهوا إلى وجوده في السيّارة، كانوا قد عرفوا هويّةَ علاء وموقعَه ورتبتَه. وكانوا بحاجةٍ إلى مَن يخبر عن فعلتهم لبثّ المزيدِ من الرعب، فمنحوه حياتَه، وأمروه بالعودة بالسيّارة من حيث أتى. فامتثل دون جدال.
الصورة السابعة كانت لعينيْن بشريّتيْن تحملان نظرةً لم تكن على الإطلاق مستنجدةً أو مستسلمة. ربما كانت عاتبةً قليلًا فقط!
بيروت