إنّ العنوان المقترح لهذا المحور من المؤتمر يُملي عليّ أن أتناولَ مجاليْن من الطرح:
- الأوّل أعْرض فيه بعضَ خبراتٍ مهنيّةٍ شخصيّة، لكوني أمارس التعليمَ في المرحلة الثانويّة منذ ما يزيد على العشرين سنةً. كما أنّني كُلّفتُ، لثماني سنوات، بمهامّ مدير عامّ كُبريات المدارس الكاثوليكيّة التي تعلّم المنهجَ الفرنسيّ. وعلى مستوى إعداد المناهج، كنتُ المنسِّقَ العامّ لفريق إعداد مشروع المنهج الجديد لمادّة التربية الوطنيّة والتنشئة المدنيّة، الذي بلغ به المطافُ أدراجَ مكتب وزير التربية.
- الثاني أسعى فيه، بصفتي مسؤولًا تربويًّا عن مجموعة مدارس بطريركيّة الروم الملكييّن الكاثوليك في لبنان، إلى اقتراح مستلزماتٍ منهجيّةٍ لرسم سياسةٍ تربويّة ٍعامّة لمقاربة مسألة الاحتلال الصهيونيّ ومقاومة التطبيع.
في المجال الأول، سأبْسط رأيي في ما أسمّيه "مستلزمات بناء منهج تعليميّ لمقاربة مسألة مقاومة التطبيع." أقتبسُ عناصرَ هذا التفكير من المثلّث الخطابيّ عند أرسطو: Ethos, Pathos, Logos (أي البعد القيميّ والبعد الانفعاليّ والبعد العقلانيّ). إنّ أيّ منهج تربويّ يهدف إلى إحداث تغييرٍ في المعارف والمفاهيم والمواقف والقناعات والمهارات والكفايات. وإذا أسقطنا هذا المفهومَ العامّ لـ"المنهج التعليميّ" على موضوعنا، فحريٌّ بنا، من أجل مزيدٍ من الفعّاليّة التربويّة والثقافيّة، أن نأخذَ في الاعتبار، عند بنائنا لسياساتنا التربويّة، تمايُزَ الأبعاد الثلاثة وتكامُلَها في إحداث الفرق التربويّ، أيْ: توطيد القناعة والممارسة لدى المتعلِّمين في فهم أبعاد مسألة "مقاومة التطبيع،" وجعلها عنصرًا من عناصر الثقافة المجتمعيّة العامّة في بلدٍ تعدّديٍّ كلبنان. وهذا يعني عمليًّا عدمَ الاكتفاء بتزخيم البعد الشعوريّ والانفعاليّ (Pathos)، على أهميّته، بل الاهتمام كذلك، وبالقدر عينه، بالبعديْن العقلانيّ (Logos) والقيميّ-الأخلاقيّ (Ethos).
عمليًّا، تحتاج مقارباتُنا التربويّة إلى مزيدٍ من التعمّق في بناء أرضيّةٍ عقلانيّةٍ على قدْرٍ من الدقّة والشمول:
- سواء لجهة ضبط مدلولات المصطلحات وسياقات استعمالها؛
- أو لجهة رصد الدراسات المفاهيميّة والقانونيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والإحصائيّة والتاريخيّة ذات الصلة بموضوع القضيّة الفلسطينيّة؛
- أو لجهة إظهار التمايزات في المواقف الدوليّة والإقليميّة وتطوّرها.
وربمّا من أفضال مؤتمرنا هذا أنْ يُسهمَ في تدعيم هذا الخطّ من العقلانيّة العلميّة والموضوعيّة في المقاربة بعيدًا عن الاعتبارات الذاتيّة و/أو الانفعاليّة.
أمّا في ما خصّ البعدَ الأخلاقيّ–القيميّ (Ethos)، فإنّني أرى أنّ تأسيس الموقف في مقاومة الاحتلال والعدوان، وفي مقاومة التطبيع بأشكاله المختلفة، على القاعدة القيميّة أكثرُ جدوى وتأثيرًا في نفوس المتعلّمين، من ربطه بمنطلقٍ إيديولوجيّ حزبيّ أو سياسيّ. فالأساس القيميّ ينطلق من أنّ الاحتلال والعدوان ظلم؛ ومن ثمّ فإنّ رفضَ الظلم واجبٌ أخلاقيّ قبل أن يكون واجبًا وطنيًّا أو قوميًّا. ومع أنْ لا تعارُضَ بين البعد الأخلاقيّ-القيميّ والبعد الوطنيّ أو القوميّ في هذا الإطار، فإنّ ما يجدر التوقّفُ عنده حينئذ هو عدمُ جواز تبرير ظلم الداخل بحجّة مقاومة ظلم الخارج. فمن يتنطّح لمقاومة عدوّ محتلّ ظالم لا يمْكنه، بطبيعة الحال، أن يبرّر لحاكمٍ ظلمًا أو فسادًا أو استبدادًا أو انتهاكًا للقانون أو خرقًا للمنظومة القيميّة.
المقاومة حالة متكاملة. هي مشروع وقضيّة وجوديّة تملأ الكيانَ معنًى. ولذا لا يمكن أن تكون فعّالةً إنْ شاب بناءَها عيبٌ تكوينيّ في أساسها العقلانيّ أو القيميّ أو الانفعاليّ.
بيروت