حين استلمتُ الرسالة أحسست بغبطة كبيرة؛ فالرسائل الورقيّة أصواتٌ حقيقيّة معبّأة في مغلّفات ناعمة. شممتها بشغف، ثمّ فتحتها على مهل لئلّا تتمزّق. أخرجت بطاقةً مستطيلة زرقاء، ثمّ أمعنتُ في القراءة: دعوة إلى مسرحيّة فولكلوريّة في مسرح وسط المدينة، عند الساعة السابعة من نهار السبت. أمرٌ رائع! يوم السبت عمومًا يوم ممتع، والمسرحيّات الفولكلوريّة مسرحياتٌ معبّرة، تشعلك بحنين إلى كلّ ما مضى. فجأةً انتبهتُ إلى أنّ الدعوة كانت من غير صاحب دعوة. قمت إلى درج الخزانة حيث أودعت الرسالة. محّصتُ الغلاف، الدعوة، الرائحة المنبعثة منها، فما أفصح شيء من ذلك عن داعٍ.
نهار السبت من هذا الأسبوع كان متعبًا على غير عادة. لكنّي، كلّما شعرتُ بخدر التعب يتسلّل في عروقي، كنتُ أعود إلى الرسالة التي احتفظتُ بها في جيب بذلتي، أقرأها من جديد. "حكايا الغد" هكذا أسمَوْا المسرحية. العنوان متهافت، يظهر ذلك من الدعوة ذاتها. الصفرة الباهتة للدعوة يليق بها عنوانٌ آخر: "حكايا الأمس" مثلًا. أينفع؟
في زحمة السير، أوّل الجسر الموصل إلى قلب المدينة المستعر، كقلب فتاة تبكي أمام مَن تحب، سألتُ نفسي عن أسباب قبولي دعوةً أجهل داعيها: أيكون الورق هو الذي أغراني؟ رائحته؟ الخطّ النافر الملوّن؟ تصلني العشرات من الدعوات الإلكترونيّة يوميًّا ولا ألبّي منها إلّا القليل.
كانت ساعتي تشير إلى السادسة والأربعين دقيقة. عشرون دقيقة ويبدأ العرض. حتّى تخطّيَّ المجنونُ للسيارات لم ينفع لأصل قبل السابعة وخمس دقائق. الدخول مجانيّ، فلم أحتج إلى الوقوف طويلًا عند شبّاك التذاكر.
دخلتُ القاعة، كانت ملأى بجمع غفير. لا شكّ في أنّ مجّانيّة الدعوة أغرت كلّ هؤلاء. اتّخذتُ مقعدًا آخر القاعة، بالقرب من فتاة سمراء فاتنة، وعجوزٍ مهلهلٍ خائر. ولمّا فتحت الستارة، رأيتُ أحد الجالسين يعتلي المسرح، ويؤدّي دوره بإتقان. ثمّ قام الثاني ليؤدّي رقصة جميلة. الثالثة التي قامت كانت الفتاة الجالسة بقربي. كنت مشدوهًا، ومضطربًا تحت صدمة الواقع الثقيل. حين نزلت تلك الفتاة عن المسرح بعد أدائها منولوجًا أبكى الجميع، قمتُ واتّخذتُ موقعي على المسرح، وأدّيت دوري بحرفيّة عالية. كنت حافظًا كلّ كلمة تلفّظتها عن ظهر قلب. الأمر غاية في السهولة.
بعد انتهاء المسرحيّة، صفّقنا جميعًا. ثم صعد أحدُهم إلى المسرح، ورحّب بي ضيفًا جديدًا، وشكّرني على حضوري، وفعلت الأمر نفسه بدوري.
يوم الأحد، وهو اليوم التالي للعرض، تلقّيتُ دعوة مشابهة. غير أنّ عنوان المسرحية كان قد تبدًّل؛ فلقد أعطوْها اسمًا يليق بها: "حكايا الأمس". وما زلت إلى الآن ألبّي الدعوة كلّ يوم، وأشارك بحفاوة.
لبنان