لأكثر من عقديْن، انشغل الدكتور عبد الوهّاب المسيري بدراسة القضيّة الفلسطينيّة. واهتمّ اهتمامًا خاصًّا بالظاهرة الانتفاضيّة، وتطرّق إليها في كتبٍ عدّة. غير أنّ هناك كتابيْن يُمكن اعتبارُهما أهمَّ نتاجات المسيري المعرفيّة عن هذه الظاهرة، وذلك لما احتوياه من قراءةٍ لا تكتفي برصد الانتفاضة وتفاصيلها اليوميّة فقط، وإنّما تستنطق هذه التفاصيلَ أيضًا من أجل استنباط رؤية تُسهِّل علينا فهمَ الواقع وتفسيرَه، تمهيدًا لتغييره.
في الانتفاضة الفلسطينيّة والأزمة الصهيونيّة: دراسةٌ في الإدراك والكرامة،[1] قدّم المسيري دراسةً فريدةً عن انتفاضة فلسطين الأولى عام 1987، وقام عبرها بتحليل النموذج الانتفاضيّ. أمّا في كتابه الثاني، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينيّة: أثرُ الانتفاضة على الكيان الصهيونيّ، فتناول الانتفاضةَ الثانية سنة 2000، مبيّنًا الأثرَ العميقَ الذي تركتْه في المجتمع الصهيونيّ، وموضِحًا حقيقةَ التقدّم الذي حقّقه الشعبُ الفلسطينيّ في نضاله المستمرّ ضدّ هذا الكيان.
كيف يُدرك المستوطنون السكّانَ الأصليين؟
في كتابه عن الانتفاضة الثانية، يقول المسيري إنّ المستوطنين يدركون السكّان الأصليين من خلال خرائط إدراكيّة معيّنة.[2]
والخريطة الإدراكيّة هي "صورةٌ في عقل الإنسان يتصوّر أنّها تعكس الواقع. ومن خلال هذه الصورة يقوم بترتيب المعطيات التي تأتيه، فيُهمِّش البعضَ، ويركّز على البعض الآخر."[3] غير أنّ هذه الخريطة ليست ثابتةً أو أزليّة، وقد تتغيّر عندما يعمل الواقعُ المدرَكُ على تحدّيها وتبيين قصورها.[4] وهناك، في الحالة الفلسطينيّة، صورتان إدراكيتان يُدرِك عبرهما المستوطنون السكّانَ الأصليين:
- صورة الإنسان الغائب أو الهامشيّ. تتكوّن هذه الصورةُ في الذهنيّة الاستيطانيّة عند اتجاه موازين القوى لصالح المستوطنين، وتظهر غالبًا في الحالة التي لا يعمل فيها الفلسطينيون على تحدّي البنية الاستيطانيّة، فيحقّقون للمستوطنين كلَّ ما يرجونه من أمنٍ واستقرارٍ ورفاهيّة، وذلك يؤدّي إلى إرشادهم نحو التعاطي مع الفلسطينيين باعتبارهم عناصرَ مهمّشةً، أو غائبة كليًّا عن خريطتهم الإدراكيّة.
- صورة الإنسان الحقيقيّ. تتكوّن هذه الصورة في الذهنيّة الاستيطانيّة عند اتجاه موازين القوى لصالح الفلسطينيّين، وتظهر غالبًا حين يعملون على تحدِّي البنية الاستيطانيّة ومقاومتها. هنا يرى المستوطنون أنّ البنية الاستيطانيّة لم تحقّقْ كلَّ ما يرجونه من أمنٍ واستقرارٍ ورفاهية، وذلك يؤدّي إلى إعادة صورة الفلسطينيين الحيويّة إلى خريطتهم الذهنيّة، باعتبارهم عناصرَ حقيقيّةً فاعلةً وموجودة.[5]
المسيري: صورتان يُدرِك عبرهما المستوطنون السكّانَ الأصليين: صورة الإنسان الغائب، وصورة الإنسان الحقيقيّ
كيفَ أثّرت الانتفاضةُ الثانية في المجتمع الصهيونيّ؟
يُبيّن المسيري في كتابه عن الانتفاضة الثانية الآثارَ العميقة التي تركتْها الانتفاضةُ في المجتمع الصهيونيّ بأسْره. فهي قد ساهمتْ مثلًا في زعزعة أمن الإسرائيليين، حتى ظهرتْ لديهم "حضارةُ البقاء في المنزل." وأدّى تنامي معدّلات الخوف في نفوسهم إلى زيادة النازحين والمهاجرين خارج الكيان. هذا بالإضافة إلى بروز ظاهرة الفرار من الخدمة العسكريّة، وإلى سقوط الإجماع على الاستيطان داخل فلسطين المحتلة عام 67.
ويوضح المسيري أنّ هذه الآثارَ جميعَها أدّت إلى هزّ الخريطة الإسرائيليّة الإدراكيّة. فهذه الخريطة قبل الانتفاضة، وعلى امتداد سبع سنوات من السكون الفلسطينيّ بسبب اتفاقيّة أوسلو (1993)، كانت تُدرك الفلسطينيّين عبر صورة الإنسان الهامشيّ أو الغائب، وأنّهم - إنْ وُجدوا - فوجودُهم عرضيٌّ أو طارئ. لكنّها حين رأت الفلسطينيَّ يدافع عن حقّه وأرضه، اهتزّت وتزلزلتْ وأدركتْ أنّها لا تدرك الواقع كما هو.[6]
وفي سياق هذا الحديث، يُمكن فهمُ حالة التطرّف والاعتدال الإسرائيليّيْن. فإذا كان الفلسطينيّون في وضع القُنوع والخُنوع، ففي وسعِ هذا العدوّ أن يتعاطى معهم بقدرٍ من الاعتدال. لكنْ حين يلجأون إلى هزّ خريطته الإدراكيّة عبر الانتفاض والتمرّد، فإنّه يلجأ إلى استخدام أقصى درجات العنف، سعيًا إلى تغيير الواقع بالقوّة كي يتّسق مع خريطته الإدراكيّة الأصليّة، القائمةِ على تهميش السكان الأصليّين وتغييبهم.[7] وما واجهتْه الانتفاضةُ الثانية من قوّة البطش الشارونيّة أكبرُ دليلٍ على محاولة ذلك العدوّ تغييرَ الواقع بالقوّة، والرجوعِ به إلى زمان ما قبل الانتفاضة، حيثُ الفلسطينيّ الهامشيّ الخانع.
دعوة إلى تجاوز التبعيّة الادراكيّة
إنّ المسيري في كتابه عن الانتفاضة الثانية يستبطن دعوتَنا، عربًا وفلسطينيين، إلى تحرير خريطتنا الإدراكيّة من التبعيّة و"إمبرياليّة المقولات،" أيْ تبنّي مقولات الآخر التحليليّة والتفسيريّة واستبطانِها، بوعيٍ أو من دونه. إنّ إمبرياليّة المقولات هي "غزوٌ للخريطة الإدراكيّة واستيلاءٌ عليها."[8]
وضمن الإطار السابق، يوضح المسيري أنّ أكبرَ دليل على التبعيّة الادراكيّة في السياق العربيّ هو فشلُ بعض الإعلام العربيّ في رصد الآثار التي أحدثتْها الانتفاضةُ الثانية، وذلك حين يصوِّر الفلسطينيّين أناسًا يهوون القيامَ بعمليّات استشهاديّة عبثيّة، بحيث تبدو الانتفاضة كما لو كانت فعلًا عبثيًّا بالمطلق.[9] وهذا يدلّ على أنّ الخريطة الإدراكيّة المتحكّمة في القائمين على هذه الوسائل مشبعةٌ بالهزيمة، ولم تتجاوزْ مقولاتِ العدوّ الترويجيّة عن جيشه "الذي لا يُقهر" وقُبّته الحديديّة "التي لا تُخترق."
انتفضْ لكي تكون!
وأخيرًا، فإنّ المسيري يظهر وكأنّه يقول إنّ الانتفاضة هي الطريق الوحيد لإعادة وجود الإنسان الفلسطينيّ المغيَّب إلى الخريطة الإدراكيّة الإسرائيليّة. ففي هذا العالم، لا يُمكن إيصالُ القيم غير المحسوسة، مثل الحقّ والعدل، إلى العدوّ إلّا عبر آليّاتٍ تضغط على حواسّه الخمس من خلال المقاومة. هكذا سيَعرف العدوُّ أنّ الفلسطينيّ ليس مُجرّدَ صورة باهتة يُمكن أن يقوم بتغييبها متى شاء، وإنّما هو قوة حيويّة فاعلة يُمكن أن تُسبّب له خسائر عظيمة في حال تجاهلها أو تهميشها أو تهشيمها.[10]
نابلس
[1] عبد الوهاب المسيري، الانتفاضة الفلسطينيّة والأزمة الصهيونيّة: دراسةٌ في الإدراك والكرامة (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 2000).
[2] عبد الوهاب المسيري. من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية: أثرُ الانتفاضة على الكِيان الصهيوني. (دمشق: دار الفكر المعاصر، 2000) مج 1، ط 1، ص17.
[3] سوزان حرفي، الثقافة والمنهج، حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري. (دمشق: دار الفكر، ط 1، 2009)، ص 263.
[5] المسيري، مصدر سبق ذكره، ص17 - 18.
[6] سوزان حرفي، مصدر سابق، ص269.
[7] المصدر السابق، ص269 - 270.
[8] المصدر السابق، ص 268.
[9] المصدر السابق، ص 268 - 269.
[10] المصدر السابق، ص 19.