تناوبتْ على "فلسطين الجديدة،" منذ أوسلو، ثماني عشرة حكومةً، خلت - كلُّها - من وزارتيْن نقيضتيْن: وزارة الدفاع ووزارة السعادة؛ وكأنّ ثمّة تواطؤًا، صادرًا عن قدَرٍ إغريقيّ الملامح، لإسكات مفارقةِ غيابهما، معًا أو على انفراد. لكنّ لهذا الشغور سببًا واحدًا، هو الغياب (حتى إشعارٍ آخر) لدولةٍ وطنيّة، سيِّدةٍ، تتحكّم بسياسات الموت والحياة. وكما تقترح قوانينُ الفيزياء في ملء الفراغ، ذلك الفراغِ الذي أبدعتْ في إحداثه منظّمةُ التحرير الفلسطينيّة وسلطتُها، فقد تولَّت المهمّةَ أجسامٌ بديلة، أبرزُها مؤسّسةُ "المقاومة" ومؤسّسةُ "الثقافة." ولكلٍّ منهما بلاغةٌ مدجَّجةٌ تصف سياساتِها وممارساتِها ونتاجاتِها.
وعلى الرغم ممّا تثيره "مؤسّسةُ المقاومة" من شهيّةٍ إلى الكتابة، فإنّ هذه المقالة آثرتْ تناولَ الوقائع الغريبة لنشوء "مؤسّسة الثقافة" مدخلًا إلى نقاشِ ما غمز به إلياس خوري قناةَ أصدقائه في فلسطين، التي "باتت تعيش في مقبرةٍ لغويّةٍ وثقافيّةٍ وسياسيّة."[1] وكواحدٍ من الأصدقاء الذين يعرف إلياس اشتغالَهم بالمقابر التي تملأ جغرافيّاتِ فلسطين وشتاتَها،[2] فإنّني أسمحُ لنفسي بتمرينٍ إضافيّ، ألا وهو: نبْشُ مقبرةٍ "مفاهيميّة" متراميةِ الأطراف، من دون أن أستدعيَ منيرفا ولا بومتَها، أو أتوهّمَ وفرةَ الورود وكثرةَ المعزّين على المقبرة، التي ما زال في وسعها أن تكون حقلًا خصبًا لاستيلاد المعاني الحالكة. علَّ هذه المعاني تكون باعثةً على التضامن والثورة؛ فالسعداء لا يتضامنون ولا يثورون.
"ليست فلسطينُ استثناءً إلّا في سفور عدالةِ قضيّتها، واستمرارِ مظلمتها التاريخيّة، واستيطانيّةِ الاستعمار الصهيونيّ الذي سبّبها": هكذا تندَّر روبرت يانغ، مُحقًّا، في حواريّةٍ استضافتْها جامعةُ بيرزيت،[3] حين سُئِلَ عن "خصوصيّة الشرط الاستعماريّ في فلسطين." ولذا، فلا ضيْر إنْ مارسَتِ النظريّةُ، التي تتقن فنَّ التنافذ (osmosis)، بعضَ نرجسيَّتها، لتفسير نجاح المؤسّسة السعيدة في مراكمة ريْع الشقاء وبؤس المعاني في فلسطين.
لا يفرِّق تيري إيغلتون، صديقُ الفلسطينيين النبيل، بين فضاءات المركز الاستعماريّ والهامش المستعمَريّ في ما يتعلَّق بمصائر الثقافة في زمن اندثار نظريّتها.[4] وإذا ما تجاوز المرءُ ما تُحْدثه المبالغةُ في السخرية من تذرُّرٍ في مقولة إيغلتون، فإنّه يحيل على كيفيّة تعامل الهامش المستعمَريّ مع الثقافة بمفرداتِ "ما بعد الاستعمار،" من حيث تصنيفاتها المدرسيّة، المتعلّقة بحقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، نحو: مصائر الحركة الوطنيّة، وتحوّلات النخب، وخيارات الأفراد، وسياسات الذاكرة والنسيان.
لقد نجحتْ منظّمةُ التحرير الفلسطينيّة في السقوط الحرّ في دولابِ ما بعد الاستعمار حين تحوَّلتْ إلى "سلطة،" طاويةً صفحةَ "التحرير،" من دون أن تفتحَ صفحةَ "الاستقلال." وبين الصفحتين، غير الموقَّعتيْن بخاتمةٍ لائقة، بنَتِ السلطةُ وهمَها الدولتيّ في رام الله السعيدة، في ما يشبه لعبةَ "بيت بيوت" للكبار، عنوانُها "دولةُ الأمن والمؤسّسات،" كصيغةٍ مخفّفةٍ من مشروع رئيس وزراء الحكومة الفلسطينيّة الثالث عشرة، سلام فيّاض، الذي نحتَ منه الإعلامُ الرسميُّ بطلًا نقيضًا لبن-غوريون، حين فجَّر ثورةَ "إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة" في آب 2009. مرَّ عقدٌ من الزمن، لا عامان وحسب كما بشَّر "البطلُ النقيض،" ولم ينتهِ الاحتلالُ، ولم تقم الدولة. لكنّ السلطة برعتْ في تحقيق مهمّتها في "الأمن" و"المؤسّسات،" تمامًا على صورة الخالق الاستعماريّ الذي فرضَ شروطَ أوسلو كلّها: من نبذِ السلاح إلى استيراد التفّاح.
وبذا، فقد تحوَّلتْ "فلسطين الجديدة" (المعدَّلةُ جينيًّا على المستويات الجغرافيّة والديموغرافيّة والثقافيّة) إلى حاضنةٍ مثاليّةٍ للتنافس الشعبويّ على السلطة، الذي قاد إلى انقسام 2007 الكارثيّ بين غزّة والضفّة. كما قاد إلى الخروجِ بمبادراتٍ متضاربةٍ لحلّ القضيّة الفلسطينيّة على أيدي الجماعات الفلسطينيّة التي استُثنيتْ من "الغنائم" (وهي الشريكة الكبرى في "المغارم"). وسَمح بالتناسل المؤسّسيّ، الذي أمَّن فضاءً لهيكلة الفساد وفُرْجويّةِ الحضور البيروقراطيّ، على نحوٍ يجعل من وزارات جورج أورويل، في روايته 1984،[5] محضَ خردةٍ كوميديّة. وقاد، أخيرًا، إلى التردّي اللافت في التحكّم بسياسات الهويّة الذي أحال "الآخرَ" الصهيونيّ - - في زمن "دائرة شؤون المفاوضات" في المنظّمة، و"التنسيق الأمنيّ المقدّس" في السلطة، و"لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيليّ" في حركة فتح - - إلى مرآةٍ معتمةٍ لكشف حقيقة الفلسطينيين الكئيبة.
ونتيجةً مباشرةً لازدهار هذه الحاضنة الرسميّة، تحوَّل المجتمعُ المدنيُّ الفلسطينيّ، في أغلبه، من جزءٍ تكوينيٍّ في الحركة الوطنيّة المقاوِمة للاستعمار إلى هيكلٍ مقلَّمِ الأظافر، متعايشٍ مع الواقع الاستعماريّ، ويسعى، في أحسن الأحوال، إلى "تفكيكه" (de-colonizing) عبر القانون أو المنهج أو المعمار...، بكلِّ ما أوتي من مهارات "التمدُّن الماكر،" الملخَّصة في وصفة هومي بابا السحريّة في كتابه موقع الثقافة.[6] لقد صار هذا المجتمع، الذي فقد كثيرًا من سماته المدنيّة، محضَ جماعةٍ من "الوسطاء" السعداء، بين الشعب المغلوب والسلطة الغالبة، وبين السلطة المغلوبة و"أصدقاءِ فلسطين" في العالم بعد أنْ نسيتْ منظّمةُ التحرير أسماءهم حين صارت سلطةً؛ ودخلتْ "نيوليبراليّةُ" التقدُّميين في زواج مسيار طويلِ الأمد خارج الحدود الوطنيّة (ويا له كم كان ذهبيًّا قفصُ النيوليبراليين!). هنا، تحقّقت النبوءةُ اللينينيّة الأثيرة: فكانت فواعلُ الثورة مسؤولةً، في نهاية المطاف، عن وأد هذه الثورة.
فبعد أنْ وافق المجتمعُ المدنيّ، في معظمه، السلطةَ على تعديل وصف الجماعة الفلسطينيّة المتخيَّلة وأدواتِها ومسارِها وأهدافها لغير مسار التحرير؛ وبعد أن تحالفت الحالةُ الرسميّةُ الفلسطينيّة مع رأس المال، وكرَّس رأسُ المال شراكتَه مع البنى الاجتماعيّة التقليديّة؛ وبعد أن تواطأت الغالبيّةُ في تحييد الاحتلال الصهيوني ّعن المواجهة؛... بعد ذلك كلّه لم يفلحْ أحدٌ في إنقاذ قطار الحركة الوطنيّة، الذي علِق في نفق أوسلو، بل استثمر الجميعُ عرباتِه المهشَّمةَ للاسترزاق السريع، إنْ جاز فهمُ استعارة الطاهر وطّار، في خاتمة روايته، الشهداء يعودون هذا الأسبوع،[7] على هذا النحو الحَرْفيّ.
في حمأة هذه التحوُّلات، انخرطت البنى الاجتماعيّةُ، التي صار من الصعب حدُّها طبقيًّا، في إعادة صياغة أولويّات الصراع مع الصهيونيّة و"إسرائيل." وقد غلب على هذه الإعادة التقليلُ من مركزيّة "النزعة الأصلانيّة" (De-centering Indigeneity) للفلسطينيين، التي لم تعد تتناسب مع الخيارات السياسيّة للحالة الرسميّة الفلسطينيّة، ولا مع التبعيّات الاقتصاديّة لرأس المال. ولم تعد تتناسب أيضًا مع الأجندات "الثقافيّة" لمنظّمات المجتمع المدنيّ، التي تمتّعتْ بسيولةٍ لافتةٍ في هويّتها، يعكسها اشتغالُها بمصفوفةٍ عناوينُها: "التحوُّلُ الديمقراطيّ" و"الإصلاحُ القانونيّ" و"التنميةُ المستدامة" و"تفكيكُ التنمية" و"العدالةُ الانتقاليّة."
اللوحة لمصطفى الحلّاج
وباختصار، لم يكد الفلسطينيّون يَنْجُون من وطأة الإرث الاستعماريّ الثقيل حتّى بات عليهم "الاعتدالُ" في صوغ سياسات الهويّة الوطنيّة، والتطرّفُ في الاستجابة لـ"استحقاقات المجتمع الدوليّ،" في آنٍ معًا.هنا، تكاثرت المؤسّساتُ السعيدة، إلى حدّ أنّ السلطة الفلسطينيّة أفردتْ لها وزارةً خاصّةً، تحوَّلتْ هي نفسُها إلى "مؤسّسة رسميّة فلسطينيّة تَتْبع لرئيس دولة فلسطين،" وتُطلَق عليها تسميةُ "هيئة شؤون المنظّمات الأهليّة الفلسطينيّة." "وزارةُ المؤسّسات" السعيدة هذه صارت "مؤسّسةً" سعيدة. أمّا الأفراد، العاثرو الحظّ، المغتربون عن هذا الواقع، لا المتصالحون معه، فلم يكن لهم كبيرُ نصيبٍ من السعادة فيه، وبصعوبةٍ حظُوا بـ"وزارة سعادةٍ قصوى،" بقبرٍ بلا شاهدة، كالذي اقترحته أرونداتي روي في روايتها التي تحمل العنوانَ ذاتَه؛[8] إذ لا مكان للحزانى في أسواق الفرح.
وفي كنف "أمّ المؤسّسات" هذه، نشأتْ مُعجميّةٌ نيوليبراليّةٌ فاضحة، ونحوٌ إيديولوجيٌّ رديءُ الترجمة، وسوقٌ مخمليّة، لا يدخلها الفقراء، لإنجاز المقاولات "الإصلاحيّة" ولتسليع وهم "التغيير" ووسمِه. من مظاهر هذه السوق: مطابعُ متخصّصةٌ بالدعوات واللافتات، وحقائبُ للمؤتمرات والورشات، وقاعاتٌ متعدّدةُ الاستخدامات مزوّدةٌ بخدمة الفيديو - كونفرنس مع غزّة (ينقطع بثُّه في معظم الأحيان)، وفِرقُ ترجمةٍ فوريّة، ومخطِّطون، وإعلاميّون، ومراسلون مأجورون للتغطية، ومَرافقُ خدماتيّة (بيوت ضيافة، وفنادق، ومطاعم، ومقاهٍ، وبارات...)، وأدلّةٌ لإجْراء جولاتِ سياحةٍ - احتلاليّة (occu-tourism) على الجدار العازل والمناطق المعزولة، وكَتبةُ تقاريرَ ختاميّةٍ، ومقوِّمون، وعشاءٌ أخيرٌ أصلانيُّ النكهات، يتلوه عملٌ على "نشْر المُخْرَجات"!
لكنّ الظاهرتيْن الأكثرَ بروزًا في هذه السوق الغربيّة الغريبة، التي لم تكن الثقافةُ إلّا حارسًا واجمًا بشنبٍ شرقيٍّ على مدخلها، كانتا: الفُرجويّةَ/الأدائية المفرِطةَ بغية إنتاج واقعٍ فوق واقعيّ؛ و"الحياةَ اليوميّةَ" وثقافتَها المفردنة وقد تمّتْ أيقنتُها بغية التغطية على الانسحاب من "الحياة الأمْسِيَّة" وثقافتِها الجمعيّة في ما يتعلّق بمواجهة العدوّ الصهيونيّ. بين الفُرجويّة المفرطة وأيقنةِ الحياة اليوميّة، سقطت الثقافةُ مغشيًّا عليها، وهي تنوس بين المديح والهجاء لتحوُّلات مشروعٍ وطنيّ حفرتْ مقبرتَه منظّمةُ التحرير، ودفنتْه السلطةُ الفلسطينيّة، وبثَّت منظّماتُ المجتمع المدنيّ فيها (أي المقبرة) أكاليلَ زهرٍ صناعيٍّ كثيرِ الأشواك عديمِ الرائحة، وارتزق المثقّفُ السعيدُ فيها بأكثرِ الوظائفِ راحةً حين صار قابلةَ موتٍ ثقافيّ (cultural doula): يحبّ لحمَ المآتم، ويدَّعي كراهيّةَ طقوس الذبح!
وحين حضرت النظريّة لفهم هذه التحوّلات الثقافيّة، كانت شاحبةً، ليس في وسعها إلّا ممارسةُ التشبيح الإيديولوجيّ غير المنتِج، داخل فلسطين التاريخيّة. أمّا خارجها، فقد أزهر القبولُ "العقلانيّ" بالمآلات التراجيديّة للمشروع الوطنيّ، ولم يَسلمْ منه الراحلُ الكبير إدوارد سعيد نفسُه حين بعث الحياةَ في "فينوس المتذكِّر" الذي أبدعته قريحةُ بورخيس،[9] في دعوةٍ خجولةٍ إلى تعديل الحبكة التاريخيّة - - وهي دعوةٌ ألمح إليها محمود درويش، مرَّةً، عبر حمل الذاكرة الوطنيّة على أنْ تكون انتقائيّةً، أيْ على الغرق في عسل النسيان عوضًا من حنظل الذاكرة [10]... مع الحرص التامّ على "قواعد اللياقة" عند خيانة هذه الذاكرة الوطنيّة، وفي فراشها بالذات.
هنا، لم يعد النقاشُ النظريُّ حول تفسير الرضَّة الأخلاقيّة البالغة التي أصيبت بها الثقافةُ الفلسطينيّةُ قابلًا للحصر في نقد "المثقّف" كفرد، مهما بلغتْ براعةُ التشخيص. لقد تساجل الصديقان فيصل درّاج وحسن خضر: فنقَد الأولُ، غرامشيًّا، "بؤسَ الثقافة في المؤسّسة الفلسطينيّة" من مدخل انتهازيّة "المثقف الريفيّ"؛[11] في حين نعى الآخرُ، سعيديًّا، سيولةَ الدلالة وفوضاها في "الحقول الثقافيّة المتوازية" التي تناهبتها "النخبُ" المتوالدةُ ومقاولو الأنفار.[12] وعلى أهمّيّة هذا السجال، فإنّه لم يتوقّفْ مطوّلًا عند "الفيل الذي في الغرفة،" أو بصيغة مُعرَّبة "البغل الذي في الإبريق"، وهو المؤسّسة الثقافيّة الفعليّة التي ترعى المثقّفين الريفيين، وتُسهم في تعميم فوضى الدلالات، وتُعزِّز نُخَبًا وتُقصي أخرى، ولديها برامجُ متخصّصةٌ لتدريب مقاولي الأنفار قبل بلوغ سنّ النجوميّة الشائهة على شهوةٍ من "الأقمار الجميلة" (أي المثقفين الجدّيين والجذريين).
لقد كان من أهمّ عوامل نجاح المؤسّسة الثقافيّة في تحقيق سعادتها الذاتيّة أنّها تمكَّنتْ من بناء "برنامج ردعٍ ثقافيّ" لا يكتفي بحراسة خيارات الفُرجة المفرطة و"الحياة اليوميّة،" بل تجاوز ذلك نحو تدمير الخيارات الأخرى في الحقل الثقافيّ، وذلك عبر ثلاث آليّات:
- تطبيقُ نموذج الخروج عن المعياريّة في الحقل السياسيّ (كما ذُكر آنفًا) على الحقل الثقافيّ، بحيث تحوَّل الخروجُ عن المعيار هو نفسُه إلى معيارٍ مقدَّس؛
- التحكُّمُ شبهُ التامّ بالمشهديّة الثقافيّة في الفضاء العامّ، وذلك عبر تحديد ماهيّة "الحَسن" و"القبيح" انطلاقًا من اليوميّ (الراهن)... مع الحرص على حظر إخضاع شروط هذا الأخير، السياسيّة غير اليوميّة، للنقد، عبر نزعةٍ أقربَ ما تكون إلى "لجم العوامّ عن الكلام،" وذلك بعد أنْ كُسرت احتكاريّةُ المركز الأكاديميّ في توليد المعرفة النقديّة والذوقيّة؛
- زيادة التسليع النيوليبراليّ للثقافة، على نحو غير مسبوق، عبر "أيقنة النتاجات" التي ليست أدوات: الاستضافة، والإيفاد، والمسابقة، والنشر، والجائزة.... إلّا بعض تمظهراتها.
وخلاصة الأمر أنّ المؤسّسة الثقافيّة لم تطلقْ صافرةَ النهاية على زمن النظريّة الثقافيّة وحسب، بل على زمن "البراءة الثقافيّة" على حد تعبير إيغلتون، لكي تتمكّن من استكمال خلق "مجتمع فُرجة ثقافيّ" كامل الأوصاف، باستعارةٍ فجّةٍ من غي ديبور،[13] يلطَّف حسن خضر من فجاجتها، عادةً، بتوصيفٍ أكثر دقّةً لنتوءات المشهد الثقافيّ بالقول إنّها "ثورة ثقافيّة مضادّة."
إنّ المطّلع عن قرب على المؤسّسة الثقافيّة في فلسطين الجديدة، وبخاصّةٍ في رام الله السعيدة، قد يَشْتبه في أنّها صُمّمتْ على صورة مجمَّع بوبور (Beaubourg)، المعروفِ كذلك باسم "متحف بومبيدو" في باريس. في المصطنع والاصطناع، استخدم جان بودريار هذا المثالَ، على نحوٍ لامع، من أجل نقد ولادة "الواقع فوق الواقعيّ" (Hyperreal)، الذي يُتاح فيه لرأس المال أن يُنتج "سلعةً فوق السوق" (Hypermarchandise) و"ثقافةً فوق الثقافة" (Hyperculture)، لا تعدو كونَها "تحفةً بهيّةً من تحف الثقافة المضادّة."[14] ولعلّ هاجسَ المقابلة لا يتولَّد من "التخاطر المعماريّ" بين مؤسّسات رام الله ومؤسّساتِ باريس (الطوابق المتعدّدة، واتساع قاعات العرض السينمائيّ، وارتفاع صالات العرض الفنّيّ، وضخامة المكتبات، وشموليّة الأرشيفات، وفيتيشيّة الشفافيّة الزجاجيّة، والخِدع التصميميّة المدهشة، بالإضافة إلى مختلف المستحضَرات الأخرى للسعادة، من: طواقم فنيّة، وخبراء أجانب، ولجان تحكيم عالية الكعب...)، بل من "التخاطر الرأسماليّ" في صناعة السياسات والممارسات والنتاجات الثقافيّة.
وفي هذا الصدد، يحذّر بودريار من كارثيّةِ مؤسّسةٍ كهذه؛ ذلك أنّها تصير آلةً لصنع الفراغ، أشبهَ بمُفاعل نوويّ ثقافيّ يعيش في عزْلٍ تقنيّ وبيئيّ واقتصاديّ وجيوسياسيّ، وفي داخله يتبلور نموذجٌ للأمن المطلق الذي يتعمّم على الحقل الاجتماعيّ كلّه. ومع فارق الأحجام (مقارنةً بالمُفاعل النوويّ العسكريّ)، يتبلور في المركز انشطارٌ ثقافيّ وردعٌ سياسيّ؛ وفي خارجه، يتحوَّل كلُّ ما يختلف معه إلى رمادٍ قاحلِ المعاني، تذروه رياحُ الهامش.
لقد تمكّن هذا الهيكلُ الردعيّ، أي "المؤسّسة الثقافيّة السعيدة،" من تحقيق "أمنٍ" ثقافيّ، تمّت نمذجتُه، بعد أن جرى تحويلُ الجمهور إلى رقيقٍ ثقافيٍّ مُدجَّنِ المشرَب، غيرِ معترفٍ ببُكمه النقديّ، ولا بتوقّف فاعليّته بعد أن جرى تحنيطُها عبر متحفةِ اسمِه على "قائمة المستفيدين" في "صفحة المؤسّسة." لقد صارت "المؤسّسة" مأتمًا هائلًا للثقافة، يؤمُّه سعداءُ "الواقعيّة" الثقافيّة، المتصالحون مع علاقات الارتزاق من ريْع الاصطناع الذي صنعته السياسةُ لا التاريخ. فصارت ثقبًا أسودَ للذائقة، وماكنةً للمحو العنيف للجميل، الذي أُنسيَ المتأمِّلون ملامحَه حين التزموا بقواعد التداول الجديدة لسِلع الفُرجة الراهنة. وفي حين أعلن بعضُ مثقّفي المركز الاستعماريّ النبلاء قلّةَ حيلتهم على اجتراح أدوات مقاومة من داخل مُفاعلات الردع الثقافيّ، فدعوْا إلى ثورة فعليّة عليها ("لنعملْ جميعًا على هدم بوبور!")، فإنّ المثقّفين الجذريّين الفلسطينيين ما زالوا يمارسون عنفَهم الرمزيّ، غيرَ بالغ الأثر، لصوغ شعارٍ ثوريّ، مؤدّاه: "فلنعملْ جميعًا على هدم المؤسّسة السعيدة!"
لقد رضي معظمُ مثقّفي المؤسّسات السعيدة بكسوف فلسطين (باستعارة مارتن بوبر) هويّةً وقضيّةً، خلف التشكيل السياسيّ لهذا المعنى، الذي أعادت صياغتَه منظّمةُ التحرير الفلسطينيّة وسلطتُها. كما غضّوا الطرفَ عن تطبيق دعوات تفكيك "البطل العسكريّ" على "البطل الثقافيّ،" الذي بارك كسوفَه المجالدون الثقافيّون (Cultural Gladiators) لتحوُّلات المجتمع المدنيّ. لم تتحرّرْ فلسطين، ولم تنتهِ دواعي البطولة، لكنَّ نُخب المؤسّسات السعيدة انحازت إلى فكاهةِ بريخت في تعقيبه على سماجة غاليليو؛ فلم تسمع الشقَّ الأولَ من معادلة السعادة: "تعيسةٌ بلادٌ لا أبطالَ فيها،" بل احتكرت تأويلَ شقّها الآخر: "تعيسةٌ بلادٌ تحتاج إلى أبطال."[15] هنا اتسعت حدودُ المؤسّسة الثقافيّة السعيدة وفعلُها لتشملَ فلسطين، التي أحسن إلياس خوري مَوْضَعَتَها في "مقبرة لغويّة وثقافيّة وسياسيّة."
لكنْ، إذا كانت المقبرةُ قدرًا، فليست السعادةُ الزائفةُ كذلك. لقد اقترح حسين البرغوثي حلًّا: "ماذا أقدِّم للمقبرة؟ إنّ الطريق إليها طريقٌ لنخرجَ منها خروجَ الإله. ليست يدُ التذبيح أقوى من سيول الحياة."[16] فالقتالُ ضدّ موت الثقافة، على النحو الذي تمّ تبيانُه أعلاه، هو الطريق الوحيد للخروج من المقبرة السعيدة بوفرة ساكنيها.
ثمّة شرط واحد لتغيير هذا الواقع غير السعيد، الذي تحوّلتْ فيه الانتهازيّةُ إلى إيديولوجيا، والقبحُ إلى وجهة نظر معياريّة في الجمال. وهذا الشرط هو التسليمُ بالوجود في "المقبرة" من دون التسليم بخطاباتها التي لا تحيل إلّا على ثقافةٍ نجحتْ في إيذاء نفسها، حتى صارت جسدًا ذاتيَّ النزف (self-lacerated culture)، لا يقوى على أيّ مواجهةٍ مع آخره الصهيونيّ. ربّما لا نحتاج مهاراتٍ خاصّةً في النظريّة، ولا في النرجسيّة، لكي نَفهم، من منظورٍ ثقافيّ، الحصادَ الفُرجويَّ للشهر الأخير في مقبرتنا السعيدة: ظهورَ "ملاك السلام" خارج أسوار القدس، و"إعدامَ عشتار" في نابلس، و"تحريم غناء" صول - باند في غزّة، و"تفكيكَ العسكرة" في بيرزيت، و"تقريرَ الفساد" في رام الله، و"إسقاطَ سيداو" في الخليل... إذ ليس علينا إلّا أن نقرّر القفزَ خارج سور المقبرة، من دون التورُّط في بهلوانيّات قفز الباركور!
جامعة بيرزيت - فلسطين
[1] إلياس خوري، "رسالة إلى الصديقات والأصدقاء في فلسطين،" القدس العربي، 11 تشرين الثاني 2019.
[3] حوار استضافه معهدُ مُواطن للديمقراطيّة وحقوق الإنسان، مع كلّ من روبرت يانغ وفوزية أفضل خان، حول: دراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات التحرّريّة، ودراسات المرأة، والأدب، والفنون الأدائيّة، والدراسات النقديّة، بتاريخ 13 أيار 2017.
[4]راجع الفصل الأول من كتابه:
Terry Eagleton, After Theory, New York: Basic Books, 2003
[5] جورج أورويل، 1984، ترجمة: أنور الشامي (الدار البيضاء: المركز الثقافيّ العربيّ)، 2006.
[6]Homi Bhabha, The Location of Culture, London: Routledge. 1994
[7] الطاهر وطّار، الشهداء يعودون هذا الأسبوع (القدس: منشورات صلاح الدين، 1978).
[8]Arundhati Roy, The Ministry of Utmost Happiness, New York: Knopf, 2017
[9] للاطلّاع على مقاربة إدوارد سعيد في هذا الخصوص، أنظرْ:
Edward Said, “Unresolved Geographies and Embattled Landscapes,” The Annual Eqbal Ahmad Lecture, Hampshire College, Recorded in Amherst. MA from the weekly series Alternative Radio, broadcast 17 September 1999.
[10] للمزيد من التفصيل حول ذلك، أنظر:
Al-Shaikh, Abdul-Rahim, ‘The Political Darwish: In Defense of Little Differences’, Journal of Arabic Literature,48, 2017, p 93-122
[11] فيصل درَّاج، بؤس الثقافة في المؤسّسة الفلسطينيّة (بيروت: دار الآداب، 1996).
[12] أنظر: حسن خضر، "استرجاع الماضي،" الأيام، 26 تشرين الثاني 2019.
[13] وذلك في: غي ديبور، مجتمع الفرجة: الإنسان المعاصر في مجتمع الاستعراض، ترجمة أحمد حسان (القاهرة: دار شرقيّات للنشر والتوزيع، 1994).
[14] للمزيد من التفصيل بهذا الشأن، أنظرْ: جان بودريار،المصطنع والاصطناع، ترجمة: جوزيف عبد الله (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، 2008)
[15] للمزيد، أنظر: عبد الرحيم الشيخ، "تحوّلات البطولة في الخطاب الثقافيّ الفلسطينيّ - 1،" مجلة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 96، 2013، ص 73 - 95؛ عبد الرحيم الشيخ، "تحوّلات البطولة في الخطاب الثقافيّ الفلسطينيّ – 2،" مجلة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 97، 2014، ص100 - 117.