تدورعمليّةُ التعليم والتعلّم عادةً في الصفوف بين معلّمٍ يحاول نقلَ مهاراتٍ ومعلوماتٍ ومواقفَ محدّدة، ومتعلّمٍ يستقبل تلك المهاراتِ والمعلوماتِ والمواقفَ فيتبنّاها أو يخزّنُها أو يعملُ على استخدامها. ومن خلال هذه العمليّة يشارك المعلّمُ في تكوين شخصيّة "الفرد الاجتماعيّ،" وإعدادِ الجيل اللاحق، وغرسِ القيم الأخلاقيّة التي يحدّدها المنهجُ الرسميُّ أو "المنهجُ الخفيّ."
مع تعقّد عمليّة التعلّم والتعليم في هذه الظروف الاقتصاديّة الصعبة، والتهاءِ الجميع بخطر الوضعيْن الصحّيّ والاجتماعيّ؛ وبعد انتقال تلك العمليّة من الصفّ الواقعيّ (الحضوريّ) إلى الصفّ الافتراضيّ تحديدًا؛، تأثّر المعلّم نفسيًّا ومادّيًّا واجتماعيًّا، وأصبح أكثرَ الفئات تهميشًا من طرف السلطة التربويّة، ومن طرف أصحابِ المؤسّسات التعليميّة الخاصّة التي تتوخّى الرّبحَ أو تعويضَ خسائرها في الحدّ الأقلّ.
تاريخيًّا، اهتمّ الرئيس فؤاد شهاب بقطاع التعليم، بل قد يكون الرئيسَ اللبنانيَّ الوحيدَ الذي أوْلى هذا القطاعَ اهتمامًا ملحوظًا.[1] وقد اعتمدتْ عمليّةُ التعلّم والتعليم في لبنان، عمومًا، على جودة أداء المعلّم-المواطن. وأسهم ذلك، في الماضي، في بناء مجتمع معرفة، وفي رفع سمعة لبنان التربويّة بين العرب. وظلّ النظامُ التربويّ الرسميّ يسعى إلى دمج المواطن-المتعلّم في مجتمعه اللبنانيّ، بحسبِ ما ينصّ المرسومُ الاشتراعيّ رقم 134 تاريخ 12/6/ 1959 استنادًا إلى التعديل في المادة 49،[2] من دون نجاحٍ يُذكر، على الرغم من تعديل المناهج للغاية نفسها. وقد أدّى ذلك إلى إنتاج مُواطَنةٍ ناقصةٍ، وإلى تهميش دور المعلّم-المواطن في وطنه (هل نحن في حاجة إلى التذكير بالنتائج البائسة لهذه المناهج، التي تُوِّجتْ بحربٍ أهليّة؟).
تحدّى المعلّمُ اللبنانيّ كلَّ الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة المتدهورة، وحاول إثباتَ إمكاناته الشخصيّة والدفاعَ عن حقوق مهنته ورسالته. وبحسب آخر الإحصاءات المنشورة عن جودة التعليم وأداء المدارس والمعلّمين في الدول العربيّة، فقد جاء لبنان في المرتبة الثامنة عربيًّا، والثانية والثمانين عالميًّا.[3]
بعد انتفاضة 17/10/2019؛ وبعد تداعيات كورونا السلبيّة على الصحّة العامّة؛ وبعد قرارات وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال طارق المجذوب (وهي قرارات متقلّبة تراوحتْ بين فرض الإقفال العامّ ثمّ التوصية بالتعلّم عن بُعد)؛ وبعد اعتماد مساراتِ تعليمٍ عشوائيّةٍ متعدّدةٍ وغير منظّمة في بداية العام الدراسيّ الحاليّ، وصولًا إلى التعلّم المدمَج اليوم، ومن ثم إلغاء هذا القرار، والتريّث لوضع الخطّة الآمنة للعودة التدريجيّة إلى المدرسة، بدءًا بصفوف الشهادة الثانويّة؛[4] وبعد التردّد الحاصل حيال مصير الامتحانات الرسميّة، وتشتُّتِ خطّة العائلة التربويّة (كما يسمّيها الوزير)؛ بعد ذلك كلّه، قلّةٌ قليلةٌ سألتْ عن حال المعلّم، الذي كان يحاول أن يتكيّفَ بسرعة مع شتّى الظروف، شأنَ فئاتٍ متفانيةٍ أخرى كالأطبّاء والممرّضين.
لقد مضى العامُ الدراسيّ الفائت، وتبعتْه خمسةُ شهورٍ من العام الجديد (2021). وهذه الفترة حملتْ معها، وما تزال، كوارثَ مادّيّةً وأعباءً لم يعد يقْدر هذا المعلّمُ-المواطنُ على تحمّلها. شهور طويلة استُنفرتْ فيها طاقاتُ المعلّمين في القطاعيْن الرسميّ والخاصّ، قبل قرار وقف العام الدراسيّ في آخر أيّار 2020[5] وإلغاء الشهادة المتوسّطة والثانوية العامّة – وهو قرارٌ أراح الأهلَ والتلاميذَ ربّما، إلّا أنّه جاء مجتزأً في غياب أيّ آليّةٍ بشأن رواتب المعلّمين. وقد أعلن نقيبُ المعلمين في المدارس الخاصّة في لبنان، رودولف عبود، أنّ 13 ألف معلّم لم يقبضوا رواتبَهم منذ أشهر عديدة، بحسب إحصاء قدّمتْه النقابةُ إلى الوزير المجذوب.[6] وكذلك شأنُ المعلّمين المتعاقدين الذين تقاضوْا بدلَ أتعابهم عن الساعات المنفذّة التي لم تتجاوز نسبة 40% من العقود.
لقد فُرِض على المعلّم-المواطن، بعد كلّ هذه المعاناة، أن يتحوّل إلى محض "مدرِّسٍ،" همُّه إنهاءُ الكفايات المطلوبة منه في المنهج بأقلّ تكلفةٍ ممكنة.[7] وأصرّ المعلّمُ على المطالبة بحقوقه، وأعلن المتعاقدُ الإضرابَ في جميع مدارس لبنان خصوصًا لأنّه يتكلّف عناءَ التحضير والتعليم عن بُعد من دون بدلٍ يُذكر.[8]
لقد تراجعتْ صورةُ المعلّم نتيجةً للممارسات الرسميّة الخاطئة في حقل التعليم. وتفاقم الأمرُ بسبب شحّة الوسائل العمليّة والتعليميّة والتكنولوجيّة لدى الكثيرين، ما دفع المعلِّمَ أحيانًا إلى استخدام قدراته المحدودة وإمكاناتِه البسيطة بهدف عدم الوقوع في التقصير وإرضاءً للتفتيش التربويّ.
وفي هذا المجال أجد ضرورةً لوضع خطّةٍ طموحةٍ لتهيئة بيئة العمل داخل المدارس بعد أزمة كورونا، والانتقال بالمناهج إلى مرحلة تلبية حاجات مجتمعنا وتطلّعات أولادنا لتكون هذه المناهجُ أكثرَ جذبًا للمتعلّمين وللمعلّمين والإدارييّن على حدّ سواء. وأجد ضرورةً أيضًا لوضع نظام حوافز لـ"أفضل مربٍّ" في القطاع الرسميّ. فالقناعة والإخلاص في العمل وحبّ المهنة ليست صفاتٍ تكفي للعيش بكرامة.
بنواتي-جزين
[3] تضمّنت الدراسة التي نُشرت في مجلّة Coeworld الأميريكيّة في نيسان (أبريل) 2020 معياريْن: جودة التعليم، وفرصة التعليم. ودرس الباحثون 16 مؤشّرًا تندرج تحت هذين البندين، ووضعوا لكلّ مؤشر 100 نقطة. وتضمّنت الدراسة قائمةً لنحو 93 نظامًا تعليميًّا في العالم.
[4] التعميم رقم 15 حول تنظيم العودة التدريجيّة للتعليم المدمج في المدارس الرسميّة للعام 2020-2021