قضيتُ طفولتي في حارةٍ منسيّةٍ في قاع المدينة، قريبةٍ من شاطئ البحر.
في ليالي الصيف كان يحلو لي أن أنامَ في أرض الديار، أحدّق إلى القمر الذي يتسلّل من خلال أغصان شجرة المشمش. كانت لديّ قناعةٌ مطلقة بأنّني أستطيع الوصولَ إلى القمر بقفزةٍ صغيرة، بمجرّد تسلّقي أعلى غصن في تلك الشجرة المزروعة في بيت الجيران. المشكلة أنّني قضيتُ طفولتي كلَّها في تلك الحارة العشوائيّة، ولم أتمكّن من تسلّق الغصن العالي.
***
تحت ضوء القمر...
القمر ذاته، المتسلّل عبر أغصان شجرة المشمش...
اجتمعت النسوة في ساحة الحارة وافترشن التراب. أمّ أحمد، التي يلقّبونها باسم "الزينيّة،" أخرجتْ من صدرها باكيت "الغرناطة،" وعلبة كبريت "الفرس،" وأشعلتْ سيجارة. عبّت منها نفسًا عميقًا ونفثت الدخانَ، وراحت تقصّ على النسوة كيف استطاع ابنُها، المجنّدُ في المغاوير، أن "يقوّص" الضبعة أثناء نوبته في الحراسة الليليّة، فكافأه الضابطُ بمأذونيّةٍ أسبوعًا كاملًا.
كانت الضبعة ـــــــ كما تقول أمُّ أحمد ــــــ تتسلّل كلَّ يوم إلى المعسكر حيث ينام الجنود. فإنْ تبوّلتْ على أحدهم نهض وتبعها كالمسحور المجذوب، حتّى تصل به إلى عمق الغابة فتأكله. وكانت الطريقة الوحيدة لإنقاذ ذلك المجذوب أن يُجرَحَ في جبينه ليسيل الدمُ فيصحو، ويتوقّفَ عن المشي وراء الضبعة بلا وعي نحو مصيره المأساويّ.
قصّة مقتل الضبعة التي روتها الزينيّة كانت كافيةً لتجعل نسوةَ الحارة يمنحونها لقب "أم البطل،" وينسوْن أنّها زوجةُ أكبر لصّ في الميناء.
***
تحت ضوء القمر...
القمرِ ذاتِه، المتسلّلِ عبر أغصان شجرة المشمش...
كانت رائحةُ المقالي المغمّسة بالكزبرة والثوم تنبعث من بيت أمّ ممدوح وهي تحضّر العشاء على بابور الكاز. حمودة، ابنُ جارتها نوال، وقف أمامها حاملًا بيده الوسخة رغيفَ الخبز، يرجو منها أن تضع له في الرغيف قليلًا من الباذنجان. لا تستطيع أم ممدوح رفض طلبه، ليس شفقةً عليه لكونه ولدًا يتيمًا، بل لأنّه ابنُ الأرملة التي تمكّنتْ من اقتحام الحشود الهائلة المحيطة بموكب رئيس الجمهورية لتشرح له مأساتَها، فأمر بتوظيفها في "ريجي" التبغ والتنباك. نوال تكاد تختنق من نوبات الربو في صدرها، وتبصق دمًا من أثر السلّ الذي تغلغل في جسدها المنهك، لكنّها سعيدةٌ بوظيفتها.
كان الجميع يخافون تلك المرأةَ المسكينة، ويعاملونها بتحفّظٍ وحذر... فقط لأنّها قابلت الرئيس!
***
تحت ضوء القمر...
القمرِ ذاتِه، المتسلّلِ عبر أغصان شجرة المشمش...
ما زال أبو نظير، ذو السبعين عامًا والظهرِ الأحدب، مصرًّا على التجوال طوال الليل في أزقّة الحارة، مرتديًا معطفَه العسكريَّ السميك رغم الحرّ الشديد، حاملًا الصفّارة المعدنيّة، ناسيًا أنّه أُحيل على التقاعد منذ عشرة أعوام.
أبو نظير الحارس الليليّ المتقاعد... كأنّه كان يرفض أن يموت قاعدًا.
***
تحت ضوء القمر...
القمرِ ذاتِه، المتسلّل عبر أغصان شجرة المشمش...
ماجد أفندي، المعروف في الحارة باسم "أبو حسين السكران،" يرتّب الآن قعدته المسائيّة الاعتياديّة فوق سطح بيته، تحت عريشة العنب. مائدة عامرة بكمشة من الفستق، وبضع خيارات، وقرص بندورة. وها هو الآن يفتح لِتر العَرَق على صوت أم كلثوم وأغنية ألف ليلة وليلة.
آلاف الليالي من السكْر ربما كانت كافيةً لينسى أبو حسين السكران المكيدةَ التي حاكها رئيسُ الجمارك ليُلبسَه تهمةَ الاختلاس، وصولًا إلى طرده من الوظيفة. ولكن، كيف ينسى أنّ ذلك الوغد أيضًا سرق له زوجته؟!
***
تحت ضوء القمر...
القمر ذاتِه، المتسلّلِ عبر أغصان شجرة المشمش...
يجرّ الأعمى حمارَه مغادرًا الحارةَ التي يأتيها كلّ صباح. هكذا ينادونه: الأعمى... ذلك البائع المتجوّل الذي لم نكن نعرف من أين يأتي إلى الحارة يوميًّا، محمِّلًا على ظهر حماره خليًطا عجيبًا من البضائع: علكة حلبيّة، خيطان ملاحف، نكّاشات بابور، قوالب "نِيلة" للغسيل، فحمًا للأركيلة، ملاقط شعر، مرايات، كحلة عربيّة، خرزًا أزرق... وأشياء كثيرة. والغريب العجيب أنّك حين تطلب منه شيئًا يمدّ يده بين أكداس البضائع، ويخرجه لك بمنتهى السهولة، ويستطيع بلمسة من أصابعه تمييزَ القطع النقديّة.
لم نكن نعرف إنْ كان ذلك الأعمى هو الذي يجرّ حماره، أمْ حماره هو الذي يجرّه.
***
تحت ضوء القمر...
القمر ذاته، المتسلّل عبر أغصان شجرة المشمش...
المرأة الفاجرة الشقيّة، التي لقّبها أهلُ الحارة باسم "شعيلة" بسبب لسانها السليط، تمارس هوايتَها في السباب. تصبّ لعناتها على الرجال والنساء والأولاد والبيوت والبحر والهواء والذباب، وعلى الحياة كلّها. يحاول بعض الأهالي أحيانًا أن يستفزّوها عمدًا لتثور ثائرتُها وينفلت لسانها بألفاظٍ "من الزنّار ونازل،" وكأنّهم كانوا يلبّون رغباتهم المكبوتة في التلذّذ بسماع تلك الألفاظ البذيئة التي تمنعهم تقاليدُ الشرف والحرام والعيب التلفّظَ بها.
كانت دهشتي كبيرة حين عرفتُ أخيرًا أنّ شعيلة كان اسمهاأمّ سعيد!
***
تحت ضوء القمر...
القمر ذاتِه، المتسلّل عبر أغصان شجرة المشمش...
وبينما كانت الحارة كلّها مشغولةً بطقوسها وحكاياتها، كان لا بدّ من أن يستغلّ أبو عدنان الفرصة الذهبيّة في غياب زوجته عن البيت لمدّة ثلاثة أيّام، ستقضيها عند أختها في الضيعة للقيام بواجب "سؤال الخاطر" بعد وفاة أمّها التي دهستها المدحلة أثناء تزفيت سكّة حلب. تسلّل أبو عدنان إلى الجهة النائية من الحارة، حيث بيوتُ التنك والصفيح، ليقضي ليلته الحمراء مع عشيقته في بيت الغجريّات.
***
تحت ضوء القمر...
القمر ذاته، المتسلّل عبر أغصان شجرة المشمش...
يمرّ في الحارة أبو علي القلّاب، بشرواله وطربوشه الأحمر، يفتل شاربيْه الطويليْن، ويهزّ الخيزرانةَ بيده، ملقيًا التحيّةَ على شيخ الكتّاب، "أبو فتّوح،" والعربَجي، "أبو كاترينا،" وهما يلعبان الداما. يدعوانه إلى القعود وشربِ الشاي الخمير، لكنّه يرفض بأنفةٍ وكبرياء. فكيف لهذا الإقطاعيّ العتيق، الذي كانت تهتزّ الأرضُ لذكر اسمه، أن يقعد الآن على الأرض، وقد كان يملك فيما مضى الحارةَ بأكملها؟! يهزّ أبو علي رأسه، ويضحك ضحكة مريرة، ويقول ساخرًا: "هذه الدنيا القحبة متل حصوات الداما: أيام سود وأيام بيض."
يلملم أبو علي خيبته، ويتابع طريقَه باتّجاه شاطئ البحر... هناك حيث لا أحد إلّا صفحة البحر الملساء التي انعكستْ عليها صورةُ القمر. هناك فقط يستطيع الآغا المفلس، أبو علي القلّاب، أن يبكي وحيدًا، كبطل طرواديّ مهزوم.
سوريا