بعد زيارتيْن إلى قرية هونين اللبنانيّة في فلسطين، أكتبُ هذه الإثنوغرافيا القصيرة عن الرحيل منها، والرحلةِ إليها، والترحالِ في أمكنتها، بين جبل عامل وسهلِ الحُولة، وفي أزمنتها، بين العاميْن 1905 و2020. لا أكتبُ معاتبًا التاريخ، الذي لا يعيد نفسَه في شكل ملهاةٍ ولا في شكل مأساة، بل يتيح، في أحسن الأحوال، للهزيمة والنصر إمكانيّةَ التناوب. ولا أكتبُ مواسيًا الجغرافيا التي احتملتْ أقدامَنا وأقدامَ الغزاة، وضمَّت قبورَنا وقبورَهم معًا. ولا أكتبُ عن تقاطعِ المصائر ووحدةِ الدم بين لبنان وفلسطين. بل أكتبُ عن متوالية الإرث الاستعماريّ التي استهدفتْ لبنانَ وفلسطينَ معًا، من طرف الفرنجة والعثمانيين والفرنسيّين والإنجليز والصهاينة. وأكتبُ عن هونين، أرضًا وناسًا وحكاية: أرضَ القرية-المقبرة، وبيوتَ أهل القرية-المتحف، وحكايةَ القرية-الأرشيف. وأكتبُ كيف هجَّر العدوُّ أهلَها، وبنى من حجارتها متحفًا، ومحا اغتصابَ نسائها من الأرشيف.
تبدو هونين، على الرغم من سقوطها في يد الصهاينة في 3 أيّار 1948، مثلًا نافيًا لخطاطة إدوارد سعيد في أطروحته عن "الجغرافيّات المحاصرة والمشهديّات المتحاربة،"[1] المتمركزة - عالميًّا - حول العام 1947. فهونين قريةٌ لبنانيّةٌ في فلسطين، تعود مقاومتُها العامليَّةُ للمتوالية الاستعماريّة إلى ما قبل ذلك بأربعة عقود: منذ أن صُهْيِنَت الهجرةُ إلى فلسطين، وأصبح الجليلُ هدفًا لبدء تحويل مشروع "الوطن القوميّ لليهود" إلى "دولة القوميّة اليهوديّة" في العام 1905. هونين، الواقعة على منحدرات جبل عامل، والمشْرفة على الشطر الشماليّ من سهل الحُولة، وتبعد 28 كيلومترًا عن شمال صفد المحتلّة، قاومت القوى الاستعماريّةَ منذ الفرنجة وحتى الصهاينة.[2] وقد شهدت القرى اللبنانيّةُ السبع (هونين، وصلحا، وتربيخا، والنبي يوشع، والمالكيّة، وقَدَس، وآبل القمح) مآسيَ كبرى من جرَّاء التقسيمات الاستعماريّة بعد الحرب العالميّة الأولى، ولم يُحسمْ مصيرُها في المحطّات الشهيرة بين الفرنسيّين والإنجليز (سايكس-بيكو 1916، وفرساي 1919، وسان ريمو 1920). وعلى الرغم من إنشاء لجنة بوليه-نيوكومب لترسيم الحدود بين القوّتيْن الاستعماريّتيْن، فإنّ الفرنسيّين، حين أجروْا تعدادَ السكّان في لبنان سنة 1921، أدرجوا فيه القرى السبعَ على أساس لبنانيّتها؛ لذا، حين أجرى البريطانيّون تعدادَ السكّان في فلسطين سنةَ 1922، لم يُدرجوا هذه القرى ضمن فلسطين. وبقي الأمرُ كذلك حتى "أعيدتْ" هذه القرى إلى الحكم البريطانيّ في العام 1923، ولم تصبحْ جنسيّةُ المواطنين فيها فلسطينيّةً إلّا في العام 1926.[3] وقد بقيتْ هونين وأخواتُها فلسطينيّةً، أيْ خاضعةً للانتداب البريطانيّ، إلى حين تطهيرِها عرقيًّا في 3 أيّار 1948 بعد هجماتٍ انطلقتْ في شهر نيسان على يد الكتيبة الأولى لـ"البلماح" ضمن عملية "يفتاح."[4]
القرية-المقبرة
صباحَ الجمعة الموافق فيه 6 تشرين الثاني 2020، تسلّلنا من رام الله إلى شمالِ فلسطين، ولنا هدفان في صفد: مُغَر الخيط التي وصلناها ظهرًا، ولها قصّتُها؛ وهُونين التي صعدنا إليها عصرًا. أربكتْنا الطرقُ الزراعيّةُ قليلًا، لنجد أنفسَنا ننزل إلى هونين من كيبوتس منارة،[5] المقامِ على جزءٍ من أراضيها، وعلى جزءٍ آخر من أراضي قرية قَدَس.
مطلّ مرغليوت، ولافتتُه، ولافتةٌ تشير إلى كيبوتس مرغليوت المقام على أراضي هونين (تشرين الثاني 2020)
ما إنْ وصلْنا القمّة حتى صَدَمَنا مطلُّ مرغليوت، وهو الموشاف المقامُ على أنقاض هونين،[6] ويُشْرف شرقًا على قرية الخالصة ("كريات شمونة" اليوم). أقيم المطلُّ تخليدًا لذكرى آمنون ليبكين شاحاك، الرئيسِ السابقِ لأركان جيش الاحتلال الصهيونيّ، وهو يشتمل على: مساحةٍ منبسطةٍ على يسار الشارع المحاذي للقلعة؛ ولافتتيْن معدنيّتيْن تحملان معلوماتٍ عن المطلّ؛ ونصبٍ تذكاريّ حديديّ، يتكوّن من لولبيّةٍ فولاذيّةٍ صدئة، مشكَّلةٍ من خمسة منحنيات على شكل رقم 8، تحاكي حركةَ قائدٍ يتْبعُه جنودُه في المعركة، وقد وُقِّع على طرفها اسمُ النحّاتة أورنا بن عامي، المعروفة في الأوساط الثقافيّة الصهيونيّة بـ"امرأة الحديد"؛ وصخرةٍ شَرحتْ بالعبريّة مآثرَ شاحاك في ذاكرة النحّاتة التي استُقِيَ منها عنوانُ العمل، اتبعوني (2017). وقد أقام الصهاينةُ حديقةً صغيرةً إلى جانبِ ما تبقّى من أشجار التين واللوزِ القديمة، زرعوا فيها الميرميّة وحصا البان.
لم يكن لديَّ متّسعٌ من الوقت للتأمّل في الإحالات النصّيَّة. لكنْ لا شيءَ في المشهد البصريّ الصهيونيّ يأتي عبثًا، إذ لا يَتْرك الصهاينةُ شاردةً ولا واردةً في سِيَرِ "أبطالهم الناجحين" من دون تخليدها، وذلك ضمن هندسةٍ ثقافيّةٍ استعماريّةٍ تتوزَّع بين المحو والإنشاء. ولعلّ مَن يتأمّل سيرةَ مجرم الحرب شاحاك[7] يُدرك مغزى استخدام الفولاذ في نصبِه التذكاريّ، وغايةَ تخصيص هذا المطلّ، على الحدودِ اللبنانيّة تحديدًا، لتخليد ذكراه.
دخلنا قلعةَ هونين. صعدْنا إلى سطحها المقوَّس، ثم نزلنا على بعض رُكامها من الجنوب الشرقيّ، وتجاوزْنا السلكَ الشائكَ المهترئ، وسط استغراب المستوطنين الذين كانوا يستمتعون باستقبال الشتاء وما تبقّى من شمسِه الخجولةِ في ذلك النهار، رفقةَ كلبٍ ضالّ. عدنا إلى الشارع الترابيّ الملتفّ حول الجرف الصخريّ الذي يحيط بالقلعة، وتملأه الشجيْراتُ الشوكيّة. مشينا من الجنوب الغربيّ للقلعة نحو الشمال، وانشغلْنا بلافتاتٍ تشير إلى مرابضَ ودشمٍ عسكريّةٍ مهجورةٍ حديثًا. لمحتُ على الجهة اليمنى، وسط الغابة المحترقة على السفح، بناءً حجريًّا صغيرًا يشبهُ القبر. ما إنْ صعدتُ حتى اكتشفتُ مقبرةَ هونين المقامةَ على شفا الجرف المحيطِ بالقلعة من جهتها الشماليّة-الشرقيّة.
واجهة قلعة هونين، ومقطع جانبيّ منها، ومقطع من الجرف الصخريّ المحيط بها (تشرين الثاني 2020)
وجدتُ ثلاثةَ أنواعٍ من القبور: دارسة لا تَظهر منها سوى حجارةٍ متناثرة؛ وقائمة كُسِّرتْ شواهدُها وانمحتْ؛ ومَصُونة تبدو عليها آثارُ كتابةٍ أتت عليها عواملُ الطبيعة. تنبَّهتُ إلى حركةٍ غريبةٍ بين الشجيْرات، فإذا ببقرةٍ رعناءَ خائفةٍ عسليّةِ اللون. تبعتُها لأرى إنْ كانوا يَستخدمون المقبرةَ مرعًى، فانكشف لي قبرٌ مَصُونٌ حَمَته شجرةُ صنوبرٍ برّيّ تحتضن شجرةَ بطمٍ صغيرة. اختفت البقرة، لكنّني واصلتُ تصويرَ القبر بالفيديو، فاتّضح لي أنّه مكوَّنٌ من أربع طبقاتٍ حجريّةٍ هرميّةٍ مستطيلة، وشاهديْن مكسوريْن: خلفيّ، ملقًى على سطح القبر، ويحمل تاريخًا؛ وأماميّ، مكوَّنٍ من قطعتين: الأولى ملقاة على الطبقة الثالثة، والأخرى مسنودة طوليًّا على بناء القبر. وضعتُ القطعة الصغرى فوق الكبرى من الشاهد، لأتمكّنَ من قراءة النقش الذي يحمله: "الفاتحة: المرحوم نمر حسين إبراهيم شحرور كانت وفاتُه في 26 كانون 1945." لم أُعِد الشاهدَ إلى مكانه في أعلى القبر، لكنّني أبقيتُ قطعتيْه واحدةً فوق الأخرى بلونيْن مختلفيْن مايزَ بيَّنهما زمنُ الغزاة، وزمنُ الله. ويا له من زمن!
قبر المرحوم نمر حسين إبراهيم شحرور، وكانت وفاتُه في 26 كانون 1945-مقبرة هونين (تشرين الثاني 2020)
غادرْنا المقبرةَ، التي سنعود إليها في زيارةٍ ثانية، ومررنا بالدشَم العسكريّة، ثم عدنا إلى السيّارة المركونةِ قرب المطلّ. لم أكن أعلم أنّ شاحاك قد مات. فمع استمرار الاحتلال العسكريّ الصهيونيّ، يخيَّل إليك أنّ قادتَه، مثلَ "قادتنا،" لا يموتون! لكنّني ابتسمتُ للمفارقة، ونظرتُ إلى السهل الممتدّ حيث أقاموا مستوطنةَ كريات شمونة وكيبوتس كفار جلعادي، وحيث عاش "البطلُ" الأسطوريّ الصهيونيّ يوسيف ترمبلدور، وقُتِلَ ومعه سبعةُ صهاينةٍ آخرون[8] بعد أن أمطرهم المقاومون العامليُّون بالرصاص في معركة تل حاي، رغم مطاردتهم من قِبل المستعمِرين الإنجليز والفرنسيين الذين كانوا يسعوْن إلى تقاسم المنطقة الحدوديّة بين فلسطين ولبنان. وتذكَّرتُ حادثةَ ترمبلدور، والمقولةَ التي تُنسَب إليه حين قُتل: "لا شيء، يطيبُ الموتُ في سبيل البلاد!" وهي مقولةٌ صارت موضوعَ سجالٍ في الثقافة الإسرائيليّة الصهيونيّة بعد أن أعاد صياغتَها شاعرُهم الوطنيّ يهودا عاميخاي حين كتب "الكلمات الأخيرة لترامبلدور."[9]
كنتُ أرغب أن أرى المزيد: مدرسةَ هونين، ونصبَ "أسد يهودا،" ونقطةَ المواجهة على "الخطّ الأزرق،" حيث شجرةُ العْدَيْسة التي ارتقى في الدفاع عنها الشهداءُ عبد الله طفيْلي وروبير العشّي (من الجيش اللبنانيّ) وعسّاف أبو رحّال (مراسلُ جريدة الأخبار)، فيما قُتل ضابطان صهيونيّان، في 3 آب 2010، في مسغاف عام.[10] لكنّ الشمس قد غربتْ، وبدأت السماءُ تمطر. فانطلقنا في طريق العودة من الحدود الشماليّة بين لبنان الجريح وفلسطين المحتلّة نحو القدس.
القرية-المتحف
في تلك اللحظات، أضفتُ على حسابي صورةً للقلعة، مع تعليقٍ موجز: "هونين الفلسطينيّة/اللبنانيّة. شمال مدينة صفد المحتلّة، اليوم: قلعةٌ صليبيّة، ومقبرةٌ عربيّة، وغزاةٌ، وكلبٌ ضالّ، والبقيّةُ تأتي..." فعلَّقت الفنّانةُ الصديقة منار زعبي، من الناصرة:
"أقيمَ على أنقاضها كيبوتس دانْ. وفيه متحفٌ للتاريخ والطبيعة باسم بيت أوسيشكين، فيه معلوماتٌ كثيرة، ما عدا أنّه بُني بحجارةِ بيوتها (التي هُدمتْ من قِبل وحدةٍ من الجيش الإسرائيليّ) وعلى أنقاضها. كَتَب، عن قرية هونين، تومر غاردي روايتَه الأولى، حجر ورقة، وتُرجم للألمانيّة. كتابٌ قيِّم، ويجب أن يُترجَمَ للعربيّة باعتقادي لِما فيه من شهاداتٍ هامّةٍ تمَّ محوُها على أثر البحث قبل صدور الرواية."
متحف بيت أوسيشكين، المبنيّ بحجارة بيوت هونين في كيبوتس دانْ بين أراضي خان الدوير والشوكة التحتا. وغلاف رواية تومر غاردي-السيريّة، حجر، ورقة
بحثتُ عن كتاب تومر غاردي للتعرُّف إلى ما يكشفُه من سياسات الذاكرة والنسيان في الكيان الصهيونيّ، فوجدتُ بعضَ المراجعات والحوارات.[11] كما وجدتُ الفصلَ الأوّل منه، بعنوان: "فصل" منشورًا بالعبريّة.[12] ومن خلال المعلومات السيريّة عن غاردي،[13] علمتُ أنّه عمل في مؤسّسة زوخروت-ذاكرات. تواصلتُ مع صديقةٍ فلسطينيّةٍ تعمل هناك للاستفسار عن الكتاب، واستطعتُ الحصولَ على الكتاب في صيغته الرقميّة.
فتنني حجر، ورقة على عدة مستويات:
- الأول ثقافيّ، يتعلَّق بسياق الرواية-السيريّة (الصادرة ضمن سلسلة العنزة السوداء التي يحرّرها حنان حيفر لدار نشر "الكيبوتس الموحَّد" منذ العام 1997). وتمثّل روايةُ غاردي، تحديدًا، تيّارَ نقدٍ جذريّ لجرائم المشروع الصهيونيّ: فكرةً، وحركةً، ودولةً.
- والثاني أخلاقيّ، لا يقف عند حدود النقد، بل يذهب بقدميْه، ويقلِّب بكفَّيه، حرْفيًّا، مسرحَ الجريمة الصهيونيّة: ابتداءً من تطهير هونين عرقيًّا؛ ومرورًا بسرقةِ حجارتها لبناء متحف بيت أوسيشكين؛ وانتهاءً بحَجْب الأرشيف حادثةَ اختطافِ أربع نساءٍ من هونين، واغتصابِهنّ، وقتلِهنّ، ودفنِ ثلاثٍ منهنّ، وإحراق الرابعة، وتبرئة الفَعَلَة!
- والثالث سياسيّ، يَطْرح أسئلةَ الحقوق: ابتداءً من السؤال عن مصير الهونينيّين بعد طردهم، ومرورًا بسؤال شرور المشهد الإسرائيليّ الذي تمَّت عسكرتُه، خارطةً ومتحفًا وأرشيفًا؛ وانتهاءً بسؤال العدالة وشكلِ تحقُّقِها في دولةٍ واحدةٍ بعد تفكيك البنية العنصريّة لدولة الاستعمار الاستيطانيّ-"إسرائيل."
لم يكتبْ غاردي كتابَه في التاريخ، ولم يشأ أن يكونَ أطروحةَ دكتوراه. لكنَّه غرَّد خارج السرب عبر تأمّلٍ إثنوغرافيٍّ لذاتٍ أخلاقيّةٍ وُلدتْ في المجتمع الاستعماريّ الصهيونيّ على أنقاض المجتمع الفلسطينيّ. وبين طرفيْ هذه المفارقة، دشَّن غاردي حكايتَه التي تدحرجتْ في صدره، وكبرتْ ككرةِ لهب، لتكون شاهدًا على هول الجريمة، وحافزًا لتحمُّل المسؤوليّة الفرديّة والجماعيّة للتكفير عن خطايا التاريخ التي ارتكبها الجلّادُ، لا للسعي إلى أنسنةِ أخطائه على حساب الضحيّة.
صعَّد كتابُ غاردي من رغبتي في زيارةٍ أخرى إلى هونين. فانطلقْنا يومَ الجمعة الموافق فيه 20 تشرين الثاني 2020. تجاوزْنا الحاجزَ العسكريَّ على تخوم رام الله، وتسلّلْنا إلى صفد. كنتُ أرغب في زيارة كفر ناحوم وجبلِ التطويبات في طبريّا، على الرغم من أنّ الجوّ كان عاصفًا. وصلنا، وكانت حدّةُ الأمطار قد هدأتْ، قبيْل الظهر. مررْنا بجبل التطويبات، فوجدْنا الديرَ مغلقًا بسبب وباء كورونا. تمشّيْنا في الجبل، حيث مزارعُ الليمون والأفوكادو وما تبقَّى من الزيتون. قطفْنا بعضَ الليمون للذكرى، ثم أكملنا الطريقَ إلى كفر ناحوم، على شاطئ بحرِ الجليل. كانت البوّاباتُ مغلقةً للسبب ذاته. واشتدّت الأمطارُ مع اقترابنا من صفد.
كانت محطّتُنا الأولى كيبوتس كفار جلعادي، المقامَ على بقعةٍ تتوسّط أراضي الزوق الفوقانيّ وآبل القمح، المطهَّرتيْن عرقيًّا.[14] وصلْنا تل حاي، بؤرةَ الكيبوتس الأولى. ومن موقع "الكلّيّة الأكاديميّة" على المدخل، صعدْنا إلى كفار جلعادي، المستوطنةِ المسوَّرةِ التي كانت بوّابتُها الرئيسةُ على وشك الإغلاق لاقتراب موعد "دخول السبت." تبعْنا سيّارةً للحراسة لئلّا تُغلقَ البوّابة، مع أنّني لاحظتُ، على يميننا، ما يشبه المقبرةَ المحاطةَ بأشجار السرو، وهي المقبرةُ التي اشتبهتُ في أنّها هدفُنا.
دخلنا بطنَ الوادي، فبدا الكيبوتس كأنّه معسكرٌ أضيفت إليه بيوتٌ سكنيّةٌ صغيرة، مبنيّةٌ بحجارةِ بيوتٍ قديمة، بعضُها سُرق من جنوب لبنان، وبعضٌ آخر من بيوت القرى العربيّة في منطقة الحُولة. شوارعُ ضيِّقة، ومطبَّاتٌ، وعلى جانبَي الشوارع لافتاتٌ تشير إلى متحف بيت هاشومير ("بيت الحارس،" نسبةً إلى منظّمة هاشومير التي أُسّستْ في العام 1909)، والعديدُ من التماثيل والنصُب التذكاريّة الحديديّة. لم نجد النصبَ البازلتيَّ الذي أقيم إحياءً لذكرى ترمبلدور. سألْنا بعضَ السابلة (من أعمارٍ متفاوتة)، ولم يعرفْ أحد أين يقع نصبُ مَن تفتخر الدولةُ الصهيونيّةُ بأنّها أحالت ذكرى مقتله إلى عيدٍ وطنيّ. "مواطنو" كيبوتس ترمبلدور لا يَعرفون ترمبلدور!
نصب "الأسد الزائر" للقتلى الصهاينة الثمانية في معركة تل حاي (1920)، ونصب تذكاريّ للقتلى الإثنيْ عشر في حرب تمّوز (2006) على يد المقاومة اللبنانيّة - كيبوتس كفار جلعادي، شمال شرق هونين (تشرين الثاني 2020)
غادرْنا الكيبوتس الذي يضجُّ بالأشباح. وعلى يسار البوّابة، لمحتُ طرفَ النصب الذي أعرفُه من خلال الصور في البقعة المحاطةِ بالسرو. ترجَّلتُ من السيّارة، فإذا بها مقبرةٌ يهوديّةٌ يُستخدم طرفُها الشماليُّ مقبرةً عسكريّة. أخيرًا، أدركتُ أنّني في رحاب هـ آرياه هاشوئيغ (الأسد الزائر)، حيث قُتل ترمبلدور وزمرتُه في العام 1920 على أيدي المقاومين العامليِّين.
يقع النصبُ الهائلُ في منتصف الجزء السفليّ للمقبرة، وتحاذيه ساحةٌ واسعةٌ جدًّا، زُوِّدتْ، في منتصفها، بعمودٍ معدنيٍّ يحمل تسجيلًا بالعبريّة (يقرأه رجل) وبالإنجليزيّة (تقرأه امرأة) لتفاصيلِ الموقع. أمّا النصب، الذي يبلغ ارتفاعُه قرابةَ ستّة أمتار، لأسدٍ يزأر باتجاه السماء، فقد صمّمه النحّات أبراهام ميلانيكوف (1882-1960)، المدفونُ في الجوار.
وقفتُ في منتصف الساحة، حيث العمودُ الذي يؤدّي وظيفةَ دليلٍ سياحيٍّ لاجترار الميثوس الصهيونيّ. وإذ تركتُ العنانَ للكاميرا لتصوير المشهد، بدأتُ الاستماعَ إلى التسجيل العبريّ الذي أعدَّتْه "دائرةُ التخليد في وزارة الدفاع الإسرائيليّة" ليروي "بطولات" مقاتلي كيبوتس كفار جلعادي (1905-2006) حتى قبل تأسيسه. في الأثناء لمحتُ مستوطنًا شابًّا، ركَن سيّارتَه، ووقف قريبًا منّا. دخَّن سيجارةَ حشيش، وانتظر قليلًا، ثم غادر.
يبدأ التسجيلُ بالتعريف بالمقبرة في وصفها موقعَ "تراث قوميّ"؛ فالنصبُ التذكاريّ يقع فوق القبر الجماعيّ للمقاتلين الثمانية الذين دافعوا عن تل حاي خلال الصدامات مع "المحلّيّين العرب" (1919-1920). وقد اختارت الحركةُ الصهيونيّة يوسيف ترمبلدور (1880-1920)، المقاتلَ الأسطوريَّ الذي أسّس إلى جانب زئيف جابوتنسكي "كتيبةَ البغَّالة" في الجيش البريطانيّ في فلسطين؛ كما أسّس حركةَ ها حالوتس (حركة الروُّاد) الاستيطانيّة، ليقودَ الدفاعَ عن كفار جلعادي ومستوطناتِ إصبع الجليل، بعد أن أعلن النفير العامّ.
"في الأوّل من آذار 1920...،" على ما يواصل التسجيلُ، مع تصاعد الموسيقى العسكريّة الحماسية والمؤثّرات الصوتيّة، تجمَّع حشدٌ كبيرٌ من العرب عند بوّابة تل حاي، وطلبوا الدخولَ للتفتيش عن جنودٍ فرنسيّين. وعلى الرغم من السماح لهم بالدخول، فقد نشب القتالُ وتحوّلَ إلى معركةٍ دامية، أصيب خلالها ترمبلدور بجروحٍ خطيرة، في كتفه وبطنه، وكانت ذراعُه الأخرى قد بُترتْ خلال مشاركته في الحرب الروسيّة-اليابانيّة. وما إنْ حلَّ الظلامُ حتى تفرّق العربُ، مخلِّفين وراءهم خمسةَ قتلى يهود. أعطى ترمبلدور، كلِّيُّ القدرة، رفاقَه إرشاداتٍ عن كيفيّة علاج الجرحى الذين آثرَهم على نفسه، إلى حين وصول الطبيب ليعالجَ ترمبلدور نفسَه. وحين سأله الطبيبُ: "كيف أنت الآن"؟ أجاب ترمبلدور قبل أن يغلقَ عينيْه إلى الأبد: "لا شيء، يطيبُ الموتُ في سبيل البلاد"![15]
دُفن القتلى، وأُخليتْ تل حاي قبل أن يُحرقَها "المدافعون" اليهود، على ما يقول التسجيل. وبعد سبعة أشهر عادوا لبناء الكيبوتس من جديد. وفي العام 1923، ازدهرتْ مستوطناتُ إصبع الجليل مع وضع اتفاقيّة الحدود الفرنسيّة-الإنجليزيّة موضعَ التنفيذ. وفي العام 1927، نُقل رفاتُ الجنود الستّة، وآخريْن قُتلا في معاركَ أخرى، إلى هذا المكان، الذي دُشِّن فيه نصبُ "الأسد الزائر" في العام 1934.
ويواصل التسجيلُ أسطرةَ كفار جلعادي، مقتبسًا بن غوريون الذي وصف مقاتليها من أعضاء منظّمة هاشومير بأنهم "أجدادُ جيش الدفاع الإسرائيليّ." ثم ينتقل ليشرحَ مشهديّةَ الموقع، مشيرًا إلى وجود المقبرة العسكريّة لـ12 جنديًّا قُتلوا بصاروخ كاتيوشا أطلقتْه المقاومة خلال العدوان على لبنان في تمّوز 2006 ودُفنوا هناك.
تجوّلتُ قليلًا في المقبرة التي امتلأتْ بالشواهد البازلتيّة التي أُخذتْ من المنطقة. والتقطتُ بعض الصور التي تهمّني للمقارنة في بحث "المقبرة الفلسطينية الحيّة،" وعزمنا على المغادرة.
في طريق الخروج من المقبرة، صوّرتُ النصبَ التذكاريّ الذي أقيم للجنود الـ12، وهو يقع على مقربة من ساحة مؤسّسي كفار جلعادي. والتقطتُ صورةً للعبارة التي صاغها "الحرّاس،"، حرّاسُ الفكرة والمشروع، وهي مكتوبةٌ بحجارةٍ فظّةٍ على امتداد سُور المقبرة الداخليّ الأوسط: "بالدم والنار سقطتْ يهودا، وبالدم والنار سوف تقوم." لكنْ لم يكن ثمّة مجالٌ لدخول متحف الحارس، ولا أرشيف الكيبوتس.
تملّكني إحساسٌ بالعجز، مصحوبٌ بإحساسٍ بالفخر بالمقاومة العامليَّة التي تمكَّنتْ من كتابة تاريخٍ مجيدٍ مرّتيْن، تفْصل بينهما مائةُ عام، في قلب الكيبوتس، وعلى صخوره البازلتيّة، وبيد موظّفي "دائرة التخليد في وزارة الدفاع،" وبالعبريّة الفصحى.
كنتُ أرغب في الذهاب شرقًا إلى كيبوتس دانْ. لكنّ متحفَ بيت أوسيشكين يُغلق أبوابَه يوم الجمعة، ولم يكن لديَّ الكثيرُ لأكتشفَه هناك بعد رواية غاردي الذي لم يتركْ حجرًا في الكيبوتس ولا في المتحف إلّا وقلبَه!
صعدْنا إلى الجنوب الغربيّ، نحو قلعة هونين، مسافةً تقلّ عن خمس دقائق بالسيّارة. كان الهدف هو البحث عن مدرسة القرية، وقراءة مزيدٍ من الأسماء في المقبرة الواقعةِ إلى الشمال من القلعة، التي تُمْكن معاينتُها من أطراف قريتيْ مَرْكبا وحُولا اللبنانيّتيْن إلى الغرب من هونين.
مبنى مهجور يقع إلى الجنوب الغربيّ من قلعة هونين (تشرين الثاني 2020)
مشينا، جنوبًا، في الخرائب التي أخفت حشائشُها بعضَ الدشم العسكريّة المنتشرة على امتداد أراضي القرية منذ العام 2006. على بعد قرابة 400 متر إلى الجنوب الغربيّ من القلعة، لمحتُ بناءً مهجورًا تكاد تخفيه شجرةُ صنوبرٍ برّيٍّ هائلة. كان البناءُ مكوَّنًا من غرفتيْن، ويقع على السفح بين تلّة القرية وأطرافِ كيبوتس مرغليوت. نزلْنا بصعوبةٍ إلى البناء المهجور نتيجةً لكثافة الشجيْرات الشوكيّة والحشائش البرّيّة حوله: بابُه الخشبيّ مخلوعٌ وملقًى على الأرض، وسقفُه مرمَّمٌ حديثًا بالباطون، ونوافذُه مشرعةٌ للريح. اشتبهتُ في أن يكون ذلك بناءَ المدرسة. ربّما كان بيتًا نجا من الهدم، أو مخزنًا بناه المستوطنون من حجارة القرية بعد تهجير أهلها.
خرجنا من البناء، وكانت في الجوار صالةُ أفراحٍ تُحْيي عيدَ ميلاد أحدِ الفتية المستوطنين. المفارقة أنّهم كانوا يرقصون على أغنية دحيَّة فلسطينيّة شهيرة "يا اللي بتضرب ع التافور، إحنا رجالك يا زعبور!" وفي طريق عودتنا إلى محيط القلعة والمقبرة، كانت الشمس قد بزغتْ من جديد، وتشكَّل قوسُ قزحٍ جزئيّ من منتصف كريات شمونة (الخالصة) باتجاه سماء مرغليوت (هونين)؛ فالقوس لا يكتمل في غياب أصحاب المكان.
قبر المرحوم أحمد محمد ذيب بيضون، وكانت وفاتُه في 12 كانون الثاني سنة 1944- مقبرة هونين (تشرين الثاني 2020)
وصلنا إلى الهدف الثاني، وهو المقبرة. وكنتُ قد أحضرتُ فرشاةً خاصّةً لإزالة الطحالب التي نَمَتْ على شواهد القبور فأخْفت الكتابةَ. بالإضافة إلى قبر نمر حسين إبراهيم شحرور (وكانت وفاتُه في 26 كانون 1945، وسبق أن تعرَّفتُ إليه في الزيارة السابقة، كانت ثمّة أربعةُ قبورٍ أخرى حاولتُ إزالةَ الطحالب عنها. كانت محاولتي في القبر الأول والثاني من دون جدوى. وبفضل الفرشاة البسيطة، قرأتُ اسمَ المدفون في القبر الثالث: "المرحوم أحمد محمد ذيب بيضون، وكانت وفاتُه في 12 كانون ثان سنة 1944." وإلى جانبه قبرٌ رابع، تكاد الكتابةُ لا تَظْهر على شاهده حتى بعد عمليّة الكشف بالفرشاة، وهو يعودُ إلى "المرحوم علي الحاج ذيب بيضون،" ولا تُمْكن قراءةُ تاريخ الوفاة. وقد علمتُ لاحقًا، عبر صديقةٍ من هونين، أنّ ثمّة أسطورةً شعبيّةً تقول إنّ نمر حسين إبراهيم شحرور لم يُرزقْ بأطفال، وأن عرّافةً بدويّة أعطته وزوجتَه "دواءً" أوْدى بحياتِهما، لكنّ قبره بقي بعد أن هُدمت القريةُ واحترقت المقبرة. أمّا أحمد، فقد كان تاجرًا على حصان بين الخالصة وهونين، وسقط في الطريق ومات. لقد كنّا، إذن، في ضيافة الحاضريْن نمر وأحمد، وكثيرٍ من الغائبين.
قبر المرحوم علي الحاج ذيب بيضون - مقبرة هونين (تشرين الثاني 2020)
ماذا يقول المضيفُ؟ وماذا يسمع الضيفُ؟ ربما تنويحةً مكتومةً من الجولان السوريّ المحتلّ: "والـمُهرِ حَمْحَمْ، والرُّمح راسه انكسرْ، والبنت حافية، ناثرة الجعودِ"!
القرية-الأرشيف
انتهيْنا من التصوير، وتمشّينا قليلًا في مشهديّة الخراب: غابة محترقة، ومقبرة كَوَت النيرانُ رفاتَ ساكنيها، وقلعة مهدَّمة، ودشَم عسكريّة مهجورة (منذ العام 2006 على ما يبدو، إذ تأخذ دولةُ المستوطنين أمرَ السيّد حسن نصر الله بـ"الاستعداد لتحرير الجليل" على محمل الجِدّ). غادرْنا، وتركْنا لأنفسنا العنانَ كي ندخلَ غابةَ جبال نفتالي، التي تمتدُّ بين أعالي هونين ومنحدرِها باتّجاه الخالصة. لكنّ الحكاية لم تنتهِ.
اختلطتْ في الذهن الموسيقى العسكريّةُ في خلفية مرويّات ترمبلدور، وأصواتُ الفزعة العامليَّة حين انتصر المقاومون في 1920 و2006. تذكَّرتُ كلماتِ أحد "فلاشات" المقاومة في تلك الحرب:
"جئناكم. النارُ لغة. والموتُ أغنية. وراياتُ النصر نرفعُها فوق حاميات المواقع. نستردُّ القهرَ قهرًا. نصعق جحافلَكم التي لا تُقهر. ونعيدُ التاريخ. نسترجعُ خيْبر. جئناكم. وما طال الانتظار. جئناكم. وما غابت نارُنا. لا زالت تُسابِق أوتارَ بنادقنا. عبواتُنا في حقولِ الموت كلَّ يوم لنا منها زرعٌ وحصاد."
لكنّ جولات الانتصار لم تحُلْ دون اغتصاب نساء هونين، ولم تفلحْ، حتى اللحظة، في ملاحقة الجناة.
في تلك اللحظات، تذكَّرتُ عبارةً في رواية غاردي، حين تلقّى اتصالًا من أهله في كيبوتس دانْ، وكان يقيم في تل أبيب خلال العدوان على لبنان في العام 2006. فقد أخبره والدُه أنّ صواريخَ الكاتيوشا تتساقط على الكيبوتس، وتكاد تهدم بيتَ العائلة ومتحفَ بيت أوسيشكين الذي يقع على مقربةٍ منه، وأنّ بوسعه أن يأتي ليعيدَ حجارةَ هونين إلى مكانها! بدا والدُه وكأنّه يقترح عليه نهايةً للرواية: "أطلقت المنظّمةُ الشيعيّةُ صاروخًا دمَّر المتحفَ الذي شُيِّد من حجارة القرية الشيعيّة التي دمّرها جيشُ الدفاع الإسرائيليّ... حاد غادية، حاد غادية." من المؤكّد أنّ غاردي، باستدعاء "حاد غادية،"[16] لم يقصدْ ترديدَ مقولة اللاساميّة المعكوسة (إنّ تاريخ العالم هو تاريخُ اضطهاد الأمم لليهود)، كما قد تشي الأغنيةُ، وكما فعل شعراءُ كبارٌ من أمثال يهودا عاميخاي.[17] بل أراد ترديدَ الحكمة الشعبيّة: "دارْ الظالمينْ خرابْ." فالتاريخ لا يعيدُ نفسَه لا في شكل ملهاةٍ ولا في شكل مأساة كما قال ماركس،[18] وإنْ أتاح للهزيمة والنصر إمكانيّةَ التناوب كما أشار درويش،[19] لا في "ثنائيّة "الفتح والفتح المضاد"[20] حيث ينعدم التكافؤ الأخلاقيُّ بين الاستعمار والمقاومة، بل في قدرة المقاومة على استرجاع التاريخ في "حاد غادية" مشرقيّةٍ، لا تقتصر المعاناةُ فيها على جنسٍ دون آخر، ولا ملَّةٍ دون أخرى، بل في تربية الأمل بأن يلتهمَ دولابُ ماكينة التاريخ صنَّاعَ مآسيه الكبرى، وأن تنتصفَ للمغلوبين وإنْ طال الانتظار.
فالخطّ الحكائيّ في سيرة حجر، ورقة الروائيّة يتمحور حول "اكتشاف" غاردي لمصدر الحجارة التي بنى منها الصهاينةُ في مسقط رأسه في كيبوتس دانْ[21] متحفَ بيت أوسيشكين، تخليدًا لذكرى الفاشيّ ميناحيم أوسيشكين (1863-1941)، رئيسِ الصندوقِ القوميِّ اليهوديّ وأبرزِ مُفْشلي "مشروع أوغندة" لصالح صَهْيَنَة الهجرة إلى فلسطين. فقد عَلم غاردي، خلال حديثٍ مع صديق طفولته، أنّ حجارةَ المتحف أُخذتْ من أنقاض قريةٍ عربيّةٍ طُهِّرتْ عرقيًّا في العام 1948، وتبيَّن له لاحقًا أنّها قريةُ هونين. يعود غاردي إلى الكيبوتس بعد عشر سنواتٍ من مغادرته، ويستأجر غرفةً لشهريْن، ويبدأ رحلتَه بالمقابلات، والبحثِ في الأراشيف الصهيونيّة، ليكتشفَ مزيدًا من الفظائع في ماضي دولته وحاضرِها وما يُرْهِصُ بفظائع مستقبلها. يتقمّص غاردي فرويْد، ويؤدِّي تمرينًا ميلانكوليًّا في تحليل المجتمع الاستعماريّ نفسيًّا. يَخِزُ غاردي المجتمعَ الإسرائيليَّ و"حداثتَه" الشائهة بدبّوسٍ صدئ، سخَّنه على الجمرة التي احترقَ بها، وهي الجمرةُ ذاتُها التي صُبَّت على لسان موسى النبيّ. يرغب غاردي في إطفائها، وإسكاتِ صهيل الحصان الذي يركض في صدره منذ أن اكتشف الجريمة.
على مستوى ماضي الحركة الصهيونيّة، يُفْصح الكتابُ عن ثلاثِ جرائم تدعمها وثائقُ رسميّة:
- الأولى، أنّ التطهير العرقي لقرية هونين حدث بقرارٍ عسكريّ، كشفتْه وثيقةٌ بعنوان "قرار عمليّات رقم 2،" وقّعها قائدُ الكتيبة 23 للواء الكرمل، وينصّ بندُها الثالث على الآتي: "اقتحام قرية هونين. وقتلُ العديد من الرجال. والقبضُ على أسرى. وتفجيرُ بعض منازل القرية. وحرقُ ما يمكن حرقُه."
- الثانية، أنّ "حارسَ أملاك الغائبين" الصهيونيّ نقل الوصايةَ على قرية هونين إلى "صندوق أراضي إسرائيل،" الذي قام بدوره بإنشاء مخزنٍ لموادّ البناء من حجارة بيوت هونين المسروقة (تمامًا كما تَسرق الدولةُ الأرضَ، والكتبَ، والخطابَ، وأعضاءَ الشهداء)، وباعها إلى مستوطني كيبوتس دانْ، الذين أقاموا بها متحفَ بيت أوسيشكين.[22]
- الثالثة، أنّ أربعةَ جنودٍ صهاينة اختطفوا أربعَ نساءٍ من قرية هونين، واغتصبوهنّ، وأعدموهنّ بإطلاق الرصاص على رؤوسهن، ودفنوا ثلاثًا منهنّ، وأبقوْا الرابعةَ في العراء (ليُحرَقَ ما تبقّى من جسدها المتحلِّل لاحقًا) في صيف العام 1948.[23] وقد تستّرتْ قيادةُ الجيش والحكومة على الحادثة. وحين انكشفت الجريمةُ وانعقدت المحاكمةُ في العام 1950، وعلى الرغم من اعتراف الجنود بفعلتهم، برَّأهم القضاءُ لأنهم قاموا بفعلتهم انتقامًا لمقتل زميلٍ لهم في تل عزيزات، ولاعتبار النساء الأربع مجنَّداتٍ عربيّات!
لم يتوقّفْ غاردي عند ما حدث في الماضي، كما أورده بيني موريس على نحوٍ يُمْعن في لوم الضحيّة حين كشف وثائقَ هونين وبرّرها،[24] بل أصرَّ أيضًا على النبش في حاضر الدولة المجرمة عبر الأرشيف، على الرغم من كلّ التحرُّزات من مكر الوثائق:[25] ابتداءً من مسقط رأسه في كيبوتس دان (حيث صارت دارُ رعاية الأطفال التي ترعرع فيها أرشيفًا)، ومرورًا بكيبوتس كفار جلعادي (حيث مسرحُ الجريمة المستمرّة)، وانتهاءً بالأرشيف الصهيونيّ المركزيّ في القدس (الذي أقيم على أنقاض تلّة الشيخ بدر).
وإلى جانب كشف قرائن الجرائم الصهيونيّة في الماضي، فقد بيّن غاردي ديناميّاتِ الجريمة المستمرّة في الحاضر الصهيونيّ، بالإشارة إلى ما يأتي:
- أوّلًا، إنّ بناء متحف أوسيشكين في كيبوتس دانْ من حجارة هونين ليس حادثًا معزولًا، بل قصّة تتكرّر في كلّ مستوطَنةٍ صهيونيّة. وهو ما يذكِّر بمقولة إنّ "المشهد المقدّس" يشتمل على "ستّة أبعاد حيِّزيّة عوضًا من ثلاثة: حيِّز يهوديّ بثلاثة أبعاد، تحته حيِّز عربيّ مساوٍ بثلاثة أبعاد."[26]
- ثانيًا، إنّ الأرشيف الصهيونيّ، شأنَ منظومتَي القضاء والأكاديميا الصهيونيّتيْن، جزءٌ من المؤسّسة الرسميّة التي جرتْ عسكرتُها: من حفْظِ أسرار الجيش، إلى التغطية على جرائمه بذرائع "حفظ الخصوصيّة" و"أمن الدولة،" وانتهاءً بحراسته والعملِ فيه من قبل متطوّعاتٍ ومتطوّعين بالزِّيّ العسكريّ لأعمال الأرشيف. وبذا، يُكمل الأرشيفُ عمليّةَ التطهير العرقيّ بتطهيرٍ روائيٍّ للحكاية التاريخيّة التي مُحي منها العربُ.
- ثالثًا، إنّ جرائمَ الصهيونيّة لا تقتصر على مؤسّسات الدولة، التي تُنتِج مجرمي الحرب في الجيش، والمتستّرين عليهم في المنظومة القضائيّة، وسدنةَ أسرار جرائمهم في الأرشيف؛ بل تمتد إلى مقترفي "الشرور الصغيرة" (بلغة حنه آرنت) في كلّ موقع من الكيان الصهيونيّ.
وأمّا مستقبل الكيان الفاشيّ المظلم، فينتقدُه غاردي بنبوءةٍ فوضويّةٍ لمجتمع المستوطنين الغارق في حالة الإنكار، إذ يتحوّل يومًا بعد آخر إلى مجتمعٍ يكذب على نفسه وعلى دولته التي قامت على قناعةٍ مؤدَّاها أنّ "وجودَ إسرائيل أهمُّ من صورتها." لكنّ غاردي، قبالةَ تندُّره اللاذع على أمراض المجتمع الصهيونيّ، وسيرًا على نهج ليفيناس، يَمنح الآخرين أسماءً مستعارة؛ أمّا هو، فيعلن، بضمير المتكلِّم المفرد، "أنا مسؤول،" ويحاول أن ينقلَ العدوى إلى كلّ إسرائيليّ كيْ يصير مسؤولًا بدلًا من أن يكون "آيخمان صغيرًا." يحاول غاردي أن ينقلَ هذه العدوى إلى مساعِدة الوزير، والقاضية، والمجنَّدة، اللواتي لم يقفن في وجه النظام الذكوريّ الاستعماريّ الذي جنَّس العلاقاتِ الحضاريّةَ مع "العدوّ"؛ وإلى المؤرِّخ الذي "لا يُصاب برعشةِ الحمَّى" حين يبرِّر الجريمة؛ وإلى الكبار الذين لا يَشْرحون للصغار من أين جاءت حجارةُ البيت والروضةِ والمتحف؛ وإلى موظَّف الأرشيف وموظَّفتِه اللذيْن قبلا بأن يكون الأرشيفُ مقبرةً أخرى لمحو العربيّ ("اسمه وذكره")، حين يَحْجبان الوثائقَ، ولا يَقبلان بالإضافة عليها، ويشاركان في تحويل وظيفة الأرشيف من حراسة الحقيقة إلى "حراسة اغتيالها."
... هنا، هونين، هناك
لا بدَّ من خاتمة. هنا، رام الله المحتلّة جدًّا: القدس قريبةٌ، وصفد في الشمال البعيد، ولا نصرَ إلّا في تلفزيون الوهم، والكلُّ في بطن الوحش. وهناك، بيروتُ الجريحة جدًّا: القدس بعيدةٌ، ومرجعيون في الجنوب القريب، وهزيمةُ العدوّ مكتوبةٌ بالفولاذ في مقابره العسكريّة، والتأهّبُ على أشدِّه لتكسير أنياب الوحش. وهونين، معدَّل الـ"هنا" والـ"هناك"، لا هزيمة ولا نصر، بل عُقلةٌ حيَّةٌ عضَّها الوحشُ في إصبع الجليل الذي لا يزال شوكةً في عين العرب حتى التحرير.
القدس، فلسطين المحتلّة
[1] إدوارد سعيد، "جغرافيّات محاصَرة، مشهديَّات متحارِبة" (ترجمة عبد الرحيم الشيخ)، إضافات-المجلة العربيّة لعلم الاجتماع، العددان 40-50، 2020، ص 70-86.
[2] استهدف الفرنجة هونين في العام 1157، وشيّدوا فيها حصنًا عُرف باسم "القلعة الجديدة ( Chastel Neuf) في العام 1179. تسلَّمها صلاح الدين الأيّوبي في أواخر العام 1187. وسقطتْ بيد الفرنجة ثانيةً سنة 1240. ثم حرّرها الظاهر بيبرس سنة 1266. وظلّت مركزًا لريف مرجعيون حتى أواخر العهد العثمانيّ. انظر: مصطفى الدبّاغ، بلادنا فلسطين (كفر قرع: دار الهدى، 1991، ج6)، ص 229-235.
[3] انظر: حسن علويّة، الحدود الدوليّة بين لبنان وفلسطين وانعكاساتها (بيروت: دار العلم للملايين، 2006). وانظر، كذلك:
James Barr, A Line in the Sand: Britain, France and the Struggle That Shaped the Middle East (London: Simon & Schuster, 2011); Asher Kaufman, “Between Palestine and Lebanon: Seven Shi‘i Villages as a Case Study of Boundaries, Identities, and Conflict,” Middle East Journal, Vol. 60, No. 4. 2006. 00. 685-706
[4] انظر: وليد الخالدي، كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمّرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2001)، ص 378-379.
[5] أقيمَ كيبوتس منارة في العام 1943، وفي العام 1963 صار يعرف باسم منارة-راميم، وهو اسمٌ مشتقٌّ من التعبير العربيّ "منارة" لارتفاع موقعه على حدود لبنان مع فلسطين المحتلّة. انظر: حنه بيتان، أطلس إسرائيل للاستيطان: أسماء المستوطنات والمواقع في إسرائيل (القدس: مكتب رئيس الوزراء، 2004)، ص 93 (بالعبريّة).
[6] أقيم موشاف مرغليوت في العام 1951 تخليدًا لذكرى حاييم مرغليوت-كالفارسكي (1868-1947)، وكان رئيسًا للجمعيّة اليهوديّة لاستيطان الجليل، وتنقَّل، سياسيًّا، من حوفيفي تسيون (مُحبُّو صهيون) إلى بريت شالوم (تحالف السلام) الداعي إلى التقارب العربيّ-اليهوديّ والدولة الثنائيّة القوميّة. للمزيد، انظر: بيتان، ص 97.
[7] لشاحاك (1944-2012) سجلٌّ عسكريٌّ حافل، إذ شارك في حرب النكسة (1967)، وفي معركة الكرامة (1968)، وحرب أكتوبر (1973). ثم انتقل إلى ساحة لبنان: ابتداءً من كتيبة ناحال (1971)، والهجوم على مقرّ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بيروت وصيدا في نيسان (1973) ضمن عمليّة "ربيع الشباب"؛ ومرورًا بقيادته لِما يًعرف بـ "تشكيل الفولاذ" في حرب العام 1982، ولواء الوسط في العام 1983؛ وانتهاءً بقيادته لجهاز الاستخبارات 1986-1991، ومن بعدها رئيسًا لهيئة أركان الجيش الصهيونيّ 1995-1998.
[8] أقيم يشوف كريات شمونة في العام 1950 على أنقاض قرية الخالصة، وسمّي سابقًا كريات يوسيف. ثم جاءت التسميةُ الحاليّةُ تخليدًا للثمانية، ترمبلدور ورفاقه، الذين قُتلوا في تل حاي في العام 1920. بيتان، ص 125.
[9] يهودا عاميخاي، أشعار يهودا عاميخاي، الجزء ج (القدس وتل أبيب: شوكين، 2003)، ص 14 (بالعبريّة).
[10] أسّس باسم بلوغات هكشَراه، ثم تغيَّر إلى مسغاف عام. أقيم على الجزء الشماليّ من أراضي قرية هونين في الذكرى السنويّة لوعد بلفور في العام 1945. انظر: بيتان، ص 98.
[11] نحو: "أون باراك،" ترجمة: نسرين ناضر، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 93، 2013، ص 203-205؛ الطيِّب غنايم، "الجريمة والعقاب: قراءة في كتاب حجر، ورق، وحوار مع مؤلِّفه تومر غاردي،" قضايا إسرائيليّة، العدد 48، 2013، ص 96-101؛ يونتان مندل، "أدب إسرائيليّ آخر: قراءة في كتابيْن إسرائيليّيْن جديديْن يسـتأنفان على الرواية التاريخيّة الرسميّة للصراع والاحتلال،" زوخروت، 31 آب 2012.
https://zochrot.org/ar/press/54503
[13] وُلد تومر غاردي في كيبوتس دان في العام 1974، وهاجر مع أهله إلى فيينا وهو في الثانية عشرة، ليمكثَ فيها ثلاثَ سنوات. درس الأدبَ والثقافات المقارنة في القدس وبئر السبع وبرلين. ويقيم بين تل أبيب وبرلين. نشر روايته الأولى، حجر، ورقة، بالعبريّة في العام 2011 عن "الكيبوتس الموحَّد" في القدس وتل أبيب. وعمل محرّرًا لمجلة سِيدق التي تُعنى بالنكبة المستمرّة، وتصدر عن جمعيّة زوخروت. وينشر كتاباته في هآرتس وماتام ومعيان. وقد فاز بعدّة جوائز على الرغم من تحرُّز الأوساط الصهيونيّة من كتاباته.
[14] أُسِّس كيبوتس كفار جلعادي في العام 1916 على هضبة تل حاي، المنقحرة عن الأصل العربيّ "طلحة." ثم أُطلق عليه اسمُ "كفار جلعادي" تخليدًا لذكرى إسرائيل جلعادي (1886-1918)، أحدِ مؤسّسي حركة هاشومير (حركة العمل في الأرض والحراسة العبريّة). انظر: بيتان، ص 80.
[15] على الرغم من تحوُّل هذه العبارة إلى شعارٍ حماسيٍّ في الثقافة الحربيّة الصهيونيّة، فإنّ الكثيرين يشكّكون فيها، إلى حدِّ أنّها صارت موضوعَ تندُّرٍ أكثرَ من مرّة في البرنامج الكوميديّ اللاذع، اليهود قادمون. انظر: https://www.youtube.com/watch?v=LVDj0AbX1EM
[16] "حاد غاديه" هي أغنيّة طقسيّة تُغنّى في عيد الفصح، وكلماتُها خليطٌ بين الآراميّة (المهلهلة) والعبريّة. تقول الأغنية: "اشترى أبٌ جدْيةً بقطعتيْ نقد (زوزيم). جاءت قطّة وأكلت الجدية. بعدئذ عضَّ كلبٌ القطّة؛ ومن ثم ضُرب الكلبُ بالعصى؛ ثم أحرقتِ العصى بالنار؛ ثم أطفئتِ النارُ بالماء؛ ثم شرب ثورٌ الماءَ؛ وجاء الجزّارُ المقدّس فنحر الثورَ؛ ثم قَتل ملاكُ الموت الجزّارَ المقدَّس؛ الذي دمَّره اللهُ عقابًا [على فعلته]." وتميل التأويلاتُ اليهوديّة إلى القول: إنّ الجدْيةَ هي الشعبُ اليهوديّ الذي استوطن فلسطينَ التي استودعهم إيّاها اللهُ، عبر قطعتيْن من العملة، موسى وهارون، أو اللوحيْن اللذيْن مُنحا موسى على جبل سيناء. أمّا بقيّة الملتهمين، فاعلي الموت والمشكِّلين لدولاب ماكينة حاد غادية الرهيب، فهم الأممُ التي قضت على اليهود على امتداد التاريخ: القطّة-الأشوريّون؛ والكلب-البابليّون؛ والعصى-الفارسيّون؛ والنار-المقدونيّون؛ والماء-الرومان؛ والثور-العرب؛ والجزّار-الصليبيّون؛ وملاك الموت-العثمانيّون الذي حكموا فلسطين... وفي النهاية، الله يُهلك كل الأمم وتبقى إسرائيل!
[17] انظر قصيدة "راعٍ عربيّ يبحث عن جدْيٍ على جبل صهيون،" في: عاميخاي، ص 274 (بالعبريّة).
[18]Karl Marx, The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte (Moscow: Progress Publishers, 1972), p. 10
[19] محمود درويش، "في تحرير الجنوب،" ضمن: حيرة العائد: مقالات مختارة (بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، 2007)، ص 49-54.
[20] محمود درويش، ديوان محمود درويش، المجلد 2 (بيروت: دار العودة)، ص 475-476.
[21] أقيم كيبوتس دانْ في العام 1939، ويقع بين أراضي قريتيْ خان الدوير والشوكة التحتا. وتورد حنه بيتان أنّه سُمّي، عند تأسيسه، "ميتسودات أوسيشكين-ب." و"دان" نسبة إلى قبيلة "دان" الوارد ذكرها في سِفْر القضاة (قض 18: 29)، وكان اسمها "لايش." انظر: بيتان، ص 62.
[24] وثَّق بيني موريس الجريمةَ الصهيونيّة. لكنَّه، كالعادة، لمَّح إلى تحمُّل العرب مسؤوليّةً، إذ أشار إلى أنّ "السلطات السوريّة" طلبتْ من سكّان القرى الشماليّة في صفد (الجاعونة وما حولها) إخلاءَ النساء والأطفال، وفي حالة قرية (هونين وما حولها) جاء الطلبُ من "السلطات اللبنانيّة" رغم "علاقات حسن الجوار" مع المستوطنات الصهيونيّة في حينه. ونتيجةً لرفض ذلك، وعودةِ بعض من تم إجلاؤهم من قرية هونين لقطف محاصيلهم، وقعت الواقعة. للمزيد، انظر:
Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem Revisited (Cambridge: Cambridge University Press, 2004), p. 249, 447-8
[25] لم يكن سعيد معجَبًا بالمؤرّخين الإسرائيليّين الجدد كلّهم. وقد كان له موقف ناقد لماهيّة "الوثيقة التاريخيّة،" وأهمّيّتها، وأخلاقيّة التعامل معها، في أرشيف المستعمِر المنتصر، بالمقارنة مع التاريخ الشفويّ من المصادر الفلسطينيّة. للاطّلاع على موقف سعيد في "اجتماعات باريس في العام 1998،" وغمزه من قناة بيني موريس من دون أن يذكر اسمَه وعنصريّته التبريريّة، وإشادته بإيلان بابيه، انظرْ:
Edward Said, “New History, Old Ideas,” Al-Ahram Weekly, 21-27 May 1998; The End of the Peace Process: Oslo and After (New York: Vintage Books, 2001), 273-277. Nur (ed.) Masalha, Catastrophe Remembered: Palestine, Israel and the Internal Refugees: Essays in Memory of Edward W. Said (1935 - 2003), (London: Zed Books, 2005), p. 26; Ilan Pappe, The Idea of Israel: A History of Power and Knowledge (Verso: London, 2015), pp. 131-132
[26] ميرون بنفنيستي، المشهد المقدّس: طمس تاريخ الأرض المقدّسة منذ 1948، ترجمة سامي مسلَّم (رام الله: مدار-المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة، 2001)، ص 23.