يَهدف تسويقُ القيم الوطنيّة في المؤسّسات التربويّة إلى تحقيق أمريْن: تغيير سلوكيّات غير مرغوبة، وتعزيز سلوكيّات أخرى موحّدة وجامعة.[1]ويقوم بتسويق هذه القيم الأهلُ، ومختلفُ أطراف عمليّة التعلّم والتعليم الأخرى.[2]وهذه الورقة تَعْرض بعضَ هذه القيم المتضمَّنة في مشاريعِ عددٍ من المؤسّسات التربويّة في لبنان، وتضيء على تعدّد مقارباتها إزاء مسائل الصراع العربيّ-الإسرائيليّ والوجود الفلسطينيّ ونهجِ المقاومة، لا سيّما في ضوء استغلال العامل الطائفيّ والمذهبيّ الحاضر بقوّة في المجتمع اللبنانيّ.

أوّلًا - التسويق الاجتماعيّ

تقوم فلسفةُ "التسويق الاجتماعيّ للقيم" على توظيف خطواتٍ وتقنيّاتٍ منهجيّةٍ تؤدّي إلى تحسين ظروف المعيشة، وتطويرِ المجتمعات أو توحيدِها، خصوصًا بسبب وجود عددٍ من الآفات الاجتماعيّة والبيئيّة والصحّيّة والنفسيّة والتربويّة.[3]

سنكتفي بعرض ثلاث استراتيجيّات يمكن استخدامُها في تسويق القيم في المدرسة اليوم.

- استراتيجيّة تحديد السوق المرتقَبة (Target Market Strategy): ونعني بها تحديدَ المؤسَّسات التربويّة التي وجب العملُ فيها لتسويق القيم الجديدة بين المتعلميّن لتصبح جزءًا من ممارساتهم اليوميّة.

- استراتيجيّة عدم تجزئة السوق (Mass Market Strategy): وهي استخدامُ قيمٍ وطنيّةٍ جامعةٍ تُقدَّم إلى جميع الفئات في المدرسة. وتتطلّب هذه الاستراتيجيّة وجودَ فئاتٍ كبيرةٍ من المستهلِكين، يجمعها ذوقٌ واحدٌ أو متقاربٌ في الاختيار في أغلب الأحيان. ولمّا كانت القضيّةُ الفلسطينيّة قضيّةً عربيّةً جامعةً (كما يُقال)، ومقاومةُ الاحتلال الإسرائيليّ حاجةَ كلّ عربيّ (كما يُشاع)، والدفاعُ عن القضيّة حقًّا مشروعًا في الوطن العربيّ (كما يروَّج)، فإنّ في الإمكان توحيدَ اتجاهات أبنائنا وبناتنا وفق هذه الخطوط من أجل تثبيت الانتماء العربيّ والوطنيّ لديهم.

- استراتيجيّة تجزئة السوق (Market Segmentation): وهي استراتيجيّة مستمدّة من الأدبيّات العسكريّة التي تعتمد "تركيزَ القوى" (Concentration of Forces) ضمن أهداف محدّدة. وبموجب هذه الإستراتيجيّة يجري تقسيمُ السوق إلى قطاعات، ويُنْظر إلى كلّ قطاعٍ باعتباره هدفًا تبحث المؤسّسةُ المعنيّةُ فيه عن تحقيق "حصّةٍ" ما. ونستطيع أن نستفيدَ من فكرة "تجزئة السوق" من أجل تسويق القيم في المدرسة كما يأتي: 1 - تحديد القيم التي يمكن تحقيقُها في عمليّة التسويق. 2 - وضع برنامج تسويقيّ يستهدف المتعلّمين المباشرين وحاجاتِهم. 3 - التعرّف إلى عوامل الضعف والقوّة في منظومة القيم الموجودة في مختلف المدارس. 4 - توزيع القيم التسويقيّة بشكلٍ يتماشى مع كلّ فئةٍ من فئات المستهلكين لها (المتعلّم والمعلّم والأهل). ويَنصح معظمُ علماء الاجتماع وعلماء النفس باستخدام هذا الأسلوب في التسويق لأنّه يراعي خلفيّةَ المتلقّي وحاجاتِه، ومن ثمّ يَضمن استمراريّةَ الطلب على هذه المنتَجات (القيم الوطنيّة والاجتماعيّة في حالتنا).

ثانيًا - رؤية بعض المؤسّسات التربويّة في لبنان واستراتيجيّاتهُا في التسويق الاجتماعيّ للقيم الوطنيّة

أ - المدارس الكاثوليكيّة في لبنان. يمكن اختصارُ رؤيتها في النقاط الآتية: 1) تنمية شعور الفخر بالهويّة اللبنانيّة، وتقدير العلم اللبنانيّ والنشيد الوطنيّ. 2) تننشئة التلامذة على الوعي بتراثهم اللبنانيّ. 3) التنمية البشريّة المتكاملة التي تضمّ كلَّ شخصٍ في كلّ أبعاده، على الرغم من الاختلافات، لحماية الشراكة في المجتمع ككلّ. 4) تربية مواطن واعٍ لحقوقه وواجباته، مدركٍ لحاجات مجتمعه، يحترم حريّتَه وحرّيّةَ غيره.

ب – جمعيّة المقاصد الإسلاميّة (سنّيّة التوجّه). تهدف الجمعيّة في رسالتها التربويّة إلى تأمين التعليم الأساس للمتعلّمين، والتدرّج بهم نحو فهمٍ متكاملٍ لرسالة الإسلام، والتنشئةِ على الخصال العربيّة، وتطويرِ روح العمل الجماعيّ لديهم لتعزيز الشعور بالمسؤوليّة والثقة بالنفس. كما رأت "المقاصد" ضرورةً الاهتمام بالفتاة المسلمة، وإعدادِها إعدادًا جيّدًا كي تتسنّى لها المشاركةُ في تكوين جيلٍ مسلمٍ ناضجٍ ومنفتح؛ لهذا كان الهمُّ المقاصديُّ الأوّل العملَ على إنشاء مدرسةٍ للبنات المسلمات.

ج - المؤسّسة الإسلاميّة للتربية والتعليم – مدارس المهدي (شيعيّة التوجّه). ومن أهدافها: 1) التوجّه نحو التعاليم الإسلاميّة؛ وفي الأنشطة اللاصفّيّة، ثمّة نادٍ للقرآن الكريم، ونادي "أنوار الوحي لحفظ القرآن." 2) التعريف بالأنشطة العاشورائيّة، ومراسم الحج؛ ونذْكر في هذا الصدد أنّ التلامذة، عند رجم الشيطان، يَرْجمون نجمةَ داوود.[4] 3) توجيه المتعلّمين نحو مقولة إنّ العدوّ الأوحد هو إسرائيل. والمؤسّسة تسعى إلى أن تُخرِّجَ شعبًا مقاومًا؛ فالمقاومة لا تكون بحمل السلاح وحده، بل تكون أيضًا بالقلم والموقف وبناءِ الشخصيّة. وهناك قاعاتُ مسرحٍ خاصّةٌ، يتعرّف فيها المتعلّمُ إلى كيفيّة قتال العدوّ، عبر المشاركة في التمثيل أو مشاهدة المسرحيّات التي تحضّ على الجهاد ضد "إسرائيل."[5] يُذكَر أنّ جزءًا من الدعم مقدّمٌ من الهيئة الإيرانيّة.[6]

ثالثًا - مقارنة بين مضمون القيم الوطنيّة واستراتيجيّات تسويقها بحسب الرؤى

يتبيّن من خلال الجدول أنّ القيمَ الدينيّة تطغى على القيم السياسيّة. وتظهر رؤيةُ المدارس الكاثوليكيّة محدّدةً على الصعيد العربيّ، ولاسيّما في ما يخصّ القضيّةَ الفلسطينيّة. فهي تشدّد على الهويّة الدينيّة المسيحيّة، فضلًا عن الانتماء "الوطنيّ" فقط، وتحاول خلقَ "مواطنٍ لبنانيّ" يعترف برمز بلاده وبقدسيّة الأرزة كما تقدّسها الكنيسةُ منذ نشأة دولة لبنان الكبير، من دون أيّ ارتباط عربيّ أو إقليميّ، بالرغم من أنّ القدس هي مكانُ ولادة السيّد المسيح.[8]

أمّا مدارس المقاصد فتدعو إلى التواصل بين كلّ الدول العربيّة، وتشدّد على العادات العربيّة الأصيلة، ومن بينها مساعدةُ الشقيق، وتحاول أن تنشئ مُواطنًا يَحترم قوانينَ بلاده ويحافظ على استقلاله وروابطه العربيّة ويفتخر بامتلاكه لغة القرآن. ولكنّها لم تدعُ فعليًّا إلى تنشئة مواطنٍ يجاهد أو يقاتل من أجل تحرير فلسطين.

أمّا مدارس المهديّ، وهي المؤسّسات التربويّة التابعة لحزب الله في لبنان، فتقوم على تنشئة جيل مقاوم؛ وتَظهر الدعوةُ المباشرة في هذه التنشئة إلى مقاومة "إسرائيل" وتحرير فلسطين لأنّها دولة إسلاميّة مسلوبة الحقّ والشرعيّة.

والحال أنّ قيمَ هذه المؤسّسات متغايرة. وهذا الاختلاف ذو علاقةٍ وثيقٍة بالسياسة، في وطنٍ لا تنفصل فيه الطائفةُ عن المدرسة، ولا عن السياسة والأوضاع الإقليميّة. وهو ذو علاقةٍ أيضًا بحقيقةِ أنّ لكلّ مؤسّسةٍ مرجعيّتَها الدينيّة:

فالمدارس الكاثوليكيّة على ارتباطٍ وثيقٍ بالكنيسة في لبنان وخارجها. وجمعيّةُ المقاصد الإسلاميّة لها امتدادٌ تاريخيّ عثمانيّ؛ فالدولة العثمانيّة هي من مؤسّسي تلك المدرسة مع أبرز العائلات البيروتيّة.[9] أمّا مدارس المهدي فترتبط بالجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة؛ تستقي منها ثقافتَها، وتحظى بتمويلها، وتعمل بتوجيهات الأمين العامّ لحزب الله.[10]

لقد أصبح أكيدًا أنّ المؤسّسات التربويّة اللبنانيّة تعتمد منهجًا أساسًا حدّدتْه السلطةُ التربويّة، لكنّه ينحصر في الغايات "التعليميّة" التي يحاسَب عليها المتعلِّمُ في الشهادتيْن المتوسّطة والثانويّة. وعليه، تقوم هذه المؤسّساتُ بتزويد المتعلميّن أجزاءً مختارةً من التراث الثقافيّ، الذي يكون واحدًا في المعارف والعلوم والفنون لأنّه خاضعٌ لمراقبة الدولة ولشروطها. بيْد أنّ هناك أجزاءً أخرى تختلف في الأسس؛ بمعنى أنّ كلّ مؤسّسة تقوم بتنشئة أفرادٍ مختلفين في بعض المبادئ، وفي الهويّة، وفي مفهوم الوطنيّة (التي تلتبس لديها بالهويّة الدينيّة والتموضع الإقليميّ). وما زالت هذه المؤسّسات تعيد إنتاج متعلِّمين على صورتها، وتكرِّس قيمَها "الوطنيّة" بحسب منظورها. وبدلًا من أن تَجمع أفرادَها في مجتمعٍ واحد، راحت تكرِّسُهم مجموعاتٍ تعيش في "دولةٍ" واحدة.

خلاصة

ثمّة أهميّةٌ لوجود استراتيجيّةٍ واضحةٍ لتسويق القيم الوطنيّة الجامعة؛ ذلك أنّ انتشارَ القيم في المجتمع يؤدّي إلى وحدة الجماعات وتماسكِها، على ما قال ابنُ خلدون.ولكنْ، في ظلِّ الاختلاف والتعدّديّة في المؤسّسات التربويّة ورؤيتها، فلا بدّ من تعزيز المدرسة الرسميّة الجامعة، مع وضع خطّةٍ شاملةٍ لنشر الوعي الوطنيّ، لا سيّما حيال فلسطين المحتلّة، وحقّ الدفاع عن وطننا، ولترسيخ مبادئ الوطنيّة الموحّدة في نفوس المتعلميّن منذ الصغر.

بيروت