كاتب وطالب جامعيّ لبنانيّ.
حين رجّ هاتفُه وبدأتْ فيروز بالغناء "شايف البحر شو كبير،" كان غافيًا على الكنبة في غرفة الاستقبال، ولم يُفق إلّا عند الرنّة الثالثة حين كانت تقول "بحبّك." أخرج الهاتف ببطء من جيبه. خطأً، ضَغط على الزرّ الأحمر، وصرخ: "ايه آلوو، مين؟" وحين لم يسمع أحدًا، أفلت الهاتفَ من يده وبربر ساخطًا: "أولاد الحرام.. ننام."
رفع جسدَه مستندًا على ساعديه، وأثبت رأسَه على الوسادة. وحين وقعتْ عينُه على ساعة الحائط أمامه انتبه إلى أنّه نام مدةً طويلة. كان يسمع طنينًا في رأسه، ويُحسُّ بالتعب الذي أحسَّ به صباحًا. "معقول الأملاح ارتفعتْ بالدم؟" تساءل. قبل شهر، أخبره الطبيب أنّ ارتفاعها يسبِّب خمولًا في الجسم، وأنّ كثرة النوم لا تدعو إلى القلق في حالة مُسنِّ مثله.
بعد دقائق نظر إلى الساعة، فوجد عقاربَها ثابتةً على الرابعة والربع. تذكّر أنّها متوقّفةٌ منذ شهر، وقرّر أنّه لم ينم إلّا نصف ساعة، فعاد إلى الاستلقاء من جديد.
هذه المرّة استيقظ أبو يونس على صوت جرسٍ بعيد. حوقل ونهض مستعينًا بعصاه وبذراع الكنبة الخشبيّ. كان الجرس يرنّ بتتابع، والبابُ يُقرع بعنف، وكان سمعُه مثلَ خطواته: ثقيلًا ومنهكًا. عرف أنّها ابنتُه سلوى، قبل أن يَفتح البابَ ويجدَها واقفةً خلفه بأعصابٍ تالفةٍ وخوفٍ واضح. ما من أحدٍ يزوره غيرها هذه السنة بين وقتٍ وآخر.
ــــ كلّ ما إجي لعندك بتتلف أعصابي ورا الباب. قلت لك اعطني المفتاح لأصبّ نسخة منه. بوقف على الباب وبتخيّل انّك لا سمح الله (...) أو أنو مكروه حصلك.
قالت سلوى معاتبةً، وهي تغلق الباب وتدخل إلى غرفة الاستقبال، تاركةً أباها يجرّ قدميْه وعكّازَه خلفها.
***
الرائحة في الغرفة تقتل! رائحةُ عجوزٍ لا يقدر على الاغتسال، ويأنف من أن تُحمِّمَه ابنتُه. تسرع سلوى إلى فتح باب الشرفة وتشغيل مروحة السقف، التي لا تدور بقدْرِ ما تهدر. نسمةٌ خفيفة تبثّ في وجه العجوز شبهِ النائم انتعاشًا مفاجئًا، وتنبّهه إلى حضور حبيبته التي طال انتظارُها أكثر من أسبوعين.
ــــ أهلًا وسهلًا. طلّوا الحبايب. اشتقنا والله يا بابا. وينك؟ هيك ما بتسألي عن أبوك؟
ــــ والله أنا اشتقتلك كمان. بس يا بابا الولاد شاغليني كلّ الوقت. رنيم سخنتْ كلّ الأسبوع الماضي. انتَ كيفك؟ كنت نايم؟ ربع ساعة وأنا دقّ على الباب، والله تعبت.
تأمّلها أبو يونس. وجهُها العريض المكتنز يبدو، رغم نوازل السنين، فاتنًا، تظلِّلُه خصلاتٌ من شعرها الرماديّ المُسترسل برشاقةٍ على الكتفين.
ــــ سلامة قلبك. الله يخليلي...
عرفتْ أنه لم يسمع ما قالته، لأنه لم يسأل عن رنيم، أو يُخرجْ من جيبه ورقةً ماليّةً ويرجو منها أن تشتري بها لها شيئًا. كانت سلوى تأخذ الورقة، فتشتري بها شيئًا يأكله أو يحتاجه؛ فهو لا يملك إلّا مدخولًا واحدًا من تأجير محلّ له في كورنيش المزرعة، وهي لا تستطيع أن توفّر من راتبها التقاعديّ مالًا تصرفه عليه. تكفيها أفواهُ أحفادها الخمسة الذين يسكنون معها بعد طلاق أمّهم.
ــــ تشرب شاي؟
هزّ رأسه برضًا.
قامت إلى المطبخ. تتّبعتْ مصدرَ الرائحة، إلى أن عثرتْ على حبَة بطاطا هرئة في سلّة الخضار. حملتها ورمتها من الشبّاك. ملأتْ إبريقَ الشاي من الصنبور. تساءلتْ: هذا المُعتّر، كيف يعيش بمفرده؟
حين قدّمت له الشاي كان يجلس جلستَه المعتادة: يداه مضمومتان على عصاه، وجبينُه خارٌّ فوقهما. كان يقول لسلوى حين تلومه على جلسته هذه التي تُتعب الظهر:
ــــ سليمان مات على هذا الشكل ولم يعرفْ بموته أحد. لولا السوسة، لظلّ حيًّا إلى الآن.
ــــ وأنتَ شو علاقتك بسليمان؟ ليْكونْ عندك هيكلُه وبساطُه وأنا ما بعرف!
عند ذلك كان يقهقه ويتمايل منتشيًا كأنّه سليمان المنعّم.
هزّته بيده، فرفع رأسه سريعًا. سألها بصوتٍ كالحشرجة:
ــــ ما الأمر؟
ــــ قلت إنّك تريد الشاي. كل الوقت نائم؟ شو القصّة؟
كان صوتها مرتفعًا بما يكفي ليسمعَ ويجيب:
ــــ والله يا بنتي ما بعرف. يمكن الملوحات. ويمكن الطقس، والهدوء، وقلّة الأشغال.
جلستْ إلى جواره، خجلةً من تأنّفها من رائحة جسده. كانت الأريكة تحتها طريَّةً من كثرة الاستخدام. ملأتْ كوبًا زجاجيًّا بالشاي وقدّمته إليه.
ــــ لماذا لم تجب على الهاتف؟ اتّصل فيك ابن صديقتي قبل شويّ. بيشتغل صحافي بصحيفة من أكثر من سنة. طول هذه السنة ما طلبوا منّو كتابة موضوع مستقلّ إلّا من أسبوع، وهو عم يفتّش عن موضوع جديد وجذّاب بيعملّو اسم بالصحافة. قلتلّو: ليش ما بتكتب عن بيّي أبو يونس، أكبر رجل في البلد وصاحب تاريخ؟ وافق دغري وطلب رقمك. اتصل فيّي قبل ساعة وقال إنّك بالأوّل ما ردّيت عالتلفون ورجعت شغّلت الخط.
زوى أبو يونس عينيه فانكشفتْ لسلوى تجاعيدُ جديدةٌ تشكّلتْ في غيابها. كانت بشرتُه السمراء تلمع لكثرة الزيت الذي تراكم عليه، وأنفُه المُدبَّب الأحمر متورِّمًا بسبب تضخّم جيوبه الأنفيّة. أمّا ابتسامته الرقيقة التي رسمها هذا الحديثُ المفاجئ، فكانت وحدها ما تبقّى من جمال الشابّ الذي تساءلتْ سلوى حين رأته في الصورة قبل مدّة: معقول هذا أبي؟!
ــــ صحيح، يمكن سكّرت الخطّ بالغلط. بشو فيني فيد الشابّ؟ شو بحكيه؟ قصّة حياتي؟! خلّيه يفتّش على موضوع مفيد.
ــــ بالفعل هو بدّو تحكيه قصّة حياتك! أجابت سلوى بحماسة.
ــــ ومين مهتمّ لختيار مثلي؟ ما فهمت لهلّق أشو بدّك.
ــــ خلص بكرا الصبح جهّزْ حالَك وبتفهم من الزلمي كلّ شي! بيصوّرك بالكاميرا، وبيسألك أسئلة عن حياتك، وبيخلص كلّ شي. بسيطة الشغلة يا بابا. أنا إذا قدرت بجي. المهم ما تنطّرو على الباب. رح خبّرو يجي الساعة 3.
ــــ على كلّ حال، الساعة واقفة من شهر أو أكتر، وانتِ بعد ما غيّرتيها. يعني بوقف على العكّازة وبغيّرها؟!
ابتسمتْ سلوى وقالت وهي تهمّ بالوقوف:
ــــ خلص، بغيّرها المرّة الجاي. لازم امشي. الأولاد شويّ وبيرجعوا من عند جدّهم.
طبعتْ قبلةً على جبينه ومشت. شيّعها بنظره وظلَّ على صمته. كان باله مشغولًا بما ينتظره يومَ غد.
***
استيقظ أبو يونس صباحًا على وجعٍ في عظامه ومفاصله. "يلعن أبو المراوح،" ردّد بصوتٍ ضعيف. صفّر صدرُه. شهق وسعل بشكلٍ متواصل، فشعر بشيء من النشاط. أمال رأسَه إلى باب الشرفة، فوجد نورَ الشمس قد بلغ العتبة. "الظاهر صارت الدنيا الظهر وأنا نايم." سوّى جلستَه. نظر إلى زاوية الغرفة حيث جرّةُ السيراميك الممتلئة بالزهور الاصطناعيّة. أحسَّ بأنه مشتاقٌ لأن يرى زهورًا حقيقيّةً، بل أن يدخل في حقلٍ من السنابل الخضر أو العشب البرّيّ ويسمعَ طقطقة العشب تحت قدميه.
عند الثانية عشرة، هاتف الناطورَ فتحي على التلفون الداخليّ وطلب إليه أن يشتري له "صابونة ريحتها تفّاح، وشفرة حلاقة لبتجي بكيس نايلون لونُه أزرق، ووقيّة لبنة حلوة، وكيلو موز بلدي مسْتوي. وخلّيه يسجّلهم على الدفتر بإسمي."
ــــ بأمرك يا حاج. ابسطْنا معك طيّب! حفيدة سلوى صار بدّها تتزوج؟ أو في صبيّة حلوة جاي تطلّ عليك؟ وضحك فتحي بخبث.
ردّ أبو يونس بشكلٍ متقطّع:
ــــ هلّق انت مالَك بالقصّة؟ جيبهم وخود أجارك.
صمت قليلًا. حدس أنّ فتحي سيَصلي على باب البناية ليعرفَ من سيأتي، فقرّر أن يخبره:
ــــ جاي لعندي صحافي ليعمل معي مقابلة. إذا سألك عني دلّو على البيت وشغّلو الأصنصير.
عند الثانية ظهرًا كان أبو يونس قد حلق ذقنَه، واستحمّ، ولبس قميصًا أصفرَ وسروالًا أسود، وجلس على كنبته ينتظر ضيفَه. اشتدّ الألمُ في عظامه ومفاصله بعد الاستحمام بالماء البارد. أمّا صدرُه فأخذ يرتفع ويهبط بسرعة كما لو أنّه ينذره بنوبة رشحٍ قادمة. كان زعيقٌ قادم من الطابق العلويّ يملأ الغرفة، لكنّه لم يعد يسمع أمورًا كهذه منذ أن تكلّستْ أذناه قبل عشر سنوات واعتاد الحياةَ بمفرده منذ أن سافر يونس مع عائلته إلى فنزويلا.
***
عند الثانية والنصف، رنَّ جرسُ الباب، فسمعه أبو يونس لأنه كان يمرّ بمحاذاته متوجِّهًا إلى المطبخ. فتح الباب ليجد أمامه شابًّا طويلًا ونحيفًا، يعلّق على صدره كاميرا ويمسك دفترًا صغيرًا. توقّع أبو يونس ألّا يكون الفتى قد أتمّ العشرين؛ وهذا ما أثار حفيظتَه لأنّه كان يتوقع أن يقابل شابًّا ناضجًا ومثقفًا.
ــــ تفضّلْ يا ابني!
ومدَّ يده ليصافحَه.
ــــ اسمي أمجد يا عمّو، قال الشابّ وهو يهزّ يدَ العجوز بحرارة.
دخل أمجد غرفةَ الاستقبال، فشمّ الهواءَ الفاسد. وقع نظرُه، أولَ ما وقع، على صورةٍ بالأبيض والأسود معلّقةٍ على الحائط مقابل الباب. عروسان يميلان برأسيْهما دلالًا. "كم كان وسيمًا وقتها،" خاطب أمجد نفسَه. وما إنْ سمع صوتَ العكّاز يقترب حتى استدار إلى أبي يونس وقال:
ــــ عفوًا لكنّ الصورة شدّتني إليها. كنت حلاوة يا حاج. شبوبيّة ووسامة.
ابتسم أبو يونس وقال:
ــــ هذه الصورة في الأربعينيّات، كنت وأم يونس زوجين جداد. بوقتها، ما كانت الناس تتصوّر. بس أن جبت مصوّراتي. يعني الصورة أكبر منك بأدّيش؟
ابتسم أمجد وقد أحس بالتهكّم في كلام العجوز، وقال:
ــــ بكتير.
مشى أبو يونس إلى كنبته ودعا أمجد:
ــــ تفضّل اجلسْ!
أذعن أمجد لدعوة العجوز. دارت عيناه في أرجاء الغرفة، التي كانت لا تتّسع إلّا لأثاث بسيط ومحدود: كنبتين، وكرسيّ، وطاولة، وخزانة خشبيّة مزجّجة تحتوي بعضَ الفناجين والتحف البلّوريّة. الجدران كانت فيما مضى عاجيّة اللون، أمّا اليوم فتبدو صفراءَ باهتة. نظر إلى الأعلى، فلمح فقاقيعَ الطلاء المنفوخة بالرطوبة، وسحليةً معلّقةً بالسقف تهزّ ذيلَها بانتظام.
ــــ خبّرتني خالتو سلوى إنّك كنت مع الفدائيّة بمعركة الكرامة(1)، قال أمجد مرتبكًا بعض الشيء.
أشار أبو يونس إلى أذنه اليمنى.
رفع أمجد صوتَه هذه المرّة إلى حدّ الصراخ:
ــــ صحيح انّك حاربت بمعركة الكرامة؟ حابب أكتب عن هيدا الموضوع.
هزّ أبو يونس رأسَه، وعلّت وجهَه ابتسامةُ زهو.
ــــ إذا بدّك تعرف قصّة حياتي لازم تبدأ من الأوّل. يعني من لمّا كنت روح على مدرسة الشيخ عبد الله بصيدا. ما كان شيخ شيخ يعني، بس كنّا نناديه هيك لإنّو كان كبير بالعمر. حفظت القرآن الكريم كلّو. وكنت شاطر بالحساب والأدب والشعر، وقلت لازم صير شاعر. نظمْت شعْر، وألقيت بالمدرسة وبالجامع بذكرى ولاد النبي، بس ما كفّينا. الشغل أخدني من كلّ شي بحبّو. اشتغلت مع بيّي بالمحلّ. كنّا نبيع صابون غار وصابون فرنجي. كانوا يقصدونا من بيروت...
ــــ عفوًا عمّو، أنت مواليد أيّ سنة؟
صمت أبو يونس. كان يحفظ تاريخ ميلاده جيدًا: شباط 1905. لكنّ والده سجّله في النفوس بعد عقد من الزمن لأنّ أحدًا لم يكن يهتمّ بالأوراق في تلك الفترة.
ــــ 1915 يا عمّي.
ــــ أوف! يعني عمرك 100 سنة؟! الله يطوّل عمرك!
لم يعقّب أبو يونس، وأردف قائلًا:
ــــ كنت أشتغل 12 ساعة في النهار. نصنع الصابون ليلًا، ونبيعه في النهار. بعدها ريحة الصابون بأنفي.
واستنشق الهواءَ كأنّه يريد أن يشمّ رائحةَ الغار من جديد.
ــــ لكنْ بقيت أتابع سياسة وأسمع الشعراء. فهمت إنّو إذا ما كنت من عائلة سياسيّة أبًّا عن جدّ، فلازم تكون من عيلة ماكْنة. بدّك مصاري كتير ليصير عندك زلم. صرت اشتغل من قلبي وصمّد مال.
ــــ شو عملت لتعيش كتير؟ أكيد كنت تاكل أكل طبيعي وتُحْرُك كتير.
احتار أبو يونس ماذا يقول! هو أصلًا لا يعرف لماذا عاش إلى هذا الحدّ بينما توفّي إخوتُه باكرًا. اعتاد الموتَ على تجنّبه. لقد مرّت رصاصةُ اليهود قرب أذنه وسمع أزيزَها في كفرشوبا، واخترقتْ كتفَه شظيّةُ قذيفةٍ في الضفّة الغربيّة حين كان يتسلّل من الأردن مع خمسة فدائيين لتفجير فندقٍ إسرائيليّ، وانزلقتْ به السيّارة إلى الوادي قبل أربعين عامًا حين كان يشتغل موزِّعا لمجلّة شؤون فلسطينيّة.
لماذا كان عليه أن يعاين الموتَ ولا يذوقَه؟ ألأنّه كان يخاف أن يموتَ كالكثيرين الذين لم يعد لهم من أثرٍ في الدنيا سوى قبر؟ كان يعتقد أنّ الدهر عانده، وأنّ الحظّ لم يسعفه. لو أنه استفاد من نفوذه يومَ كان معه السلاحُ والرجالُ والكلمةُ "التي لا تصبح اثنتيْن،" لكان اليومَ زعيمًا كرفاقه الذين كان يراهم على التلفاز يصرّحون للإعلام ويُسألون عن إنجازاتهم وتاريخهم!
هذا الصحافيّ المبتدئ بلا ذوق. جاي يسألني عن عمري؟! ومع ذلك أجابه بكلمات متقطّعة:
ــــ طبيعي... حياتنا... طبيعي.
ألحّ أمجد بالسؤال:
ــــ يعني صحّتك ما شاء الله سليمة. الظاهر ما بتاكل أكل مصنّع.
غضب أبو يونس، لكنّه لم يُظهر غضبَه. ماذا يريد هذا الأهبل؟ سأل نفسَه. ظننتُه يريد أن يستمعَ إلى تاريخي، أن يطلب منّي الحديث عن الحركة الوطنيّة، عن أيلول الأسود، عن حصار بيروت... إجا يسألني عن الصحّة والأكل؟!
لكنّه استدرك مخاطبًا نفسه: مين مهتمّ لهودي يا أبو يونس؟ خلص قلنا إنّو يللي فات مات. بس إنت يا أبو يونس فتت وما متت. الحركة خلصتْ، الثورة خلصت، والرجال صفّوهم واحدْ واحدْ. مين سألان عن التاريخ ليسأل عنك؟ احكِ عن الحاضر. فهامْ شو بدّو هالصبي بلكي بفيدك.
تحرّكتْ أسنانُه الاصطناعيّة في فمه فأصدرتْ طقطقةً، ثم قال:
ــــ الصحّة من الله منيحة. تعوّدت آكل صحّي من صغري. كنت جوع حتى ما آكل معلّبات وصناعي. صار عمري 110 سنين، والحمد لله بعدني بمشي وبحكي.
رفع أمجد نظرَه عن الدفتر وتوقّف عن الكتابة. قال متعجّبًا:
ــــ 110 سنين؟ كيف؟ ذكّرني مواليد أيّ سنة؟
ابتسم أبو يونس ابتسامةً خفيفةً وهزَّ رأسه. قال بعد أن تراجع في جلسته:
ــــ والدي سجّلني بالنفوس بعد عشر سنين من ولادتي. ولدت بشباط 1905، متل ما قالت أمّي، الله يرحمها.
ــــ أوف! هيدي خبريّة يا عمّو! يعني أنت أكبر معمِّر بلبنان! فعلًا هيدا خبر، قال أمجد منفعلًا، فرحًا.
ضحك أبو يونس بصوتٍ عالٍ متقطّع، فغصّ وسَعل. لقد سُرَّ حين رأى الدهشةَ في عينَي الشابّ. لم يكن يظنّ أنّه قادر على إثارته إلى هذا الحدّ، وأنه سيَكبر في عينه بهذا القدر حين يعرف عمرَه الحقيقيّ. ولهذا فقط، كان على أبي يونس أن يمضي بقيَّة نهاره في الحديث عن أسرار نجاحه في العيش قرنًا وعقدًا.
بيروت
(1) وهي من أوائل المعارك التي نشبت بين "الاسرائيليين" والفدائيين الفلسطينيين وعناصر من الجيش الأردني في منطقة شرق الأردن في العام 1968. انتهت المعركة بفشل جيش الاحتلال بتحقيق أهدافه وطلبه وقفَ إطلاق النار.
كاتب وطالب جامعيّ لبنانيّ.