أكثر من سبعين عامًا من الحرب الإعلاميّة والعسكريّة والاقتصاديّة الممنهجة على الوطن العربيّ والقضيّةِ الفلسطينيّة. خلال هذه العقود جرت تصفيةُ القيادات الثوريّة الفلسطينيّة الحقيقيّة، ولوحق المثقّفون الثوريّون الفلسطينيون وقُتلوا (غسّان كنفاني، ناجي العلي، كمال ناصر،...)، وأُقصِيتْ غالبيّةُ الأصوات العروبيّة الوطنيّة الحقيقيّة المستقلّة من معظم وسائل الإعلام.
بالتزامن مع ما سبق، جرى تحويلُ معظم الفصائل الفلسطينيّة المنضوية تحت راية منظّمة التحرير الفلسطينيّة إلى فصائلَ شكليّة: لها فعلٌ صوتيّ، من دون أن يكون لها وزنٌ حقيقيٌّ على الأرض. أمّا الفصائلُ الإسلاميّة فقد جُمعتْ وحُصرتْ في بقعةٍ جغرافيّةٍ صغيرة، هي قطاعُ غزّة، وحُمِّلتْ وزرَ الحصارِ المفروضِ على القطاع، جوًّا وبرًّا وبحرًا؛ ما ضاعف النقمةَ الشعبيّةَ عليها.
مع الوقت، برزتْ تيّاراتٌ قويّةٌ تنادي بـ "دولة فلسطينيّة على حدود 67" كما ورد في الوثيقة السياسيّة لحركة حماس في مؤتمرها الأخير: "إنّ حماس تعتبر أنّ إقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ كاملةِ السيادة، وعاصمتُها القدس، على خطوط الرابع من حزيران (يونيو) 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي خرجوا منها، هي صيغةٌ توافقيّةٌ وطنيّةٌ مشتركة."[1]وراحت هذه التيّاراتُ تقدِّم التنازلاتِ إلى أنظمةٍ خليجيّةٍ (قطر) بسبب المساعدات المادّيّة، وإلى أنظمةٍ إقليميّةٍ (تركيا) بسبب التبعيّة الدينيّة والتنظيميّة لتنظيم الإخوان المسلمين.
كما حُصر دورُ المقاومة الفلسطينيّة في ردّ العدوان الصهيونيّ عن القطاع، وفقدتْ دورَها في تنفيذ عمليّاتٍ عسكريّةٍ داخل الكيان المحتلّ عام 48. فبات هذا الكيانُ يشنّ غاراتِه في الوقت الذي يناسبُه، ووفقًا لأغراضٍ محض انتخابيّة أحيانًا، فتأتي ردودُ المقاومة خجولةً في الغالب، لا تتناسب والاعتداءَ الحاصلَ. والسببُ يعود إلى الضغوط الدوليّة التي تتعرّض لها المقاومةُ الفلسطينيّة، أو يعود إلى "الحسابات الداخليّة" التي غدت - بمرور الزمن - عصيّةً على فهم المواطن الفلسطينيّ العاديّ.
***
على المقلبِ الآخر، نجد الكيانَ الصهيونيّ يواجه حركةَ مقاطعةٍ عالميّةً شعبيّةً وأكاديميّةً وثقافيّةً واقتصاديّة تشتدُّ يومًا بعد يوم. وهو يعيش، أيضًا، أزمةً سياسيّةً داخليّةً حقيقيّة؛ ولعلّ من دلالات ذلك أنّ انتخاباتِ الكنيست أُعيدتْ ثلاثَ مرّاتٍ خلال سنةٍ واحدة، ولم ينجمْ عنها إلّا حكومةٌ عرجاءُ تضمّ نتنياهو، الملاحَقَ قضائيًّا حتى اللحظة، وبيني غانتس، جنرالَ الحرب على غزّة.
لكنّ أساسَ مأزق الكيان إنّما هو أزمةٌ وجوديّةٌ يواجهها، بشكلٍ خاصّ، بسبب تعاظم قوة حزب الله على جبهته الشمالية أوّلًا، وخروجِ سورية منتصرةً (بالمعنى العسكريّ) من الحرب التي تُشنّ عليها ثانيًا، وقوّةِ إيران العسكريّة وقدرتِها على إلحاق أذًى حقيقيٍّ بالعدوّ الإسرائيليّ في حال اعتدائه عليها ثالثًا.
إنّ مَن يدرك طبيعةَ هذا الكيان العدوانيّة التوسّعيّة، ومَن يقرأ تاريخَه ونشأتَه، يعي تمامًا أنّه يبدأ السيرَ على طريق نهايته بعد أوّل هزيمةٍ عسكريّةٍ يتعرّض لها. والهزيمة العسكريّة لا تعني أن تحتلّ الجيوشُ العربيّةُ تلَّ ابيب، وإنّما تعني عجزَ الكيان عن تحقيق الانتصارات السريعة الساحقة، وعجزَه عن التوغّل في الأرض العربيّة متى شاء. وكلُّ متابعٍ لتصريحات العدوّ يجد أنّ كبارَ قادته يشعرون بالأزمة الوجوديّة التي يعيشونها: هكذا ترى مثلًا مئير داغان، رئيسَ جهاز الموساد السابق، يقول: "إنّني أشعر بخطرٍ على ضياع الحلم الصهيونيّ"؛[2]كما يقول نظيرُه افراييم هليفي: "نحن على أبواب كارثة. إنّه ظلامُ ما قبل الهاوية."[3]
***
من الواضح أنّ الكيان تعرّض لهزيمةٍ صيفَ العام 2006، على الرغم من تشكيك البعض فيها وفي آثارها. والأرجح أنّ معظمَ ما نراه من خرابٍ ودمارٍ في مشرقنا هو نتيجةٌ لتخطيط صهيونيّ-أميركيّ كي لا تتكرّرَ هذه الهزيمةُ من جديد. وما يجري اليومَ، تحديدًا، من عمليّة "تعويم سياسيّ" للكيان، عن طريق التطبيع الرسميّ معه (بعد أن كان ذلك التطبيعُ ساريًا في الخفاء لعشرات السنوات)، إنّما يستهدف إظهارَه كيانًا قابلًا للحياة، وجزءًا "طبيعيًّا" من المنطقة، وللتغطية على حقيقةٍ عسكريّةٍ واضحة: وهي أنّه ساقطٌ عسكريًّا. ذلك أنّ تعاظم قدرات محور المقاومة قد نقل فكرةَ الانتصار على العدوّ من حيّز الإمكانيّة التاريخيّة إلى حيّز الإمكانيّة الواقعيّة.
لذا، تأتي الخطوةُ التطبيعيّةُ الأخيرة التي أقدمتْ عليها أبو ظبي حلقةً من سلسلة حلقات "التعويم السياسيّ" الجاري لهذا الكيان. ولا شكّ في أنّ أنظمةً عربيّةً عدّةً، لم تكن يومًا في حالة عداءٍ مع الكيان أصلًا، مثلَ نظامَي البحريْن وعُمان، ستَلْحق بأبو ظبي، مستغلّةً غيابَ القوّة العربيّة السياسيّة الرادعة، ممثّلةً في العراق وسورية والمقاومة اللبنانيّة، نتيجةً لانشغال هذه القوّة في الحرب أو لملمةِ الجراح، أو نتيجةً لتهميش دورها في الجامعة العربيّة بفعل مخطَّطٍ رجعيٍّ عربيّ-أميركيّ.
عدوُّنا يشمل الإمبرياليّةَ التي تدعمها الرجعيّةُ العربيّةُ، الممسكةُ بزمام الأمور في معظم أقطارنا
في هذا الصدد، لا بدَّ من التأكيد أنّ بعضَ المحلّلين بالغوا في تقدير تبعات الخطوة التطبيعيّة الإماراتيّة على القضيّة الفلسطينيّة. ذلك لأنّ الإمارات لم تكن يومًا في حالة حربٍ مع الكيان، ولا من الداعمين الحقيقيين لتحرير كامل فلسطين. وتاريخيًّا، لم يسجَّلْ للإمارات أيُّ دعمٍ عسكريٍّ مباشر، أو أيُّ دعمٍ مادّيٍّ يهدف إلى شراء مُعدّاتٍ عسكريّة، بل كان الدعمُ دائمًا موجَّهًا نحو أعمالٍ حياتيّةٍ بحتة. ويكفي أن يلقي القارئُ نظرةً على مناهج تعليم الأطفال في الإمارات، ليجد أنّ القضيّةَ الفلسطينيّة تدرَّس من منطلق المساعدات الطبّيّة والإنسانيّة والدينيّة، مثل إنشاء المستشفيات والجوامعِ والمدارس، ولا تدرَّس كقضيّةٍ عربيّةٍ قوميّةٍ ووطنيّة (كما هو حالُ التعليم في سورية مثلًا).
***
لا يَخفى على كثيرين أنّ الإمارات أنشئتْ منذ خمسين عامًا نتيجةً لاتفاق عشائرِ تلك المنطقة على الوحدة.[4]وهي اقتُطِعتْ من أرض الجزيرة العربيّة، أسوةً بالبحريْن وقطر والكويت، بهدف إنشاء كياناتٍ منفصلةٍ تابعةٍ للغرب.[5]والمعروف أنّ كلَّ نهضة الإمارات قامت على النفط، وبخاصّةٍ في أبو ظبي، وأنّ العاملَ الأساسَ في تكوينها هو دعمُ الغرب (والشركاتِ الغربيّة) لها كي تصبح مصدرًا لنفطه، ومركزًا لغسيل الأموال والتجارة الحرّة، ومَنْفذًا للغرب على الشرق الأوسط الكبير.
كما لا يخفى على أحد أنّ دُبي قَدّمتْ نفسَها إلى العالم الغربيّ وجهةً سياحيّةً، ونجحتْ في ذلك إلى حدٍّ كبير. ويكفي أن تزورَ الإمارات وتسيرَ في أحد مجمَّعاتها التجاريّة الفخمة لتكتشفَ أنّ العربَ أقلّيّةٌ فيها (إذ يعمل في الإمارات - بحسب المصادر الرسميّة - أشخاصٌ من أكثر من مائتيْ جنسيّة)، وأنّ المواطنين الإماراتيّين "أقلّيّةُ الأقلّيّة" فيها (تشير الإحصائيّاتُ إلى أنّ نسبتَهم لا تتجاوز 10% في أحسن الأحوال).[6]
أمّا مَن يعاشر المواطنين الإماراتيّين، فيجدُهم دمثين خلوقين مضيافين. لكنّ كثيرين منهم موالون لشيوخهم إلى حدٍّ كبير، يثِقون بهم ويحبّونهم - - وهذا وضعٌ طبيعيٌّ لبلدٍ غنيّ، قليلِ السكّان نسبيًّا، يقوم شيوخُه بإغداق العطايا عليهم، وإعطائهم القروضَ ثم إعفائهم منها، وتوزيعِ الأراضي عليهم.
***
هذا كلّه يقودُنا الى القول إنّ تركيبة البلد في وضعه الحاليّ، وبغضّ النظر عن موقف الشعب الإماراتيّ الحقيقيّ من التطبيع، لا تسمح بأيّ ردّة فعلٍ داخليّةٍ على ما حصل مؤخّرًا، أو ما يمكن أن يحصل لاحقًا، من خطواتٍ تطبيعيّة.
من الواضح أنّ الأرضيّة في الخليج العربيّ، عدا المملكة العربيّة السعوديّة، والكويت طبعًا، مهيّأةٌ للتطبيع مع الكيان الصهيونيّ، للأسباب التي ذكرتُها سابقًا. لذلك نرى أنّ الإمارات أخذت المبادرةَ لقياس ردّة الفعل في الشارع السعوديّ، ولكي "تعتادَ" عينُ السعوديين رؤيةَ الوفود السياسيّة والاقتصاديّة والسياحيّة عند جارهم وحليفِهم الأحبّ (الإمارات)، ما يسهّل أمرَ التطبيع على ذلك الشارع مع الزمن.
***
أمّا رسالتي إلى شعبي العربيّ الفلسطينيّ، فهي وجوب أنّ يعي أنّ الشعبَ العربيَّ في الخليج ليس عدوَّه أبدًا، بل هو مغيَّبٌ سياسيًّا، ولا حولَ له ولا قوّة. فعلينا، كفلسطينيين، أن نعمل على توطيد أواصرِ علاقتِنا به، وبكلّ الشعب العربيّ في مختلف أماكن وجوده، وأن لا نجعلَ تصرّفاتِ الأنظمة تؤثّر سلبًا في علاقاتنا به.
كما أنّ علينا، كفلسطينيّين، أن نتذكّر دائمًا أنّ عدوَّنا الحقيقيّ لا ينحصر بالكيان الصهيونيّ فقط؛ ذلك لأنّ هذا الكيان هو واجهةٌ فحسب للإمبرياليّة العالميّة، التي تدعمها الرجعيّةُ العربيّةُ الممسِكةُ فعليًّا بزمام الأمور في معظم أقطار الوطن العربيّ. لذلك فإنّ معركتَنا هي، في الحقيقة، معركةٌ ضدّ كلّ هؤلاء مجتمعين. وهذا يتطلّب منّا أن نعيدَ تصويبَ البوصلة بإعادة طرح القضيّة الفلسطينيّة كقضيّة عربيّة عن طريق زيادة تلاحمنا مع الجماهير العربيّة في كل أماكن وجودها. كما يتطلّب منا أن نحشد تأييدَ القوى اليساريّة والتقدّميّة في العالم من خلال الاستفادة من انتشار الشعب الفلسطينيّ والعربيّ وتوظيفِ جهوده في دعم قضايانا في العودة والتحرير وتقرير المصير.
وأخيرًا، لا آخرًا، فإنّ علينا أن لا ننسى، ولو للحظة، أنّ الذريعةَ الأساسَ التي تتمسّك بها الأنظمةُ العربيّةُ المطبِّعة لممارسة تطبيعها هي: اتفاقيّةُ أوسلو. لذلك، فإنّ علينا حشدَ الطاقات لإسقاط هذه الاتفاقيّة، ومحاكمةِ رموزها، وتشكيلِ مجلسٍ وطنيٍّ جديد، واستعادةِ منظّمة التحرير الفلسطينيّة إلى الخطّ الثوريّ الصحيح، واعتمادِ نهج الكفاح المسلّح والمقاطعة والانتفاضة أساسًا للوصول إلى تحرير فلسطين: من نهرِها إلى بحرِها.
بيروت
[5] Shohei Sato, Britain and the Formation of the Gulf States: Embers of Empire (Manchester University Press), 2016