أجراها: بشّار اللقّيس
هو أحدُ أبرز وجوه مرحلة "الجهاد الأفغانيّ،" والشاهدُ على إعلان "الجهاد" في أفغانستان إثر دخول القوات السوفياتيّة إليها سنة 1979. اسمُه الأصليّ: بو جمعة بشير بونوّه، من الجزائر، لكنّه عُرف في الوسط الأفغانيّ باسم "عبد الله أنس." وهو صهرُ عبد الله عزّام، وأحدُ أكثر المقرَّبين من "أسد بانشير،" أحمد شاه مسعود. أمضى أكثرَ من عشرين يومًا مشيًا على الأقدام في جبال أفغانستان، محاولًا تقريبَ وجهات النظر بين مسعود وعزّام؛ فبات اليوم يمضي عمرَه كلَّه محاولًا تجسيرَ المسافة بين القوى الإسلاميّة على تنوّعها.
يقيم عبد الله أنس اليوم في المملكة المتحدة. وهو يعمل مستشارًا للمجلس الأعلى للصلح في أفغانستان. وقد أجرت الآداب المقابلة معه عبر الإنترنت.
ب. ل
***
* كلّنا نسمع عن "الجهاد الأفغاني." لكنّ قلةً منّا، نحن العرب، تعرف كيف ابتدأ؟
- بدأتْ مرحلةُ "المجاهدين العرب" في أفغانستان مع ذهاب عبد الله عزّام إلى باكستان ومباشرتِه التعليمَ في "الجامعة الإسلاميّة العالميّة" في إسلام آباد. كان هدفُ الشيخ الأصليّ أنْ يكون موظَّفًا هناك، كي يكون ملتصقًا بالجهاد الأفغانيّ. هذا الأمر كان أواخر العام 1982. وفعلًا، أمضى عزّام جلَّ وقته بالقرب من منظّمات الجهاد الأفغانيّ، والمهاجرين الأفغان، في مدينة بيشاور، عاصمة إقليم بشتونستان، على الحدود الباكستانيّة - الأفغانيّة. في تلك المنطقة، سكن ملايينُ المهاجرين الأفغان، ومعهم نشطتْ مكاتبُ المجاهدين وهيئاتُهم الإغاثيّة ومنظّماتُهم الرسميّة، بالإضافة إلى عشرات المعسكرات. وظلّ الوضع على حاله حتّى بداية العام 1984، حين اتّخذ عزّام قراره بتأسيس "مكتب خدمات المجاهدين."
كان لهذا المكتب هدفٌ رئيس: إعادةُ تنظيم المقاتلين غير الأفغان القادمين من خارج أفغانستان. بالإضافة إلى جملةِ مهامَّ أخرى، تربويّةٍ وخدماتيّةٍ وإداريّة.
بين بداية 1983 ومنتصف 1984، كان المجاهدون العرب لا يتجاوز عددُهم 15، فأُلحقوا بمعسكرٍ تابعٍ لـ"الاتحاد الإسلاميّ للمجاهدين" بزعامة عبد ربّ الرسول سيّاف. لكنّ فتوى معظم علماء العالم الإسلاميّ في أنّ الجهاد في أفغانستان "فرضُ عيْنٍ" جعلت الشبابَ يأتون من كلّ حدبٍ وصوب.
كان بعضُهم يأتي من أوروبا، وكانوا في مراحلهم النهائيّة من دراساتهم العليا. وبعضهم كان من التجّار والمعلِّمين. أيضًا كان ثمّة عدد كبير من أبناء الطبقة الوسطى من الخليجيين. أواخرَ العام 1992، فترة سقوط الرئيس محمد نجيب الله، كان عددُهم قد وصل إلى ما بين 4000 و5000 مجاهد، بينهم ما يقارب 10 - 15% متفرّغون للعمل بصفةٍ دائمة.
* وماذا عن التمويل؟
- كان أسامة بن لادن (ولم يكن تفرّغ للجهاد بعد) يساعد الشيخ عزّام في تحمّل المصاريف، التي لم تتجاوز 4000 - 5000 دولار بدلًا من تكاليف "مكتب خدمات المجاهدين" بادئ الأمر.
* يعني لم يكن التمويلُ غربيًّا، ولا من النظام الرسميّ العربيّ، ولم يكن برعاية أمريكيّة. لم تكونوا تروْن كلّ ذلك؟
- لا لم نكن نرى ذلك. كنّا، ببساطة، نرى أنّ ثمّة بلدًا إسلاميًّا وقع تحت الاحتلال، وأنّ المحتلّ شيوعيّ كافر، وأنّ علينا مواجهتَه وعونَ المسلمين الموجودين هناك. ولم نفكّرْ في الجهات المستفيدة، أو من يمكن أن يستفيد من هذا القتال دوليًّا. الأمور بالنسبة إلينا كانت جدّ بسيطة. وهذا ما يمكن اعتبارُه اليوم "قلّةَ عمقٍ ودراية سياسيّة"!
* لعلّ مرور اسم بن لادن يستدعي السؤالَ عن دوره وتطوّر علاقته بالمجاهدين. هل يمكن أن تبيّن لنا طبيعةَ دوره؟
- كان لقاؤهم الأوّل عندما زار أسامة بن لادن الشيخ عزّام، وكان بن لادن يومها طالبَ علم في سنته الجامعيّة الأولى في الأردن. هدفتْ تلك الزيارةُ إلى مساعدة النازحين من أهل حماة، بعد الأحداث التي وقعتْ فيها مباشرة.[1] وكان دافعُ بن لادن يعود، فضلًا عن الأسباب العقائديّة، إلى كون إحدى زوجات والده (محمد بن لادن الحضرميّ) سوريّةَ الجنسيّة. وكان أسامة هو أيضًا متزوّجًا من امرأة سوريّة. فقرر بن لادن لقاءَ عزّام لبحث سُبل مساعدة أهل حماة.
* هل التقى بن لادن في تلك المرحلة أيضًا بأيمن الظواهري؟
- لا، لم يلتقيا قطّ. الظواهري أتى مع جماعة الجهاد المصريّة التي كان يتزعّمها من قبل، ومعه مقاتلو "الجماعة الإسلاميّة" بقيادة عمر عبد الرحمن، أواخرَ الثمانينيّات. فور وصولهم إلى بيشاور برفقة سيّد إمام (الذي كان يُطلق عليه اسم "السيد فضل")، أعلن جميعُ هؤلاء خصومتَهم لـ"مكتب الخدمات" وللشيخ عبد الله عزّام. هم كانوا لا يصلّون خلفه، ويشكّكون بولائه، ويتّهمونه بالعمالة للاستخبارات الأمريكيّة. وكانت خلفيّةُ خصومتهم نابعةً من كون الشيخ عزّام من قيادات الإخوان المسلمين. هم حُرموا خدمةَ الجهاد الأفغانيّ، ولم يكن عندهم أيُّ صلة بالمجاهدين، ولا بالمعسكرات، ولا بالمخيّمات.
* أسامة بن لادن، كما هو معلوم، ترك أفغانستان. فهل قطع صلتَه بـ"العرب الأفغان"؟
- بعد انسحاب الروس من أفغانستان، وبدءِ مرحلة الاقتتال بين الأفغان، كانت لبن لادن محطّتان رئيستان. في كابُل سنة 1992، وبعيْد اندلاع أحداث العنف هناك، قرّر "مكتبُ الخدمات،" وكان بن لادن مسؤولًا عنه، اعتزالَ الاقتتال؛ فقد رأى أنّ الحرب كانت أكبرَ من مجهودات الإصلاح. فترك أفغانستان وسافر إلى السودان، حيث مكث حتّى أواخر العام 1995.
بعيْد اندلاع أحداث العنف في أفغانستان قرّر بن لادن اعتزالَ الاقتتال
في السودان، عمل بن لادن مع حسن الترابي، فأسّس شركتين للاستثمار والإنشاءات. من بين الاستثمارات التي قام بها بن لادن مع حكومة البشير كان افتتاح خطّ طرقٍ طولُه 800 كيلومتر، من بور سودان إلى الخرطوم. كذلك استثمر الرجل في السمسم والحقول الزراعيّة. هكذا قضى بن لادن 90% من وقته في السودان "بزنس مان" (رجل أعمال).
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة عودة بن لادن إلى أفغانستان ومواجهة الغرب من هناك. حينها، أعلن تنظيمُ "القاعدة" بدءَ القتال ضدّ الولايات المتّحدة وأوروبا، مع تفجيريْ لوكربي ودار السلام، ومن بعدها أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ثمّ إصرار القاعدة على البقاء في أفغانستان لمقاتلة أمريكا، التي أعلنت "الحربَ على الإرهاب،" ثمّ عودة القاعدة عن ذلك وعرضها الهدنةَ مع الأوروبيّين والأمريكيّين عام 2003-2004.
هنا بدا أنّ الأمور ليست سويّة؛ بمعنى أنّنا مع الشيخ أسامة بدأنا نفتقد البوصلة. فما الهدف من هذا الجهاد، وما هو منطقُه الحاكم؟ فإذا كانت الولايات المتحدة حتى ذلك الحين لا تزال تحتلّ أفغانستان؛ وإذا كانت مقاصدُ الجهاد بالنسبة إلى القاعدة لم تتحقّقْ بعد؛ فما الغاية من عرض الهدنة؟ أو ما الغاية من قتالها من قبل؟ هكذا بدت الأمور غير واضحة!
* أين أمست القاعدة بُعيْد أسامة بن لادن؟
- "القاعدة وأخواتها" تخضع للمزاجيّة بشكلٍ كبير. إنّ خطابَ الجماعات المسلّحة اليوم لا يقوم على مبنًى شرعيٍّ مؤصَّل، ولا على جهادٍ حقيقيٍّ على الأرض، بل يطغى على خطاب أغلب هذه الجماعات السجالُ الآنيّ، ويمكنهم في كلّ لحظة تحويرُ الخطاب وتغييرُه!
ومن خلال تتبّعي لأيمن الظواهري وخطاباته في الآونة الأخيرة، ولمسار "جبهة النصرة" في السنين الأربع أو الخمس الماضية، يتّضح أنّ ثمّة مسافةً فاصلةً بين النظريّة والتطبيق؛ فكأنّ الإنسان عندما يكون في موضع التنظير، لا الواقع، لا يكون مسؤولًا! للواقع إكراهاتُه وخصوصيّاته، وهو ما لا تلحظه "القاعدة" اليوم.
ففي السنوات الماضية، مثلًا، رأتْ جبهة النصرة التحدّياتِ بعينها، ورأى بالمثل قياديّوها أنّ القضيّة ليست مسألةَ شعارات (قتال الكفّار، الخلافة الإسلاميّة العالميّة، قتال الصليبيين وفق ما يطلبه الظواهريّ وما تطلبه القاعدة الأمّ). لقد بدأتْ جبهةُ النصرة تتعرّف إلى إكراهات الواقع وأزماته. إدلب كانت أولى الانعطافات. أنْ تكون مسؤولًا عن الناس يحتّم عليك تعديلَ الموازين والشعارات الفضفاضة التي لا معنى لها. هكذا ابتدأت القاعدة الأمّ تشعر أنّها تبتعد شيئًا فشيئًا عن "جبهة النصرة، وهذا ما أدى بالظواهري إلى إن يعلن المفاصلةَ مع جبهة النصرة.
القاعدة ليست تنظيمًا له هيكليّة ورؤيا واستراتيجيّة سياسيّة يريد أنْ يحقّقها. عندما تتحدّث عن القاعدة فأنت تتحدّث عن شيء هُلاميّ. القاعدة ليست جماعةً تنادي باسم فلسطين، ولا باسم الديمقراطيّة، ولا باسم الربيع العربيّ. هم "جماعة شعارات" فقط. سيظلّ هذا التنظيم تنظيمًا فضفاضًا يضمّ مجموعاتٍ من هنا وهناك، ترى ما يناسبها وتنفّذه، وكلٌّ يراها بما يناسبه.
* اليوم ثمّة حديث في الأوساط الجهاديّة عن عودة حمزة بن لادن إلى الإمساك بما انفلت من عَقد "القاعدة" التنظيميّ والسياسيّ. ما مدى تقديرك لنجاحه؟
- حمزة بن لادن كان مع أبيه في باكستان. وبعد مقتل أبيه، تردّدت الأخبارُ عن انتقاله إلى بلاد الشام، وتحديدًا سوريا. فمن الذي نقله إلى سوريا، وكيف انتقل إلى هناك؟ وهل تحتاج سوريا الآن إلى فرع لتنظيم القاعدة، أم أنّها تحتاج إلى دعم الثورة السوريّة العادلة؟
في سوريا ثورةٌ مطالبُها واضحة وبسيطة، يمكن أنْ يستوعبها كلُّ إنسان. هي ليست ضدّ العلويّ، ولا ضدّ الكرديّ. في سوريا ثورةٌ تطالب بالدستور والانتخابات التي يكون فيها الشعبُ مصدرَ السلطات. الثورة السوريّة مطالبُها واضحة. وأنا أتصوّر أنّ أيّ عنصر يَدخل على هذه المطالب الواضحة من أجل تعفينها، كما هو الحال مع رفع شعار "القاعدة" أو تدويل القتال العالميّ، لن يكون إلّا خدمةً لأعداء الثورة. فإذا كان حمزة بن لادن قد أتى إلى سوريا في هذا السياق، فثمّة جملةٌ من الشكوك والشبهات حول هذه الخطوة!.
* لا يمكن أن يمضي الحوارُ معك من دون سؤالك عن الجزائر. كما هو معلوم، الجزائر في حالة من الغليان، وعلى حافّة الفوضى. والجزائر ليست بعيدةً عن ليبيا. هل يمكن أن نرى انزياحًا في نشاط الجماعات الجهاديّة من ليبيا إلى الجزائر؟
- كانت مسألة الجزائر في التسعينيّات بمثابة ميدان الاختبار الأول الذي تجسّدتْ فيه هذه الخلطةُ المشؤومة في العالم الإسلاميّ: التكفير والمخابرات. في الجزائر بدأتْ تلك الأزمة في ثنائيّ الاستخبارات الجزائريّة من جهة، والجماعة الإسلاميّة الجزائريّة المسلّحة التي تزعّمَها أبو قتادة (الموجود حاليًّا في الأردن، ومعه أبو مصعب السوريّ) من جهة أخرى. بعيْد انتخابات 1992، انقسم الجزائر بين الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ (وعلى رأسها عبد القادر حشاني)، وجبهة القوى الاشتراكيّة (بقيادة آية أحمد حسين)، وجبهة التحرير الوطنيّ (بقيادة عبد الحميد مهري)، الذين فازوا بأوّل انتخابات، من جهة؛ والمؤسّسة الأمنيّة والعسكريّة (وعلى رأسها الجنرال خالد نزار)، ومعها بعضُ القوى المرتبطة بها، من جهةٍ أخرى.
حُلّت الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ، وحُلّ العملُ بالديمقراطيّة والدستور، وطَرد العسكرُ رئيسَ الجمهوريّة الشريف الشاذلي بن جديد. هكذا خرجت "الجماعة الإسلاميّة المسلّحة" لتُحوِّل الصراعَ من صراع حول الحريّة والديمقراطيّة، إلى صراع جيشٍ في مقابل تكفير. كانت الجزائر مهدَ محنة التكفير. ثمّ رأيناه في "الربيع العربيّ،" وفي سوريا عندما خرج الشعبُ السوريّ في الشارع مطالبًا بالكرامة والحريّة. عسكرة الأنظمة دائمًا ما تحيل الأمورُ إلى مواجهةٍ مفتوحة.
ثمّة مخاوف من تكرار سيناريو سوريا. الحريصون على المصلحة العليا يُقرّون بواجبٍ ملقًّى على كاهل كلّ الرجالات الوطنيين قبل أنْ يصل الوضعُ إلى نقطة اللاعودة. ليبيا وسوريا تبدوان للعيان مسألةً جليّةً. تعالوْا نجلس ونفتح حوارًا وطنيًّا لنجنّبَ البلادَ ما يمكن أنْ تصل إليه. الجزائر مفتوحة -لا سمح الله - على مشاريع مُخيفة بعض الشيء!
***
كأنّ عبد الله أنس ما زال على التلّ بين بانجشير وباروان، يراقب الدبّاباتِ المنسحبةَ من كابُل إلى هرات عند هزيمة السوفيات عام 1989. هو لا يريد النزول؛ فمن الأعلى يكون كلُّ شيء واضحًا ملء العين. بالأمس، خرج السوفيات من أفغانستان. للتاريخ دروبُه كما الذاكرة. لكنّ المستقبل لا زال يراودنا كسؤال: في أيّ الدروب سنمضي؟
[1] أحداث مدينة حماة 1982: جاءت أحداث حماة تتويجًا لحالة الغليان والتوتّر التي سبقتْها، بين الإخوان المسلمين والدولة السوريّة، وبعد قيام الإخوان بمجزرة في كلّيّة المدفعيّة في حلب منتصف العام 1979، ومحاولة اغتيال الرئيس حافظ الأسد في آذار 1980. فكان أنْ أعلنت الدولةُ "الإخوانَ" تنظيمًا إرهابيًّا. ووقع الصدام بين الدولة والتنظيم المسلّح داخل جماعة الإخوان المسلمين المعروف باسم "الطليعة المقاتلة،" بقيادة مروان حديد، أفضت إلى قيام الدولة بأوسع عمليّة عسكريّة، صبيحة الثاني من شباط (فبراير) عام 1982، ضدّ جماعة الإخوان في مدينة حماة، وذلك بعد اعتصام حديد ومجموعاته في المدينة؛ ما أوقع الآلاف من أفراد التنظيم والأهالي بين قتيل وجريح. (الآداب)