في حوارٍ منسوبٍ إلى عالم الاجتماع العراقيّ الراحل علي الوردي وأحدِ الأمريكيين، قال الوردي: "كنتُ في أمريكا، ونشب نزاعٌ عنيفٌ بين المسلمين حول عليّ وعمر، وكانت الأعصابُ متوتّرةً، والضغائنُ منبوشةً. فسألني الأمريكيّ عمّن يكون عليّ وعمر، وهل يتنافسان الآن على الرئاسة عندكم كما يتنافس ترومين وديوي هنا. فقلت له إنّهما كانا في الحجاز قبل 1300 سنة، وإنّ النزاع الحاليّ يدور حول أيّهما أحقّ بالخلافة. فضحك من هذا الجواب حتّى كاد أن يستلقي، وضحكتُ معه ضحكًا فيه معنى البكاء..."
يَفضح هذا الحوار مركزيّةَ التاريخ، ومدى حضوره الفظّ والدراماتيكيّ في جوف ذهنيّةٍ إسلاميّةٍ مستشرية. وما يُحيِّر في الأمر هو قدرةُ هذه الذهنيّة على مقاومة كلّ عوامل الزمن (التعرية، التآكل، الاندثار...). فهل نحن إزاء رأسمالٍ ضخمٍ، يزدهر ويتجدّد في كلّ دوراتنا التاريخيّة؟!
إنّ الحنينَ إلى الماضي، والرغبةَ في استعادةِ لحظةٍ ما، سمةٌ أصيلةٌ لدى البشر. أمّا أن نتّخذ من أشدّ لحظاتنا مأساويّةً نقطةَ ارتكازٍ نبني عليها تلك الاستعادة، فذلك منتهى الجنون!
لكنْ، كيف يتناسل التاريخُ من رَحِم هذه الاستعادة المجنونة؟
كتب نيتشه في إرادة القوة عن فكرة "العودة الأبديّة." وجادله كونديرا في روايته، خفّة الكائن التي لا تُحتمل. وكلا الرأيين مفيدٌ في الإجابة عن معنى أن يتكرّر التاريخُ، خصوصًا في محطّاته الكارثيّة.
تفترض فكرةُ نيتشه أنّ كلّ شيءٍ في الماضي سيتكرّر بلا نهاية، لكنّ هذا التكرار لا يعني شيئًا: فالعالم عالمُ اللاجِدّة والبلاهة؛ ونظامُه أشبهُ بلعبةِ نردٍ لا تنتهي، فلا بدّ من أن تتكرّر النتائجُ في نهاية المطاف. وهذا التكرار غيرُ ذي أهمّيّة، مثل حربٍ وقعتْ في القرن الرابع عشر بين مملكتين أفريقيّتين فما غيّرتْ شيئًا في وجه التاريخ، مع أنّ ثلاثمائة ألف أفريقيّ لاقوْا فيها حتفَهم. فهل كان سيتغيّر شيءٌ لو تكرّرت الحرب مرّاتٍ لا حصرَ لها في سياقِ العودة الأبديّة؟
نعم، يردّ كونديرا. كانت ستؤول إلى كتلةٍ متراصفةٍ من الجماجم، وتفاهتُها ستكون متّصلةً بلا توقّف. فلو قُدِّر، مثلًا، للثورة الفرنسيّةِ أن تتكرّر باستمرار، لكان المؤرّخون الفرنسيّون أقلَّ فخرًا بروبسبيير. لكنّهم يتحدثّون عن شيءٍ لن يعود ثانيةً، ولذلك تصير السنواتُ الدامية مجرّدَ كلماتٍ ومجادلات، ولا تعود مخيفةً. هنالك فرق شاسع، إذن، بين روبسبيير الذي لم يظهر سوى مرّةٍ في التاريخ، وروبسبيير الذي يعود، بشكلٍ دائمٍ، ليقطعَ رؤوسَ الفرنسيّين!
يبدو الرأيان متناقضيْن. لكنْ ماذا لو اجتمعا على صعيدِ حالةٍ ما، وصبّا متآلفيْن في قعرِ مستنقعها؟
لننظرْ في حالتنا الإسلاميّة، فهل سنجد فرْقًا لو أعدنا رميَ نردِ "الفتنةِ" مرّاتٍ لا حصر لها، بالطريقةِ التي رُمي بها على طول التاريخ؟ ماذا يعني لو أنّ الفتنة حصدتْ آلافَ الأرواح في كلِّ حقبة؟ ماذا لو وظّفنا أرقى مهاراتنا لابتكار سلسلةٍ من الروبسبييرات، الملائمةِ لمتطلّباتِ كلِّ مرحلة، من أجل قطع رؤوس آلافٍ من البشر، باسم خلافٍ عمرُه أكثر من أربعة عشر قرنًا؟
وفق المنطق التاريخيّ ــــ البشريّ، لا يُمكِن أن تتكرّر هذه الأشياءُ من دون عبرة إلّا في حالةٍ واحدة، هي الحالة التي تحدّث عنها نيتشه في سياق فكرته عن العودة الأبديّة: أيْ حين يكون العالمُ بلا هدفٍ، عالمًا من التفاهة والبلاهة اللامتناهية.
وتلك، بالضبط، حالتُنا الرّثة: الحالة التي نعيش فيها حياةً اعتبرناها، منذ يومنا الأوّل، "فانية،" فصارت بداهةً عديمةَ الجدوى، وصرنا نتحايل كي نتبرّأ منها عبر شتّى الوسائل، أقلُّها بؤسًا، ربّما، اختيارُ العيش في معمعةِ بلاهةٍ سرمديّة!
هنا ستجد مَن يفيض عليك بالقول: الناسُ يقتلون في كلّ مكانٍ، وفي سبيل غاياتٍ أتفه. وطبيعةُ السلطة، بما هي صراعٌ دائمٌ لتحقيق انتصارٍ حاسمٍ داخل العلاقات الاجتماعيّة، تدفع كلَّ جماعةٍ إلى إنشاء قائمةٍ طويلةٍ بمقدّساتها، بغيةَ الحفاظ على إخلاص أعضائها وتفانيهم.
والمشكلة في هذا القول أنّه صائب. والشهرستاني في تاريخ المِلَل والنِحَل أوجزه بعناية: "ما سُلَّ سيفٌ في الإسلامِ على قاعدةٍ دينيّةٍ مثلَما سُلَّ على الإمامةِ في كلّ زمان." ولهذا تجدنا نستسلم لمنطقه الذي يعفينا من رؤية تفاهتِنا التي لا تُطاق.
لِنعُدْ إلى الحوار المنسوب إلى علي الوردي والأمريكيّ، ولكنْ من دون ذكر أيٍّ من الصحابة لكي نرى الأمر خارج كلّ صبغةٍ قداسيّةٍ متعالية. سنقول في هذه الحالة إنّ الناس سيتقاتلون بسبب التزاحم على الاحتياجات والمصالح الدنيويّة، وفي سبيل السباق على السلطة، لكنّهم سيصلون في نهاية المطاف إلى تسويةٍ ما، حالما يصبح منطقُ التقاتل غيرَ جديرٍ بأن يدافعوا عنه. أمّا التقاتل دفاعًا عن القضايا المقدّسة، والحقائقِ الغيبيّة المُطلقة، والرموزِ المسوَّرةِ بسياجٍ سماويٍّ لا تنفكّ عُراه أمام احتمالات الخطأ، فذلك هو ما جعل تاريخَنا كارثيًّا لا نهايةَ لفظائعه، ولا سبيلَ إلى تجاوزه؛ وهو ما جعله أيضًا أداةً طيّعةً لكلّ محترفي السياسة المنحرفين!
شبّه اليونانيُّ هيراقليدس الحياةَ، في تجدّدها الدائم، بصورةٍ آسرة: "إنّك لا تنزلُ إلى النهر مرّتين لأنّ المياه الجديدة تتدفّق باستمرار." في سياق فكرة العود الأبديّ بصيغتها الإسلاميّة، تبدو المياهُ مقزِّزةً إلى حدِّ الغثيان. فثمّة مستنقعٌ مياهُه آسنةٌ، قد ركدتْ منذ مئات السنين، وازدهرتْ فيه أوساخُ ملايين من البشر الذين غطسوا إلى أعماقه. ومع كلّ هذا الدنس الباذخ، ستجد هناك مَن يملك استعدادًا دائمًا لأن يقذف بنفسه إلى قعر مياهه، ويغطس بين أدرانه، من دون أن يكون هنالك أدنى أملٍ في مفارقته.
وتلك هي الصورة باختصار!
ألمانيا