عرفت العقودُ الستّةُ الماضية تراكمًا في حقل اللسانيّات الاجتماعيّة في العالم العربيّ حتى أصبح أحدَ أكثر فروع اللسانيّات حظوةً باهتمام الباحثين.
تهتمّ اللسانيّاتُ الاجتماعيّة بالأبعاد الاجتماعيّة للغة، وتُكرِِّس جُلَّ اهتمامها لدراسة ظواهر لغويّة-اجتماعيّة مثل: الازدواج اللغويّ، والتنوّع الأسلوبيّ، وحياةِ اللغات وموتِها، واللغة والتطوّر الاجتماعيّ.
وعلى كثرة المساهمات العربيّة المكرَّسة لدراسة العلاقة بين اللغة والمجتمع، تكتسب أعمالُ الباحث اللبنانيّ د. نادر سراج أهمّيّةً خاصّةً. فقد انشغل ببعض أكثر الأبعاد اللغويّة للمجتمعات العربيّة جدارةً بالدراسة، على نحوِ ما يتّضح في أعماله المهمّة: خطاب الرشوة - دراسة لغويّة اجتماعيّة (2008)، وخطاب الشباب ولغة العصر (2012)، ومصر الثورة وشعاراتُ شبابها - دراسة لسانيّة في عفويّة التعبير (2014)، والبيت: السوسيولوجيا واللغة والعمران - دراسة لسانيّة تطبيقيّة (2017)، وصولًا إلى الخطاب الاحتجاجيّ - دراسة تحليليّة في شعارات الحَراك المدنيّ (2017 أيضًا).
إنّ نظرةً مدقِّقةً إلى أعمال سراج تجعلنا نضعها في منطقةٍ أقربَ إلى علم اجتماع اللغة (Sociology of Language) منها إلى اللسانيّات الاجتماعيّة (Socio-linguistics). فعلى الرغم من التشابكات العميقة بين الحقليْن، فإنه يمكن التمييزُ بينهما انطلاقًا من اهتمام الأوّل بدراسة العلاقات المتنوّعة بين اللغة والمجتمع بهدف فهم الظواهر الاجتماعيّة، في مقابل اهتمام الثاني بدراسة أثر المجتمع في اللغة بهدف فهم الظواهر اللغويّة.[1]ولعلّ الدليلَ الأبرزَ على ما نقوله هو أنّ عتبةَ بحوث سراج تركّز على الظاهرة الاجتماعيّة العامّة قبل الانتقال إلى أبعادِها اللغويّة، على نحوِ ما نرى في عنوانات بحوثه المذكورة أعلاه.
لا يختلف الخطاب الاحتجاجيّ في انتسابه المعرفيّ إلى علم اجتماع اللغة عن أعمال سراج السابقة. وليس أدلَّ على ذلك من النظر في أوّل فقرةٍ في الكتاب، التي يُصرَّح فيها المؤلِّفُ بأنّ:
"مسوِّغات اختيار الموضوع مردُّها رغبتي في معاينة الظاهرة الاحتجاجيّة الشبابيّة التي أشعلتْ فتيلَها معضلةٌ بيئيّةٌ طارئةٌ شهد المجتمعُ اللبنانيُّ تناسلَ فصولها لعاميْن خلوَا، ويعاني مذّاك ذيولَها. منظورُنا المنهجيّ لسانيّ، وعدّةُ العمل المعتمدة هي أدواتُه الإجرائيّة، وتناوُلُنا الموضوعَ يتّسم بنظرةٍ موضوعيّةٍ ونقديّةٍ كاشفة. سنتساءل معًا عن خلفيّات هذه الظاهرة، وسننظر في منطلقاتها ومسوِّغاتها، ونتقصّى أبعادَها، ونُبْدي الرأيَ اللسانيَّ والبيانيَّ في ما نتج منها من تجلّياتٍ تعبيريّةٍ وعلاماتٍ سيميولوجيّة، وما استتبعها من تعليقاتٍ وكتاباتٍ ورسومٍ جداريّة."[2]
خطاب الحَراك اللبنانيّ: سرديّاتٌ وعلامات
يدرس الكتابُ ظاهرةَ الاحتجاج الاجتماعيّ والسياسيّ في الحَراك اللبنانيّ في فترةٍ زمنيّةٍ محدّدة (2015- 2016)، ويركّز على الأبعاد الخطابيّة لهذا الاحتجاج كما تجلّت في الشعارات واللافتات التي أنتجها المحتجّون آنذاك.
- يُفتَتح الكتابُ بـ مقدِّمةٍ بقلم اللسانيّ الرائد د. عبد السلام المسدّي، تتبَّع فيها مشروعَ د. سراج، وقدَّم تأمّلاتٍ حول الكتاب. ثمّ جاءت مُقدّمةُ المؤلِّف، التي تشتمل على التعريف بموضوع الكتاب ومنهجيّةِ العمل فيه، لتستكملَ تهيئةَ القارئ للدخول إلى عالم الكتاب.
- يحتوي الكتابُ أربعةَ أقسام من ثلاثة عشر فصلًا. يتألّف القسمُ الأوّل من أربعة فصول، ويحمل عنوانًا يشي بوجود قطيعةٍ بين النظريّة والتطبيق في ما يتعلّق بالدراسة اللسانيّة للشعارات: "الدراسة اللسانيّة للشعارات: أنموذجٌ لرأب القطيعة بين النظريّة وتطبيقاتها." لكنّ هذا العنوان لا يدلُّ إلّا على الفصليْن الأوّليْن من هذا القسم. أمّا الفصلان الآخران فيقدِّمان تتبّعًا تاريخيًّا للحراك اللبنانيّ، وللوسائط المستعملة في تداوله وتوزيعِه، ويشكّلان في تقديري قسمًا مستقلًّا لأنّهما معنيّان بوصف مجتمع الدراسة. ولعلّ هذا يفسّر غيابَ الإشارة إلى محتواهما في عنوان القسم نفسه.
تتشابه محدوديّةُ دلالة عنوان القسم الأول على محتواه مع محدوديّة دلالة عناوين بعض فصوله على محتواها. ففي حين يتقيّد عنوانُ الفصل الثالث، مثلًا، بفحص "متى انطلق الحَراكُ الشبابيُّ من الناعمة إلى بيروت؟ وكيف؟،" فإنّ الفصلَ نفسه يُقدّم أكثرَ من ذلك: سرديّةً للحَراك تتتبّع ميلادَه وتطوّراتِه وتجلّياتِه، وفحصًا لأهمّ الشعارات المنتَجة خلاله.
- يتكوّن القسمُ الثاني، المعنوَن بـ"الشعارات الاعتراضيّة: بين التأصيل والإبداع،" من ثلاثة فصولٍ تمتدّ من الخامس إلى السابع. يختصّ الفصلُ الخامس بدراسةِ ظاهرةٍ خطابيّة، هي تنوّعُ مستويات العربيّة بين الفصحى والعامّيّة. أمّا الفصل السادس فيدرس نوعًا بعينه من أنواع الخطاب الاحتجاجيّ، هو الجداريّات (الجرافيتي). ويكرَّس الفصلُ السابع لدراسة ظاهرة التضفير بين الخطابات. الظاهرتان الخطابيّتان اللتان عُني بهما القسمُ الثاني هما من أهمّ الظواهر في خطابات الاحتجاجات العربيّة؛ كما أنّ الجداريّات نوعٌ محوريٌّ من بين أنواع الخطابات الاحتجاجيّة. ومع ذلك، فإنّ القسم يحتاج إلى تسويغ اختيار هاتيْن الظاهرتيْن من بين ظواهرَ خطابيّةٍ أخرى مهمّةٍ في الخطاب الاحتجاجيّ، مثل الاستعارات المفاهيميّة أو الإيقاع أو طُرُق تمثيل الفاعلين. وينطبق الأمرُ نفسُه على تخصيص الجداريّات بفصلٍ مستقلّ، على الرغم من وجود أنواعٍ خطابيّةٍ أخرى اهتمّ الكتابُ بدراستها بشكلٍ مفصّلٍ من دون تخصيصها بفصل؛ عنيتُ: الهتافات واللافتات.
- يحمل القسمُ الثالث عنوان "إيديولوجيّات الساحات والميادين،" ويشتمل على الفصليْن الثامن والتاسع من الكتاب. استعمل المؤلِّف جملةً خبريّةً لعنونة الفصل الثامن ("الفضاءات الحضريّة العامّة قِبلةٌ للحَراكات")، تأكيدًا لأهمّيّة تأثير الفضاءات الحضريّة عمومًا، والساحات والميادين خصوصًا، في الحَراك اللبنانيّ. يركّز هذا الفصل على رصد الآثار الاجتماعيّة لتحوُّل الميادين إلى فضاءاتِ احتجاجٍ في بيروت، مع اهتمامٍ محدود بظاهرة تسميات هذه الساحات والمشاركين فيها. أمّا الفصل التاسع فيحمل عنوان "دور منظومة الشيفرات في التحليل السيميائيّ للنصّ الشعاراتيّ: لبنان نموذجًا،" ويتناول بعضَ العلامات المرتبطة بساحات الاحتجاج، مثل تسمياتها وتوصيفاتها. وبالنظر إلى عنوانَي الفصليْن قد يتوقّع القارئُ أن يكون الفصلُ الثامنُ مدخلًا نظريًّا للفصل التاسع، لكنّ هذا التوقع سرعان ما يتلاشى، إذ استغرق الفصلُ التاسعُ جُلَّ جهدِه في تقديم تأمّلات حول رمزيّة الساحات في الفعل الاحتجاجيّ. وباستثناء إشاراتٍ إلى بعض تسميات الساحات، فإنّ معظمَ هذا الفصل مكرَّسٌ لامتداح ساحات الاحتجاج، ولتقصّي طوائف المحتجّين وآثارِ توزّعها الجغرافيّ وتنوّعِها السياسيّ.
- يشتمل القسمُ الأخير من الكتاب على أربعة فصول، تحت مظلّة عنوانٍ جامعٍ هو "الدراسة البيانيّة والسيميائيّة للشعارات." يشير العنوانُ إلى منظور الدراسة (البيانيّ والسيميائيّ)، وإلى مادّته (الشعارات). ويتّضح هذا التمييزُ بين منظوريْن: يتّخذ أوّلُهما من البلاغة العربيّة منطلقًا له، في حين يتّكئ ثانيهما على الدراسات السيميائيّة المعاصرة -- على ما يَظْهر في عنوان الفصل العاشر ("شعاراتُ الحَراك بين البيان اللغويّ والتبيين السيميائيّ") الذي يكاد يكون صياغةً شبهَ متطابقة مع عنوان القسم ذاته، وإنْ كانت أكثرَ تفصيلًا.
أ - يُخصِّص الفصلُ العاشر من هذا القسم الأخير جزءَه الأوّلَ لدراسة شعارات الحَراك من منظور علم البيان. وبعد تعريف موجز للبيان، يورد المؤلِّفُ ثلاثَ عشرة ظاهرةً يرى انتسابَها إليه. الظواهرُ الثلاث الأُول (التشبيه والاستعارة والكناية) تتّصل بالمجاز؛ تتلوها ظاهرةٌ تتصل بالبُعد التداوليّ للغة، وهي المعنى الضمنيّ؛ تليها ظواهرُ تتّصل بعلم البديع اللفظيّ (السجع والجناس) أو المعنويّ (المقابلة والتقسيم ومراعاة النظير والتضمين والعكس والموازنة والتلميح). ومن الواضح أنّ جمعَ هذه الظواهر الثلاث عشرة تحت مظلّة "البيان" يتّكئ على تصوّرٍ للبيان يجعله مرادفًا لـ"البلاغة،" على نحوِ ما هو مألوفٌ في الدراسات المبكّرة في البلاغة العربيّة، وبخاصّةٍ خلال القرنيْن الثالث والرابع الهجريّيْن، قبل التقسيم الثلاثيّ الشائع للبلاغة.
المؤلِّف، المعروفُ بخوض ميدان اللسانيّات التطبيقيّة، اتّبع في البحث البيانيّ لشعارات الحَراك طريقةَ تأليفٍ مطَّردة. فقد بدأ تناولَه لكلّ ظاهرةٍ بتعريفها، ثم أورد الشعاراتِ التي تتضمّنها، موضحًا موضعَ الظاهرة داخل بعض هذه الشعارات. ويتطابق هذا المنحى من التأليف مع كُتب البلاغة التعليميّة، المعنيَّةِ بالتعريف بالظواهر البلاغيّة. غير أنّنا نحتاج كذلك إلى فهم كيفيّة تمكين هذه الظواهر خطابَ الحراك من إنجاز أغراضه، وما يمتاز به خطابُ الحَراك اللبنانيّ في استعماله لها عن الخطابات الأخرى. حبّذا لو طرح الكتابُ مثلَ هذه الأسئلة واستفاض في الإجابة عنها!
أمّا الجزءُ الثاني من الفصل العاشر فيَحمل عنوانَ "ثنائيّة الأنا والآخر في خطاب الحَراك،" ويتكوّن من سبع نقاط. يُفتَتَح هذا الجزءُ بسردٍ مفصّلٍ لتطوّر أحداث الحراك، ثم يمزج بين تطوّر الحَراك وتطوّرِ شعاراته. وعلى الرغم من الجهد المبذول في بناء سرديّةٍ للحراك تتلاقح مع سرديّة حياة شعاراته، فإنّ هذا الجزء يتحرّك في معزلٍ عن عنوانه. ومع ذلك، فإنّ المعلومات الوافرة التي يتضمّنها، والإحاطةَ المدقِّقةَ بسياق إنتاج خطاب الحراك وصُنّاعه وتطوّراته، تجعله من أهمّ ما تضمّنه الكتاب.
ب - يواصل الفصلُ الحادي عشر نسجَ سرديّةٍ لشعارات الحَراك المكتوبة والمنطوقة. ومن أمتع أجزاء هذه السرديّة ما خصّصه المؤلِّفُ لتتبّع حضور "الجدران" في خطاب الحَراك بوصفها حوائطَ ملموسةً، أو مجازًا للعزل والفصل. هكذا يَحْفر المؤلِّفُ عميقًا لاستخراج دلالات استعمال لفظة "الجدار" ومقاصدِه ومرادفاتِه (الحائط، والحيط).
ج - أما الفصل الثاني عشر فيُعالج ظاهرتيْن، هما حضورُ التراث وشيوعُ البذاءة في خطاب الحَراك. لا يَربط المؤلِّفُ بين الظاهرتيْن، بل يرى في "مغازلة" شعارات الحَراك اللبنانيّ للتراث أمرًا مستحسَنًا "تُعكِّره" التعليقاتُ التي تتجاوز حدودَ الأدب. ولفظة "تعكّره" في وصف أثر البذاءة في الخطاب ليست التقويمَ الوحيدَ الذي استخدمه المؤلِّفُ لهذه الظاهرة؛ فهو يرى في موضعٍ آخر من الفصل أنّ البذاءة "فَشِّةُ خلق" ظهرتْ عندما طفح الكيلُ بالمتظاهرين. ومن ثمَّ يتأرجح المؤلِّفُ بين موقفيْن من البذاءة في خطاب الحَراك: الأول يُحاسبها أخلاقيًّا بوصفها "سوقيّةً نابيةً" و"إسفافًا لفظيًّا" يعكسان "انفلاتًا تعبيريًّا،" والثاني يفسِّرها وظيفيًّا بوصفها ردّ فعلٍ متصاعدًا إزاء تجاهل المسؤولين لمطالب الحَراك.
يتلاقى مكوِّنا البذاءة والتراث في سياق تحليل دلالات ألفاظ الحيوان في خطاب الحَراك اللبنانيّ. فقد تتبّع د. سراج سياقاتِ ورود ألفاظ الحيوانات في شعارات الحَراك، وربَطَها بالحكايات السياسيّة الأشهر في التراث السياسيّ العربيّ، معتبرًا أنّ استعمالَ المحتجّين كلمةَ "الكلاب" تناصٌّ مقصودٌ مع كليلة ودمنة. غير أنّ هناك فروقًا جذريّةً في توظيف الحيوان بين السياقيْن: فقد كان اللجوءُ إلى عالم الحيوان في كليلة ودمنة سعيًا لتأسيس أمثولةٍ سياسيّةٍ تتيح إخفاءَ الرسالة السياسيّة، في حين أنّ اللجوءَ إلى أسماء الحيوانات في خطاب الحَراك اللبنانيّ يَستهدف إنتاجَ رسائل سياسيّة صريحة إلى حدّ الفظاظة. وبالطبع، فإنّ ما يَجمع بين خطابَي الحَراك اللبنانيّ وكليلة ودمنة هوتوجّهُهما إلى سلطةٍ سياسيّةٍ بغرض تقويمها، وإنْ اختلفتْ وسائلهما. وقد تناول المؤلِّفُ بإيجاز، في ختام الفصل، حالتيْن أخرييْن لحضور التراث في خطاب الحِراك: قصة علي بابا والأربعين حرامي، والمثل الشعبيّ "الدرج ما بينشطف من تحت."
د - اختصّ الفصلُ الأخير في هذا القسم، وفي الكتاب عمومًا، بشعارات الحَراك المتعلّقة بالنظافة، والمتداوَلة خارج بيروت العاصمة. يقدّم الفصلُ سرديّةً لهذا الحراك ولتطوّر شعاراته، مركِّزًا على ظواهر معجميّة وتركيبيّة، مثل استعمال تراكيب النفي والمفردات العامّيّة. وجاءت خاتمة الكتاب في شكل استخلاصاتٍ عامّةٍ ومكثّفةٍ حول مرتكزات الحَراك اللبنانيّ، وخطابِه، والجهدِ الذي بذله المؤلِّفُ فيه.
تَفْرض بنيةُ الكتاب، كما عرضتُه في السطور السابقة، بعضَ التساؤلات. وقد أشرتُ من قبل إلى أنّ فصولَ القسم الثاني يمكن اقتراحُ ترتيبٍ مغايرٍ لها، وهو ما ينطبق أيضًا على القسم الثالث. فالفصلان الخامس والسابع يدرسان ظاهرتيْن خطابيّتيْن وثيقتَي الصلة، هما التنوّع الأسلوبي والتضفير الخطابيّ؛ يفصل بينهما فصلٌ يدرس نوعًا خطابيًّا خاصًّا مستقلًّا هو الجداريّات. وربما كان الأفضل ترتيبها بحيث يأتي الفصلُ السابع بعد الخامس مباشرةً. أما الفصل السادس فإنّ مكانَه الأفضل ربما يكون القسمَ الثالث، بجوار الفصل التاسع الذي يتناول التحليلَ السيميائيَّ للشعارات والجداريّات. وعلى نحوٍ مشابه، فإنّ الفصل الثامن الذي يتناول الفضاءات الحضريّة بوصفها حاضنًا للحراك يحتاج إلى إعادة موضعة؛ وربما كان الأفضل ضمّه إلى الفصليْن الثالث والرابع في قسمٍ خاصّ يُقدِّم سرديّةً للاحتجاجات وأماكنِها وزمنِها ووسائطِ تداول خطابها.
ومع ذلك، فإنّ بنية الكتاب الحاليّة لا تؤثّر في إدراكنا لأهمّيّته وقدرتِه على التعامل مع "اليوميّ" ورفعه إلى مرتبة التفكّر العلميّ. وعلاوةً على ما أورده سراج من نقاط قوّة كتابه في الخاتمة، أضيف النقاطَ الآتية:
1 - أرشفة التجلّيات اللغويّة للظواهر الاجتماعيّة. فمن أهم الإسهامات التي يقدّمها سراج في هذا الكتاب، وفي سائر نتاجه، بناءُ أرشيفٍ للتجلّيات اللغويّة للظواهر الاجتماعيّة التي يدرسها، وإتاحةُ هذا الأرشيف لجمهور الباحثين. ومن ثمَّ، فإن هناك وظيفةً تاريخيّةً لأعمال سراج تُمكّنها من البقاء لمدًى زمنيٍّ طويل.
هذه الجهودُ الأرشيفيّة لأعمال سراج تجعلنا نقدّر كثيرًا المَلاحقَ الضخمةَ التي ألحقها بكتاب الخطاب الاحتجاجيّ. فقد استقلّت ملاحقُ الشعارات المكتوبة والمصورة بالصفحات من 269-328 من الكتاب. ومن المؤكّد أنّ جمعَ هذه الشعارات عملٌ مُضنٍ؛ كما أنّ تصنيفَها وفق مستوياتِ تداولها هو عملٌ بحثيّ بامتياز. ومن هذه الزاوية، فقد كنتُ آمل أن تكون عمليّةُ الأرشفة أكثرَ تحديدًا. إذ وردت الشعاراتُ نفسُها مرّتيْن، مكتوبةً مرّةً ومصوّرةً أخرى، وكان من الممكن إيرادُها في صورةٍ واحدة. والحقيقة أنّ المساحة المحدودة المعطاةَ للتحليل السيميوطيقيّ للشعارات واللافتات ربّما قلّل من ضرورة إلحاقها بالدراسة. ومع ذلك، فإنّنا حين نضع الوظيفةَ الأرشيفيّة لهذه المَلاحق في الحسبان، فإنّ مجرّدَ توثيق هذه اللافتات (لغةً وزمانًا ومكانًا) يُصبح في ذاته عملًا شديدَ الأهمّيّة.
2 - المزج بين السرديّة التاريخيّة واللسانيّة للاحتجاجات العربيّة. في مقدور قارئ هذا الكتاب، وبقيّةِ كتبِ سراج، أن يلاحظ الطابعَ السرديَّ للكتاب. فالكتاب في معظم أجزائه "يروي" وقائعَ الاستعمال اللغويّ في الاحتجاجات اللبنانيّة، ويوثّقُه، متقصّيًا تنوّعَ دلالاته وتعدّدَ سياقاته. يصوغ المؤلِّف روايتَه بواسطة كتابة مَشاهدَ حكائيّةٍ مصغّرة، تكشف عن لحظة ميلاد شعارٍ أو لافتةٍ أو تسميةٍ معيّنة، أو سيرةِ حياته، أو وقائعِ تغيُّره وتلاشيه. ومن بين هذه الفسيفساءات السرديّة المتناهيةِ الصغر، تتشكّل سرديّةُ خطاب الحراك اللبنانيّ.
هذا الطابعُ السرديّ يُضفي على الكتاب تشويقًا، ولكنّه يضفي عليه أيضًا لمسةً شبهَ تاريخيّة. فهو، إذ يكشفَ للجمهور جانبًا من المسكوت عنه في كيفيّات تشكّل خطاب الاحتجاج وظروفِ تداوله، يأتي أحيانًا على حساب المقاربتيْن التحليليّة والوصفيّة لأبنية الخطاب اللغويّة، مقارنةً بأعمال سراج السابقة، وبخاصةٍ خطاب الرشوة ولغة الشباب وشعارات الثورة المصريّة. لكنّه مخلص للطابع الأساس لكتبه، القائمة على مقاربةٍ تنحو إلى إيلاء رسم ملامح سياقات إنتاج الخطاب وتداولِه وتوزيعِه الاهتمامَ الأقصى.
3 - تعدّد المداخل والمقاربات. دراسة خطاب الاحتجاجات الاجتماعيّة تتطلّب مقاربةً متعدّدةَ الاختصاصات، بسبب تنوُّع أبعادها اللغويّة والبلاغيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والنفسيّة والتاريخيّة. وقد حرص سراج على تبنّي مقاربةٍ متعدّدةِ التخصّصات لخطاب الحَراك اللبنانيّ، تتجاور فيها المنظوراتُ الاجتماعيّةُ والسياسيّةُ واللسانيّة. كما حرص على الجمع بين مستوياتٍ تحليليّةٍ متنوّعة، على نحوِ ما نرى في تحليله لمعجم الحراك وتركيباتِه وأساليبِه. لكنْ، لتوضيح هذه الأهميّة، يحتاج الكتابُ إلى بناءٍ أفضل للعلاقة بين مداخله النظريّة وتطبيقاته؛ فبعضُ العتاد النظريّ الوارد في مفتتحات الفصول ومقدّمة الكتاب - على أهمّيّته - لم يُفعَّلْ أثناء التحليل. ويمكن تفسيرُ ذلك بانشغال سراج ببناء سرديّةٍ لخطاب الحراك.
4 - الخطاب والواقع. ينطلق كتابُ سراج من فرضيّة أنّ الخطاب هو الفاعلُ الأساسُ في الحراكات الشعبيّة. هذه الفرضيّة تُصاغ في شكل مسلَّمةٍ، على نحوِ ما يتجلّى في صفحة 25: "الحَراك الشعبيّ الذي عاشته مدنٌ عربيّةٌ عدّة انطلق أساسًا على إيقاعات الهتافات، والتفَّ خلف منظومة شعاراتٍ نادت بالتغيير والإصلاح." إنّ صياغةَ هذه الفرضيّة في شكل مسلّمةٍ أمرٌ شائعٌ في الأعمال التي تناولتْ خطاباتِ الربيع العربيّ، على الرغم من وجود وجهات نظر متباينةٍ بشأن الدور الذي يؤدّيه الخطابُ في حركات التغيير الاجتماعيّ.
من الطبيعيّ أن يميلَ علماءُ "لسانيّات المجتمع" إلى البرهنة على حيّزٍ أكبرَ لهذا الدور، وذلك بسبب الإدراك المتعاظم لدوْر الخطاب في صياغة توجّهات الأفراد والمجتمعات. لكنّ هذا الميْل يجب ألّا يؤدّي إلى الانحياز إلى عاملٍ دون غيره من عوامل التأثير في ظاهرة الاحتجاجات الشعبيّة. والأجدر دومًا هو طرحُ هذه الفرضيّة في شكل أسئلةٍ محدّدة: إلى أيّ مدًى يؤثّر الخطابُ في الاحتجاجات الشعبيّة؟ وكيف يمكن قياسُ هذا التأثير؟ وكيف يقوم به؟ وما الآثارُ والنتائجُ المترتّبة عليه؟.... ومن الضروريّ طرحُ هذه الأسئلة لاختبار فرضيّة أثر الخطاب في الاحتجاجات حتى نفهمَها، ونفهمَ مآلاتها. ومن المؤكّد أنّ الخطاب الاحتجاجيّ يُقدّم إسهامًا مفيدًا وضروريًّا لفهم كيفيّات تشكّل هذا الخطاب، وأثرِه في التحوّلات العربيّة في زمننا الراهن.
قطر
[1]ثمّة تصوّرات مختلفة للعلاقة بين اللسانيّات الاجتماعيّة وعلم اجتماع اللغة. للاطّلاع على بعضها يمكن الرجوعُ إلى:
R. Mesthrie, “Sociolinguistics and Sociology of Language,” The Handbook of Educational Linguistics, 2008, p. 66
[2]نادر سراج، الخطاب الاحتجاجيّ: دراسة تحليليّة في شعارات الحَراك المدنيّ (الدوحة-بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص 15.