نوال السعداوي من أوائل الكتّاب الذين ناضلوا من أجل مبدإ المساواة والعدالة في الحقوق الاجتماعيّة. وقد سَعَت إلى تفكيك الفكر الطبقيّ الذكوريّ، ما جعلها توظِّف النصَّ الأدبيَّ لتمكين المرأة وتسليحِها بمنبرٍ يَقْهر السلطاتِ الطاغية، ولا سيّما في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة.
ترفضُ السعداوي في كتاباتها توظيفَ الجسد بإيحاءاته الجنسيّة، بل تعمل على تصوير إساءة استخدام هذا الجسد بهدف استعباد المرأة وحجزِ حريّتها وتقييدِ تطوّرها الفكريّ.
لم تسعَ السعداوي إلى إحراز "نجاحاتٍ" قياسيّة بفضل نصوصٍ تركّز على الجنس والجسد، كما يدّعي البعض، بل أتت نجاحاتُها بما شكّلتْه هذه النصوصُ من مقاربةٍ نقديّةٍ واجتماعيّةٍ ونفسيّةٍ وعلميّة في كثيرٍ من الأحيان. لكنّ هذا لم يمنع البعضَ من اعتبارها "قوّادةً" للجمهور الغربيّ ومسيئةً إلى البيئات العربيّة والإسلاميّة، ولم يمنع البعضَ الآخرَ من اتّهامها باختزال النساء والرجال في شخصيّاتٍ ذاتِ بعدٍ واحد. وفي المقابل، هناك مَن رأى أنّ السعداوي قدّمتْ معاناةَ المرأة العاديّة من دون أقنعة؛ فهي أرادت لهذه المرأة تحقيقَ حرّيتها واستقلالِها الاقتصاديّ والنفسيّ عن سلطة المجتمعات الذكوريّة التي تحوّلها إلى كائنٍ ضعيفٍ وغيرِ منتِجٍ وتابع.
ترى السعداوي أنّنا نحتاج إلى إعادة تشكيل المجتمعات ونسفِ كلِّ الإيديولوجيات التي تأخذ الدِّينَ حجّةً للإمعان في احتقار المرأة وتهميشِها. فالمجتمع الذي يدرِّب الفتاةَ على الاهتمام بجسدها بما يفوق اهتمامَها بعقلها هو مجتمعٌ مصيرُ نسائِه القهرُ والذلُّ، وأحيانًا الاغتصابُ أو البيعُ أو البغاء. المجتمع الذي لا يَعْدل هو مجتمعٌ يزرع بذورَ الظلم والتخلّف. المجتمع الذي يعلّم الدِّينَ بصورته المشوَّهة، الحاقدةِ على الآخر المختلف، هو مجتمعٌ ظاهرُه محبّةٌ، وباطنُه حقدٌ وضغينةٌ ولاإنسانيّة.
في هذه المقالة سنتطرّق إلى رواية امرأة عند نقطة الصفر التي تمحورتْ حول جسد الباغية فردوس. نُشرتْ هذه الرواية عام 1975، وأَحدثَ موضوعُها صدمةً في بعض الأوساط العربيّة والإسلاميّة التقليديّة، وتُرجمتْ إلى حوالي 40 لغة. امرأة عند نقطة الصفر رواية قصيرة، صنّفتْها الكاتبةُ على أنّها مَبنيّة على "قصّة حقيقيّة،" وتناولتْ مسألةَ اضطهاد المرأة في المجتمع العربيّ، لكنّها أيضًا تدور حول الطبقيّة والفقر والنفاق الدينيّ وأسبابِ الدعارة. وقبل كلّ شيء، تقدّم الروايةُ استنتاجًا (غريبًا في رأيي) عن انتصار المرأة على كلّ تلك القوى التي تضطهدها وتحاول حرمانَها إنسانيّتَها وحريّتَها وحقَّها في الاختيار. فهل فعلًا اكتسبتْ فردوس الحقَّ في امتلاك جسدها والسيطرةِ على حياتها ومصيرها؟ هل فعلًا انتصرتْ على كلّ القوى الطاغية التي حوّلتْها إلى قاتلة، مع حكم إعدامٍ نُفّذ في حقّها يومَ أدْلت إلى الدكتورة السعداوي بقصّتها في سجن القناطر؟ هل كانت جريمتُها فعلَ تمرّدٍ أمْ فعلَ انتحار؟
***
تبدأ فردوس سردَ قصّتها للسعداوي كما يأتي: "دعيني أتكلّم ولا تقاطعيني... في صباح الغد لن أكونَ هنا، ولن أكونَ في أيّ مكانٍ يعرفه أحد. إنّ هذه الرحلة إلى مكانٍ مجهولٍ يجهله كلُّ الناس فوق هذه الأرض، ... تملأُني بالزّهو."
كلامُ فردوس ينسف المعتقَدَ الدينيَّ، الذي يجزم أنّ مصيرَ الباغية أو القاتلة هو الذهابُ إلى الجحيم لا غير. فردوس، العاهرة المصريّة المحكومُ عليها بالإعدام بتهمة القتل، تذكر على مدار سيرتها الذاتيّة مجموعةً متنوّعةً من المبادئ الليبراليّة، بما في ذلك الاحترامُ وتقريرُ المصير والحرّيّة، وتحاول من خلالها تشكيلَ قيمتها الذاتيّة. وفي هذا الصدد، يبحث سردُ السعداوي عن لغةٍ تعزِّزُ حقوقَ المرأة، وتَحُول دون إعدام فردوس قبل تثبيت انتصارها على المجتمعات التي تشرِّع المعاييرَ المزدوجة.
ولقد مكّن قلمُ السعداوي فردوسَ من توجيه صفعتها فعلًا، ليس فقط إلى كلّ رجلٍ عرفتْه، بل إلى النظام الطبقيّ الأبويّ الجائر أيضًا: "كلُّ رجلٍ عرفتُه أردتُ أن أَرفعَ يدي عاليًا في الهواء ثمّ أَهوي بها على وجهه." لكنّ هذا الانتصار، الذي شفى غليلَ فردوس، يدفعنا إلى التساؤل عمّا إذا كان حقيقيًّا وناجحًا. فهل تمكّنتْ، فعلًا، من توجيه صفعةٍ حقيقيّةٍ إلى النظام السائد حين قبلتْ حكمَ الإعدام ورفضت استئنافَ الحكم؟ أمْ أنّها أرادت أن ترحلَ عن هذا العالم بعدما فشلتْ في الانتماء إلى المنظومة الاجتماعيّة النمطيّة؟
تنعم فردوس، بعد أن خدعها الإحباطُ والغضب، بمنطقٍ منحرفٍ ترى من خلاله أنّ الدعارة تمرّدٌ على القهر الأبويّ والمعايير المزدوجة، وأنّها تتمتّع كباغيةٍ ببعض الحرّيّة التي لا يُمْكن نساءً سواها - ولا سيّما المتزوّجات والخاضعات لسلطة أزواجهنّ - الوصولُ إليها: "أقلُّ النساء انخداعًا هنّ المومسات." فهل خدعتْ نفسَها حين ظنّت أنّها أقوى من السلطة والرجل بمجرّد أنها تمكّنتْ من اختيار زبائنها وتحديدِ تسعيرةِ جسدها؟
هي تفخر أنّها "عاهرةٌ ناجحةٌ للغاية." وهذا النجاح (الوهميُّ في رأينا) ربّما دفعها إلى الاعتقاد أنّ جسدَها قد أصبح ذا تأثيرٍ سياسيٍّ في العلاقات المصريّة بالدول الأخرى، وذلك حين تقول إنّ الشرطة ضغطتْ عليها لقبول إقامة علاقةٍ برئيس دولةٍ أجنبيّةٍ لأنّ رفضها قد يؤدّي إلى "توتّر العلاقات بين البلدين." لكنّ رفضها أوهمها أنّها انتصرت انتصارًا ساحقًا على السلطة الذكوريّة. بل هي تتباهى بدخولها السجن من أجل ذلك: "ذاتَ مرّة وضعوني في السجن لأنّني رفضتُ أحدَ هؤلاء الرجال المهمّين." كذلك اعتبرتْ أنّ قبولَ رجال الشرطة للرشوة التي تقدّمها إليهم مقابلَ السكوت عن عملها هو أيضًا انتصارٌ لأنّه يفضح الفسادَ الأخلاقيَّ والدينيَّ والسياسيَّ في مجتمعها، وترى أنّ سلطةَ جسدها هي التي أعطتها القوّةَ لإثبات ذلك. غير أنّ هذه "الانتصارات" المتكرّرة التي سجلّتْها فردوس ضدّ السلطة لم تقدِّم إليها الشعورَ الحقيقيَّ بالأمان، ولا الشعورَ بالاستقلال عن المجتمع ومعاييرِه الأخلاقيّة.
أرادت فردوس أن تؤكّد سلطتَها عندما عرضتْ على القوّاد مرزوق شراءَ سكوته كما فعلتْ مع الشرطة، لكنّه رفض وأصرّ على مشاركتها أرباحَها. عندها اكتشفتْ أنّ استخدامَ جسدها لتحويل الرجال إلى أدواتٍ لتحقيق انتقامها من المجتمع إنّما هو ورقةٌ خاسرةٌ؛ ذلك لأنّ الدعارةَ صناعةٌ ضخمةٌ يسيطر عليها الرجالُ في نهاية المطاف، وتديرها الكارتيلاتُ والنقاباتُ السرّيّة، والهدف هو تحويل جسد المرأة إلى سلعةٍ وهدفٍ للاستغلال الجنسيّ والاقتصاديّ.
كما أدركتْ أنّ الدعارة تسلب كرامتَها الحقيقيّة ومكانتَها الاجتماعيّة وقوّتَها. فهي - وإن "اختارت" المستهلِك - عبْدةٌ للرجل وإنْ دُفِع لها بالدولار (الأمير الخليجيّ آخرُ زبائنها). فبدلًا من تحقيق الفاعليّة والذاتيّة والسّلطة، تعرِّض الدعارةُ النساءَ المنخرطات فيها إلى أسوإ أشكال التجريد من الحقوق الإنسانيّة والعنف والاستغلال والموت.
لذلك يتراءى لنا أنّ فردوس قد ضُلّلتْ في تكوين مفهومها لحريّتها ولحقّ الملْكيّة في جسدها وتقرير مصيرها لمجرّد أنّها قتلتْ مرزوقًا عمدًا وسلّمتْ نفسَها إلى الشرطة عمدًا. وهنا نسأل: هل كانت لديها رغبةٌ لاواعيةٌ في الموت لأنّها لم تكترثْ لتهديدات الأمير الخليجيّ باستدعاء الشّرطة، ولأنّها اعترفتْ بأنّها قاتلة ثمّ رفضت استئنافَ الحكم معتقدةً أنّها انتصرتْ؟
حكايةُ فردوس تُظهر كيف دُرّبتْ على أن تكون عبدةَ جنسٍ للرجل في حياتها. فإذا كانت أوّلُ تجربةٍ جنسيّةٍ لها عفويّةً وجميلةً مع ابن حارتها المراهق محمّدين، فإنّ التجربة الجنسيّة الأخطر التي درّبتْها على بيع جسدها كانت مع عمّها المتحرِّش، الذي ذهب أبعدَ من التحرّش لاحقًا حين راح يقدّم إليها الهدايا. فردوس لم تشكّل خطرًا بفضح عمّها لأنّها كانت تحبّه كثيرًا، وكانت ترى فيه صورةً لحنان الأمّ بعد وفاة والدتها. فهل كان مضطرًّا إلى شراء سكوتها ببعض الهدايا، أمْ أنّ هذا الأمر لعب في حياتها دورًا أقوى من التحرّش، وذلك بجعلها تتمرّس على بيع جسدها؟
ثمّ توالت الضرباتُ النفسيّة على فردوس حين خانها عمُّها بزواجه من ابنة أستاذه في الأزهر، وبعدها أجبرها على الزّواج من الشيخ محمود، الرّجلِ الستينيِّ البغيض والقبيح، الذي لم يعاملْها يومًا كزوجة، بل كعبدةٍ للجنس، وكان يُنزل بها أشدَّ العقوبات إنْ تجرّأتْ على المطالبة بأبسط حقوقها ("ضربني مرّةً بكعب الحذاء"). وحين اشتكت إلى عمّها قال لها: "إنّ كلّ الأزواج يضربون زوجاتِهم، وزوجةُ عمّي قالت لي إنّ عمّي يضربها!"
كلّ هذه التجارب جعلتْ فردوس فريسةً سهلةً لرجال العالم الخارجيّ عندما قرّرت الهروبَ من زوجها؛ فهي لم تكن محصّنةً بالأمان أو الوعي كي لا تقع في شرك تجّار الجنس، ورأت بعد تجربتها مع الدعارة أنّ في ذلك فائدة.
***
حاولتْ فردوس أن تعيدَ القيمةَ إلى جسدها حين قررّتْ أن تعتزلَ العملَ مومسًا، وأن تمارسَ عملًا محترمًا في مؤسّسة. وهناك التقت إبراهيمَ، الذي جعلها تحلم بأن تكون "إنسانة." فقدّمتْ إليه نفسَها كلَّها من دون قيودٍ أو مقابل. لكنّه قدّم إليها الصفعةَ الكبرى حين ارتبط بابنة صاحب العمل، معلِّلًا ذلك بالقيود الاجتماعيّة. فراحت تمارس الدعارةَ من دون رحمةٍ تجاه نفسها والرجال، وتحوّلتْ إلى آلةٍ للجنس، معتبرةً أنّ جسدَها لا يصلح إلاّ له، وأنّه درعٌ تحميها من الخيبة والأسى.
بعد فشل العلاقة بإبراهيم اكتشفتْ فردوس أنّها تكره الرجال، بل كان أكثرُ ما تكرهه "ذلك الرّجل الذي كان يحاول أن يعظَني، أن يقول لي إنّه يريد أن ينتشلَني ممّا أنا فيه. كنتُ أكرهُه لأنّه يتصوّر أنّه أفضلُ منّي ... إنّ أحدًا لم ينقذْني وأنا زوجةٌ أُضرب، أُركَل بالقدم. ولم ينقذْني أحدٌ حين مزّقني الحبُّ وكاد يُحطّمني". ولقد كانت خيبةُ أملها في إبراهيم بدايةَ نهايتها. فهي عندما التقته بعد أربع سنوات أجبرتْه على دفع ثمن ممارسة الجنس معها لتساويه ببقيّة الرّجال ولتؤكّد لنفسها أنّ هذا الجسد ليس إلاّ للبيع. تقول إنّ حياة المومسات أقلُّ سوءًا من حياة بقيّة النساء "وقد أقنعتُ نفسي بأنّني اخترتُها."
فردوس كانت تلك الفتاة الصّغيرة التي تتمتّع بقدرة هائلة على الحبّ، لكنّها حُرمتْ هذا الحبَّ معظمَ حياتها، فآثرت الجنسَ، واقتنعتْ بأنّ المال سيعوّضها ممّا فقدتْه من عاطفةٍ واحترامٍ ومكانةٍ اجتماعيّة (كانت تتخيّل أنّها ستكون "طبيبةً أو مهندسةً أو محاميةً أو قاضية"). لكنّها أنهت حياتَها على يد قاضٍ حَكَمَ عليها بالإعدام لأنّها قتلتْ مَن استرخص قيمتَها وتاجر بجسدها واستعبدها. وكي لا ترحل عن هذا العالم بخسارةٍ مطلقةٍ، فقد حوّلتْ زنزانتَها إلى محكمة حاكمتْ فيها كلَّ مَن أسهم في تدميرها، ونسبتْ لنفسها "انتصارًا،" وحده القارئ يدرك أنّه خسارةٌ مؤلمة!
***
قد يكون انتصارُ فردوس الوحيدُ هو اختيارَها الموتَ واعتبارَه الحلَّ النهائيَّ لمعاناتها. تقول في نهاية الرواية: "انتصرتُ على الحياة والموت لأنّي لم أعد أرغب في الحياة، ولم أعد أخاف الموتَ ... لا أخاف من شيء؛ فأنا أملك حرّيتي."
بيروت