بعد أحدَ عشرَ عامًا على استقلال سوريا، وقبل بضعةِ أشهرٍ من وحدتها مع مصر أواخرَ العام 1957، ولدتُ في شرقيِّ العاصمة دمشق.
أُطلق عليَّ اسم "أستاد العباسيين الدوليّ،" تيمّنًا بالحقبة العباسيّة من التاريخ العربيّ الإسلاميّ. وعلى الرغم من أنّني لم أُدركْ يومًا العلاقةَ التي تربط الخلفاءَ العباسيّين بالرياضة، فقد تكيّفتُ، بمرور الزمن، مع هذا الاسم؛ ذلك أنّ خيارَنا الوحيد، نحن المنشآتِ الوطنيّةَ في هذه البلاد، أن نوصَمَ بأبعدِ الأسماء عنّا، وكأنّ قرارًا قد اتُّخذَ بألّا يكونَ لنا من أسمائنا أيُّ نصيب. لكن، قد تجد مبنًى أو جسرًا أو شارعًا يعشقُ اسمَه، كحال جارتي المسكينة التي أُطلّ عليها: "ساحة العباسيين،" التي تَسقط عليها منذ أعوامٍ قذائفُ الهاون أكثرَ من حبّات المطر؛ وقد شُغلتْ بجراحِها إلى حدِّ أن نسيتْ صراعَها التاريخيّ مع ساحة الأمويين حول أحقّيّةِ استضافة التجمّعات البشريّة والمهرجاناتِ الخطابيّة.
***
امتدّت فترةُ مراهقتي حتّى العام 1976، إذ تحوّلتُ من ملعبٍ صغيرٍ مُخصّصٍ لألعاب القِوى إلى ملعبِ كرةِ قدمٍ يتّسع لثلاثين ألف متفرّجٍ دُفعةً واحدة. لكنّ اندلاع هذه الحرب جعلني من أوائل الخاسرين، إذ ساقوني إلى الخدمة الاحتياطيّة، ورحتُ أقضي الليل والنهار ثكنةً عسكريّةً تفصلها عن جبهة حيِّ "جوبر" بضعُ مئاتٍ من الأمتار؛ فأجدُ نفسي في كلِّ لحظةٍ مشطورًا بين الماضي والحاضر، عالقًا ما بين الحياة والموت. ولعبتي الوحيدة التي أدمنتُ ممارستَها هي ايجادُ الفوارق بين وقع أقدام اللاعبين وأقدام الجند، وبين هتاف الجماهير وصراخِ الجرحى، وبين صافرات الحُكّام وصفّاراتِ سيّاراتِ الاسعاف، وبين حِدّةِ تصفيقِ المشجعين وحِدّة أزيزِ الرصاص. حتّى إنّني رَصدتُ التفاوتَ بين سواد شواربِ المسؤولين الذين كانوا يتصدَّرونَ خلفَ كروشِهم على المنصّةِ الرئيسةِ أثناء منافسات الدَّوري، وسواد شواربِ الضبّاط الذين اتّخذوا من غرف تبديل الملابس مكانًا للنوم.
***
وعلى امتدادِ رُقعةِ البلاد، كنت وزملائي، حتّى العام 2011، من الأمكنة النادرة التي يُسمح فيها بالصراخ. هنا صدحَت الحناجرُ باسم سوريا، وأُلّفت الأغاني والأهازيج من أجلها؛ هنا ربحنا قليلًا وخسرنا كثيرًا؛ ومن هذه البقعة انفجرَ المعلّقُ مرةً: "جووول... جوووول... يا إلهي نسخة كربونيّة، هدف بنفس الطريقة وفي نفس التوقيت ولنفس اللاعب...عفوًا مشاهدينا إنّها الإعادة التلفزيونيّة للهدف السابق!"
من على مدرّجاتي انتُهكتْ أعراضُ الحُكَّام بالشتائم إثرَ احتساب أيِّ مخالفةٍ للخصم من شأنِها أن تُغيِّر مجرى المباراة، أو تُخرجَ سوريا من المنافسة. ولطالما أَقسَمَ الجميعُ بألاّ يرجعوا إليّ بعد "هذه الخسارة المذلّة،" لكنهم عادوا. هُزمنا مرّةً ومرّتين وألفًا، لكنّهم عادوا. لم نصل إلى كأس العالم، ومع ذلك لم تستطعْ أماراتُ الهزيمة المجلجلة التي ارتسمتْ على الوجوه أن تمنعَ السوريين من الابتسام بعد سماعهم الجملةَ الشهيرة: "الفوز مهم لكنّ المشاركة أهمّ، هاردْلكْ لمنتخبنا، هاردْلكْ لسوريا."
***
على أيّة حال لن ينفعَ التحسُّرُ في شيء؛ فما ذهب قد ذهب. والسؤالُ الحقيقيُّ الآن: "ما الذي سيأتي؟"
لم أتمكّنَ حتّى اللحظة من تقديم الإجابة، حالي في ذلك حالُ باقي الملاعب والبشر والمدنِ والأزهار، وحالُ أيِّ شيءٍ ينبضُ في هذه الأرض ولم تسعِفْه مقدراتُه العقليّة على فهم طبيعة هذه الحرب. فعندما أفكِّرُ في أمرها، ينتابني شعورٌ اختبرتُه منذ سنوات حين نهض المذيعُ عن كرسيِّه متحمِّسًا لتسديدةٍ ضلَّت طريقها إلى الشِّباك، صارخًا: "يا حرااام، كرة زاحفة تعلو العارضة بقليل!" عندها، رأيتُ لأوّل مرّةٍ في حياتي اللامعقولَ مُتجلّيًا في أبهى صوره. ولا بُدّ من أن أعترفَ لهذه الحربِ بأنَّها كانت أمهرَ مَن استطاعَ الإفلاتَ من تلكَ القبضة وأدهاهم.
***
بجدراني المثقوبة، بمدرجاتي المهشّمة، وبأرضيّتي العشبيّةِ الحزينة، كتبتُ هذه الكلمات. ويعودُ الفضلُ في ذلك إلى الهدنة السارية حاليًّا؛ هدنة آملُ أن تستحيلَ سلامًا دائمًا: فهذه المباراة قد امتدّت أكثرَ بكثيرٍ من تسعين دقيقة، ومازال التعادلُ السلبيُّ سيّدَ الموقف.
وفي الختام أوصيكم، قبل كلِّ شيء، بأن تُحافظوا على وحدة سوريا. ذلك لأنّي لا أتخيَّلُ يومًا لن تتمكّنَ فيه جماهيرُ نادي الفتوّة من الارتماء في أحضاني قادمةً من ضفاف الفرات، من دير الزور، لتشجِّع فريقها رافعةً شعارها المُفضَّل:
"بالزورْ، بالقوةْ، حتربح الفتوّة."
المخلص دائمًا: ملعب العباسيين
سوريا، دمشق