إعداد (ألفبائيًّا): خالد بركات، خالد إبراهيم الراهب، سماح إدريس، عبادة كسر.
"إلى رفاقنا الناطقين باللغة العربيّة: نحن نحتاج إلى دعمِكم بطرقٍ عدّة مثل: 1) زيادة تبادل المعلومات والأفكار والتضامن بين نضالاتنا وعبر حدودِنا (المزيدُ من ترجمة الأعمال السياسيّة والثقافيّة مهمٌّ في هذا المجال). 2) دعْم نضالات الأفارقة والسود في بلادكم ذاتِها - - خصوصًا إخوتنا وأخواتنا الذين يعانون، كعمّالٍ مستغَلّين، نظامَ "الكفالة"؛ علاوةً على دعمِ مَن هم أفارقةٌ/سودٌ وعربٌ في الوقت نفسه. 3) نطلب إلى مَن يعيشون منكم في الولايات المتحدة الكولونياليّة، أو لديهم أفرادٌ من عائلتهم مقيمون هنا، أن يوقفوا التواطؤََ مع العنف ضدّ السود، وأن يَسْتثمروا في المقاومة السوداء."[1]
هذه الكلمات، للناشط والكاتب كريستيان دايفيس بايْلي، تَصْلح لأن تُدْرَجَ في مقدّمة هذا الملفّ المعنوَن "أميركا من الداخل: الواقع والمواجهة." وهذا الملفّ متدحرجٌ (على أكثر من عددٍ من الآداب)، ويواكب الانتفاضةَ الأميركيّةَ الجديدةَ في أعقاب مقتل جورج فلويْد على يد رجل شرطةٍ عنصريّ في مِنيابولِس. كريستيان هنا يذكِّرُنا بمسؤوليّاتنا، نحن العرب، في الوطنِ العربيّ وداخل الولايات المتحدة بشكلٍ خاصّ، عن الإسهام في تغيير الواقع العنصريّ والإمبرياليّ الأميركيّ، المتعالقِ بالضرورة مع واقع الاحتلال الإسرائيليّ وهيمنة الرجعيّة العربيّة، المدعوميْن من الولايات المتحدة في بلادنا.
المسؤوليّة الأولى ثقافيّة إذًا: أنْ نتشاركَ تجاربَنا. هنا، الترجمة أهمُّ أسلحتنا في معركة "الوعي المتبادل." كريستيان يطالبنا بالمزيد من ترجمة الأعمال الثقافيّة والسياسيّة. وأحسبُ أنّه يقصد الترجمةَ في الاتجاهيْن: من الإنكليزيّة إلى العربيّة، وبالعكس. واضحٌ من كلامه أنّ ما يَصِلُ المناضلين السودَ وغيرَ السود في الولايات المتحدة من أعمالنا العربيّة، وخصوصًا السياسيّة والنضاليّة، مترجَمًا إلى الإنكليزيّة، قليلٌ جدًّا. ومردُّ ذلك إلى ضعف إمكانات هيئاتنا الثقافيّة العربيّة الملتزِمة (أمّا الهيئاتُ الرسميّة العربيّة فلا يعوَّلُ عليها كثيرًا في هذا المجال)، وإلى عدم اعتبار التبادل النضاليّ أولويّةً ربّما. هذا من الجانب العربيّ. أمّا من الجانب الأميركيّ، والغربيّ عمومًا، فإنّ دُور النشر التقدميّة الصغيرة تعاني هي الأخرى شحَّ التمويلِ والإمكانات.[2]
وفي المقابل، فإنّ ما نترجمُه عن تاريخ أميركا وتاريخِ السكّان الأصليّين وحركاتِ التمرّد السوداء ودَوْرِ العرب-الأميركيّين، خصوصًا على هيئة كتبٍ وسلاسلَ ومجلّدات، لا مقالاتٍ منفردةٍ أو ملفّاتٍ مبعثرة، قليلٌ هو الآخر. وهذا، للمفارقة، نكوصٌ عن أدوارٍ مهمّةٍ في هذا الميدان، قامت بها في الستينيّات دُورُ نشرٍ عربيّةٌ طليعيّةٌ (دار الآداب، دار ابن خلدون،...). في الماضي، عاب الراحلُ الكبير إدوارد سعيد على العرب عدمَ معرفتهم الحميمة بالولايات المتّحدة، ثقافةً ومجتمعًا وسياساتٍ داخليّةً. وأذكرُ أنّه عابَ على الجامعات العربيّة، تحديدًا، عدمَ وجود قسمٍ خاصٍّ فيها يُعنى بالدراسات الأميركيّة حصرًا. كان ذلك قبلَ أكثر من عقديْن. اليوم، هل تحسّنتْ معرفتُنا، كعرب، بأميركا؟ أعتقدُ ذلك، وخصوصًا بفضل المتحدِّثين الأميركيّين، والعرب-الأميركيّين، الذين تستضيفهم منابرُ عربيّةٌ مقروءةٌ أو قنواتٌ فضائيّة عربيّة. لكنْ تبقى معرفتُنا قليلةً، مثلًا، بحركات الاحتجاج الأميركيّة (السوداء وغيرها)، وواقعِ السكّان الأصليّين (أليس من المعيب أن نَسمعَ مثقفين عربًا سنة 2020 يسمّونهم "هنودًا حُمْرًا"؟!)، والثقافةِ الأميركيّةِ المنشقّة عن التيّار السائد (باستثناء كتابات تشومسكي وفنكِلْستين وسعيد وحفنةٍ آخرين).
وهذا ما يُلزمنا بزيادة الاهتمام بأميركا من "الداخل"؛ فأيُّ تغييرٍ إيجابيٍّ في واقع المضطهَدين هناك لا بدّ من أن ينعكسَ إيجابًا علينا هنا. لكنَّ شرطَ ذلك هو أن نكونَ قد وطّدنا الجسورَ والروابطَ، الثقافيّةَ والسياسيّةَ والنضاليّةَ الكافية، مع حركات الاحتجاج في أميركا. فليس من البديهيّ أن يكون التقدّميُّ في الخارج تقدّميًّا في تعامله مع قضايانا العربيّة، وإنّما ذلك مرهونٌ بأن نبذلَ جهودًا كبيرةً لإقناعه و"التشبيكِ" معه ومع قضاياه المحقّة. ولعلّنا نستذكرُ هنا تعبيرًا لافتًا: "فلانٌ تقدّميٌّ إلّا في قضيّة فلسطين" (Progressive Except for Palestine). فرُبَّ "تقدّميٍّ" أميركيٍّ يناصر كلَّ قضايا التحرّر السياسيّ والاجتماعيّ والجندريّ في المعمورة، ولكنّه يتلعثم أو يساوم أو يتلجلج حين يُطلبُ إليه اتخاذُ موقفٍ واضحٍ وصريحٍ من تحرير كامل فلسطين.[3]
***
المسؤوليّة الثانية، بحسب كريستيان، تتعلّق بدورنا في أوطاننا نفسها، وتحديدًا بالانسجام المبدئيّ بين موقفنا تجاه المقموعين في الخارج وتصرّفاتِنا تجاه المقموعين في الداخل العربيّ. إذ كيف نكون مع حركة "حياة السود مهمّة" (BLM) في الولايات المتّحدة مثلًا، ونحن نضطهدُ ذوي البشرةِ السمراء (خصوصًا من التابعيّات السيريلانكيّة والبنغلاديشيّة والباكستانيّة والأثيوبيّة والهنديّة) في لبنان والخليج؟[4] هل يمكن أن ننشئَ جسورًا ثابتةً حقيقيّةً مع "سُود أميركا" ونحن نمارسُ في مجتمعاتنا، ونستبطِنُ في لاوعينا الجمعيِّ العربيّ أيضًا، عنصريّةً ضدّ العرب من أصحاب البشرة الداكنة؟[5]
يشير كريستيان في هذا الصدد إلى "نظام الكفالة" في لبنان. وهذا النظام، كما بات معروفًا لدى كثيرين، نوعٌ من أنواع العبوديّة العصريّة: عاملةُ المنزل الأثيوبيّة، على سبيل المثال، لا يَشْملها قانونُ العمل اللبنانيّ، وترتبط إقامتُها القانونيّةُ بعلاقةٍ تعاقديّةٍ مع صاحب العمل. فإذا انتهت هذه العلاقةُ، فقدت العاملةُ صفةَ الهجرة القانونيّة. وهي لا تستطيع تغييرَ صاحب عملها إلّا بموافقته، ما يَسمح له بإجبارها "على القبول بشروط عملٍ تقوم على الاستغلال." وإذا رفضتْ هذه الشروطَ وقرَّرتْ تركَه، أصبحتْ "عرضةً لفقدان صفة الإقامة، ولاحتجازها وترحيلها..."[6]
إنّ مَن يناصرُ سُودَ أميركا ويضطهدُ العمّالَ المهاجرين في لبنان والخليج يرسِّخ نظام العبوديّة والاستغلال الرأسماليّ المتكامل، ولو ادّعى نفاقًا عكسَ ذلك. وهو، في هذا، شبيهٌ بـ"التقدميّ إلّا في فلسطين،" أو شبيهٌ بمَن يَدعم الانتفاضةَ في فلسطين ولكنّه يرفض الإقرارَ بالحقوق المدنيّةِ والسياسيّةِ للفلسطينيّين في لبنان.
***
المسؤوليّة الثالثة، بحسب كريستسان، خاصّةٌ بالعرب-الأميركيّين. وقد أشار د. عمر ضاحي إلى "تجذّرهم" السياسيّ في العقود الأخيرة، بحيث لم يعد هاجسُ غالبيّتهم الساحقة هو الاندماج في التركيبة الرأسماليّة الاستعلائيّة البيضاء، شأنَ المهاجرين العرب الأوائل، وإنّما انخرطوا في بناء روابطَ مع كلّ ضحايا هذه التركيبة. لكنْ تبقى ضرورةُ تكثيف هذا الانخراط، وزيادةِ حجمه. وللأسف، فإنّ عربًا كثيرين في الولايات المتحدة يكتفون بالإدانة اللفظيّة للحُكْم الأميركيّ في أحسن الأحوال، ويؤْثِرون السلامةَ والابتعادَ عن "السياسة،" ويَحْصرون فهمَهم لـ "الالتزام" الوطنيّ والقوميّ بالمشاعر المخْلصة الجيّاشة والحنينِ والأمورِِ ذاتِ الطابع الفولكلوريّ. وفي ذلك "النأي بالنفس" عن العمل السياسيّ ضررٌ ما بعده ضررٌ على سيرورة التقدّم الاجتماعيّ والسياسيّ في أميركا، وفي أوطانهم الأصليّةِ أيضًا.
***
أخيرًا، فإنّ دوري الشخصيّ في هذا الملفّ يقتصر على الترجمة.
لكنْ، هل قلتُ "يقتصر"؟
الواقع أنْ ليس في هذا الفعل أدنى انتقاصٍ على ما قد يوحي الأمرُ. ففي اعتقادي، كما أسلفتُ في النقطة الأولى، أنّ الترجمة فعلٌ سياسيٌّ أكثرُ من ضروريّ، خصوصًا اليومَ مع اشتداد أواصر العلاقات الأميركيّة-الإسرائيليّة-الرجعيّة العربيّة؛ ما يستوجب حكمًا زيادةَ الأواصر بين خصوم هذه الأطراف جميعها، عبر اللقاء والتشبيك وأعمال الترجمة. وصحيح أنّ الترجمة، كما تعلّمْنا قديمًا، ينبغي أن تكونَ "أمينةً" للنصّ الأصليّ، لكنّها ينبغي أن تكون أمينةً أيضًا (وأساسًا) لقيم التحرّر من الظلم والعبوديّة والاحتلال.
فليست الترجمةُ "نقلًا" بل مشاركةٌ في التغيير.
لقراءة الملف، انقر هنا.
بيروت
[2] أسعدني أنّ الرفيق العزيز د. هشام صفيّ الدين ترجم مقتطفاتٍ من أعمال الشهيد مهدي عامل، وستصدر في كتابٍ بالإنكليزيّة قريبًا. وهذا من الاستثناءات المهمّة التي ينبغي البناءُ عليها وتطويرُها.