(كُتب هذا المقال بمناسبة مرور عشر سنواتٍ ونيّف على الانتفاضات العربيّة لسنة 2011).
1) المفاجأة: كلُّ الثورات مفاجِئة. قبل أن تندلع الثورة، يسأل المُقارِبُ العليمُ: أين المصادرُ التي قد تحتاجها الثورةُ؟ مَن يُعِدُّ لها؟ مَن هناك ليقودَها؟ أيُّ شخصيّةٍ عظيمةٍ، أيُّ حزبٍ سياسيّ، أيُّ تجمّعٍ منظَّم؟ مَن سيعطيها حسًّا بالاتّجاه؟ كيف يمكن أن تواجه سلطةً هائلة؟
كلُّ الشكوك المسبَّقة في إمكانيّة قيام الثورة تستند إلى تقديراتٍ واقعيّة. ومن هذه الناحية، فإنّ هذه الشكوك مفهومة. الواقعيّة تقول: إذا لم أستطع أن أرى خطّةَ الثورة، فلن أستطيعَ رؤيةَ إمكانيّة حدوثها. وتحديدًا لأنّ مثلَ هذه الشكوك واقعيّة، فإنّ الثورة التي تندلع على الرغم من هذه الشكوك ستكون دائمًا مفاجِئة. الثورة تنفجر ضدّ التوقُّعات، وضدّ الافتراضات المستندة إلى المعلومات. الثورة أيضًا تتحدّى المعرفةَ المكرَّسةَ حين تقضُّ مضجعَ ما كان يبدو - قبلها - وكأنّه سلطةٌ صلبةٌ لا يمكن هزُّها.
الثورة ستكون مفاجِئةً حتى حين يكون المثقّفون المحلّيّون قد عبّروا عن توقهم إليها طوال سنوات، وحتى حين يكون الناسُ العاديّون قد طفح بهم الكيلُ من أوضاعهم. ذلك لأنّ التوقَ ليس فعلًا، والبؤسَ العامَّ لا يتنبّأ بفعلٍ معيَّن.
وتحديدًا بسبب عنصر المفاجأة الكامن هذا، فإنّ الثورة تصدُّ استعدادَ النظام لمواجهتها. فلو أمكن التنبّؤُ بالثورات، لما حصلتْ هذه قطّ، ولأصبح العلمُ الذي سيقوم بهذا التنبّؤ علمَ نظام الحُكم على الفور.
أن تلاحقَ الأنظمةُ المعارَضَةَ دائمًا لا يعني أنّ هذه الأنظمة تَعْلم كيف ستلاقي حتفَها.
الثورات غالبًا ما تحدث حين لا تمتلك المصادرَ التي تَضْمن نجاحَها. قد يصرف الثوريّون الملتزِمون أعوامًا في التخطيط للثورة، مستخدمين نظريّاتٍ ونماذجَ مختلفةً لتكون دليلًا لهم. غير أنّ الثورات لا تنجح أحيانًا بسبب خططهم، بل على الرغم منها. وشأنَ الأنظمة، فإنّ الإنفجارَ الثوريّ غالبًا ما يفاجِئ الثوريَّ الملتزمَ نفسَه: فالجماهير قد تهبُّ أبكرَ أو أبعدَ من المتوقّع، وهي لم تتحرّكْ على أساسِ ما كُتب في الكتب، ولا بحسب الخطط، بل كانفجار الصاعق في التدفّق العاديّ للزمن.
قبل عشر سنوات ونيّف شهدنا طاقةَ الثورة على المفاجأة. في العام 2011 لم تكن ثمّة خطّةٌ للثورة في أيّ مكان، ومع ذلك فقد اشتعلتْ منطقةٌ بأسرها بعد أن أحرق بائعٌ فقيرٌ نفسَه في بلدةٍ هامشيّةٍ في تونس. وفي العام 1987 لم تكن هناك خطّةٌ للانتفاضة الفلسطينيّة الكبرى حين أدّى اصطدامٌ في الشارع إلى مقتل أربعة عمّالٍ فلسطينيّين. وفي حين يمكن تفسيرُ الثورتيْن المذهلتيْن اللتين تلتا ذلك بالسنوات المريرة التي سبقتهما، فإنّه لم يكن ثمّة سببٌ محدَّد يدفع بإهانةٍ محدَّدةٍ في يومٍ محدَّدٍ الى هزّ عُرفٍ سائدٍ قويٍّ كان يبدو - حتى ذلك الحين - أبديًّا.
والحقيقة أنّ الثورات المفاجِئة بدا وكأنّها محضُ استجابةٍ لليأس المديد من التصرّف "الواقعيّ." فالانتفاضة الفلسطينيّة الأولى اندلعتْ لخلخة نظامٍ إقليميٍّ بدا مستقرًّا آنذاك؛ نظامٍ بدت فيه قضيّةُ الفلسطينيّين وقد تخلّى عنها أصدقاؤها. الانتفاضة سنة 1987 اندلعتْ، شأن هبّات العام 2011، حين لم يكن ثمّة أملٌ، ولا مَصادرُ متوافرةٌ لتشجيع الأمل، وفي زمنٍ رَسَّختِ العقولُ "العقلانيّةُ الواقعيّةُ" اليأسَ في وصفه بنيةَ العالَمِ الصلبة.
إنّ تحليلَ أيّ ثورةٍ، إذًا، لا يمكن أن يكون علمًا تنبّؤيًّا. عليه أن يكون علمَ مفاجأة. التنبُّؤ بالثورات أمرٌ لا يفعلُه إلّا مَن لا يفهمُها، ولا يستمع إلى خطاب المفاجأة العميق. المفاجأة تعني أنّ المعرفةَ اللازمةَ لفهمها لم توجدْ من قبل؛ فهذه المعرفة طازجةٌ دائمًا: تبزغ إلى الحياة مع كلِّ ثورة. ولهذا السبب أيضًا فإنّ كلَّ ثورةٍ تُنْجب مثقّفيها، خصوصًا حين يرفض المثقّفون الموجودون الاعترافَ بجِدّتها العميقة ويتشبّثون بنظام تفكيرهم القديم الذي تنبّأ بغياب الثورة أو تنبّأ بِسِماتٍ مختلفةٍ تمامًا عن سماتها الحاليّة. إذًا، كلُّ ثورةٍ تأتي بمعرفتها، ولا تتْبع علمًا مكرَّسًا.
المفاجأة دعوةٌ إلى معرفةٍ جديدة.
2) التربية والثقافة: كلُّ الثورات تجاربُ تربويّة. وهذه أساسًا حالُ المشاركين فيها، ولكنّها أيضًا حالُ مَن يراقبون عن كثبٍ كيف تبدأ مسيرتَها، من غير أن يَكفّوا عن التساؤل عن مآلها ومصيرها. فأحيانًا تسير الثوراتُ إلى ما يبدو وكأنّه طريقٌ مسدود؛ وأحيانًا قد يبدو وكأنّها تنتهي بالعودة إلى النظام المكرَّس السابق. ما يأتي على إثر كلّ ثورة ليس بالضرورة نظامًا جديدًا أو نظامًا أفضل. ما يأتي، قبل أيّ شيء آخر، هو تجربةٌ تربويّةٌ، حتى حين يبدو وكأنّ الثورةَ قد أخفقتْ.
هذه التربية نادرًا ما تكون متجانسةً. نحن نَعْلم أنّ الطلاب جميعَهم لا يتعلّمون الدرسَ نفسَه لمجرّد أنّهم في الصفّ نفسِه. فبعضُهم يتعلّم عن قدراته بشكلٍ أكبر وتزداد ثقتُه بأعماله ومبادراته. والبعض الآخر يتعلّمون درسًا معاكسًا: أن يخافوا الحريّةَ أكثرَ ممّا ينبغي، وأن يتوقوا إلى سلطةٍ مُرشدةٍ هادية، وأن يفضّلوا "الاستبدادَ المتنوِّر." وكثيرون سيتعلّمون فضائلَ التنويرَ التدريجيّ. وبعضُهم قد يريد ثورةً جذريّة. وآخرون سيتأمّلون في "فضائل" الفاشيّة. كلُّ هذه الدروس تدرَّس في الصفّ نفسِه، ويعلِّمها الأستاذُ نفسُه، الذي لديه من الطلّاب ما يفوق قدرتَه على أن يَصْرفَ اهتمامًا فرديًّا لكلّ واحدٍ في هذا الصفّ. فكأنّ ملايينَ الأرواح صُبّتْ فجأةً في صفٍّ اسمُه "الثورة،" بلا تحضير، ولا مساقاتٍ مطلوبةٍ مسبّقًا، مسلَّحين فقط بما تحتاجه كلُّ الثورات في مهدها: من مشاعرَ قويّةٍ، وتفانٍ حازم، وطاقةٍ غيرِ مقيَّدة.
هذه السمات، لأنها تبدو محرِّكةً للملايين، قد تبدو لوهلةٍ أيضًا "صالحةً بما يكفي" لأن تكون دليلًا تربويًّا. مستقبلُ هذه التربية، أيًّا ما كان مآلُها، يبدأ بالعواطف. ما نسمّيه "تربيةً" نابعةً من لحظةٍ ثوريّةٍ هو تربيةٌ تبدأ من الحواسّ، ويَشْعر بها الجسدُ كأنّها طاقةٌ كامنةٌ لم يعرفْها من قبل، ويَشْعر بها العقلُ وكأنّها تجلٍّ لِما كان مستتِرًا، وتَشْعر به الروحُ كأنها "شعبٌ" -- وهذا تجريدٌ يصبح، لوهلةٍ، ملموسًا لأنّ "الشعب" في تلك اللحظة هو الشخص.
مع الوقت، تُرسِّخ هذه التربيةُ العاطفيّةُ أقدامَها، في بعض الأرواح على الأقلّ، في التربية العقلانيّة التي تتحوّل إليها كلُّ الثورات في نهاية المطاف: إنّها عمليّاتٌ ثقافيّةٌ طويلةُ المدى. الثورات إذًا ليست، ببساطة، أحداثًا في الزمن. آخرُ ما تغيّرُه الثوراتُ هو النظامُ السياسيّ، وأوّلُ ما تغيِّرُه هو الثقافة. الثورات أحيانًا تحدث لأنّها تسيء فهمَ القوّة الحقيقيّة للنظام السياسيّ، أو تبالغ في تقدير الشعب. الثورات، إذًا، لا تعتمد على فهمٍ صحيحٍ للوضع، أو على تحليلٍ صائبٍ لميزان القوى. على العكس: تندلع الثوراتُ انطلاقًا من انعدامٍ تامٍّ للاهتمام بهذا النوع من الفهم "الصحيح" - أي المجمِّدِ - للحركة.
لكنّ الثورات تُنتج اهتمامًا بفهمٍ جديدٍ ما إنْ "تَفهم" الوضع: إمّا لأنّ نجاحَها يبدو لبعض المشاركين فيها وكأنّه لم يحقِّق اليوتوبيا الموعودة، أو بسبب ضربةٍ تلقّتها من الثورة المضادّة، أو لأنّها "سُرِقتْ." بتعبيرٍ آخر: الثورات تُنتج ثقافةً جديدة، يراها بشكلٍ خاصٍّ مَن لم تلوِّثْه كثيرًا المعرفةُ القديمة بعدُ. هذه الثقافة الجديدة تنبثق وسط الشباب، في المجتمع المدنيّ، في الأندية الجديدة العلنيّة والسريّة، في تبادلٍ جديدٍ للأفكار، وفي طرح أسئلةٍ لم تكن في الأمس تُدرَكُ على أنّها أسئلة، وفي إعادة تأويل التراث، وفي الاهتمام العامّ بتعلّم المعاني العميقة لِما فعله المرءُ للتوّ.
كلُّ الثورات، أيًّا كانت نتائجُها المباشرة، تَخْلق ثقافةً لا تعيش بالضرورة في كلّ مكانٍ في المجتمع، بل في تلك الأقسام التي تريد أن تُلبِسَ التجربةَ الثوريّةَ أفكارًا، أن تمنحَ حدثًا عظيمًا في اللحظة الحاضرة كرامةً ثقافيّةً مديدةً تلائمه. نادرةٌ هي الثوراتُ التي لا تؤدّي إلى إنتاج كتبٍ عنها، وأشعارٍ تؤلَّف على شرفها، وفنونٍ تُكْسبها حضورًا متواصلًا، وإلى إحياء ذكرى تذكِّر بأفضلِ وعودها، وإلى تأويلاتٍ تكرِّسها تراثًا لا مفرَّ منه. أضفْ، إلى ذلك، الآثارَ الاجتماعيّةَ التي تخلّفُها الثوراتُ خلف ظهرها في أعقابها -- وهي آثارٌ غيرُ مرئيّةٍ بالدرجة نفسها، ولكنّها أكثرُ انتشارًا (حوارات عاديّة، صداقات جديدة، أفكار مستمرّة،...).
قد تمضي عقودٌ قبل أن تُنتج هذه الثقافةُ الجديدةُ ثورةً جديدة، أو تحوّلًا تدريجيًّا. غير أنّ التحوّلَ الثقافيّ، خلافًا للتغيير السياسيّ، وإنْ حصل سرًّا أو في جغرافيّاتٍ متناثرة، هو الحصيلةُ الوحيدةُ المضمونةُ في أعقاب الثورة. وبمقدورنا أن نفترضَ أنّه كلّما عظُم حجمُ الثورة، اتّسع مدى تلك الثقافةِ الجديدةِ فكريًّا وديموغرافيًّا.
لئن بدأت الثورةُ بالمشاعر، فإنّها تتطوّر داعيةً إلى الإبداع، ثمّ تستمرُّ ثقافةً بازغةً – بالفكر والأسئلة والحُجج. وإذ تكتسب هذه الثقافةُ نضجًا معبِّرًا، وحقًّا في الحضور أضفتْه بنفسها على نفسها، فإنّها - أيًّا كان تنوُّعُها - تدشِّن بدايةَ الحلقة الجديدة من التحوّل الاجتماعيّ.
3) اللحظة والروح: إذ تتّجه كلُّ ثورةٍ، في نهاية المطاف، إلى زمنٍ أهدأ، إلى حقبةٍ جديدةٍ من العمل الثقافيّ الطويلِ المدى، فإنّ كلَّ الثورات تبدأ كـ لحظةٍ يقف أمامها الزمنُ السائر. إدراكُ عمق تلك اللحظة يتطلّب عدمَ خلطها بما يَحْدث بعدَها مباشرةً. سيكولوجيا اللحظة تتميّز بالروح العالية، والزمنِ الاستثنائيّ، والتضامنِ غيرِ المعتاد، والرغبةِ في التضحية، والقطْعِ مع المعايير المألوفة، وتتميّز - إذًا - بإبداعٍ قد يبدو بلا حدود. ما يحدث بعد تلك اللحظة هو، في العادة، حساباتٌ عقلانيّةٌ واقعيّة، وتفكيرٌ ذرائعيّ، وصراعاتٌ على السلطة، وسياساتٌ "عاديّةٌ" أخرى. وتحديدًا في عودة انبثاق الزمن العاديّ ذاك، سيكون ثمّة ضغطٌ كبيرٌ لنسيان الثورة، قبل وقتٍ طويلٍ من ممارسة الثورة المضادّة أيًّا من حِيَلِها.
الثوريّون أنفسُهم سيشجَّعون على أن يكونوا "متّزنين" (عقلانيّين)، أن ينسوْا ما فعلوه للتوّ، أن يركّزوا على النتيجة. بكلامٍ آخر: سيشجَّعون على أن يَقْبلوا بأنّ كلَّ ما يستطيعون فعلَه إنّما هو إعادةُ إنتاج النظام المألوف، لكنْ بوجوهٍ أحدثَ وأكثرَ "قبولًا" وبتصحيحاتٍ عملانيّةٍ طفيفة. ثم يشجَّع الجميعُ على نسيان الثورة، وعلى الاهتمام بما سيأتي لاحقًا، قبل أن يفكّروا في كيفيّة تمكُّنهم من بدء الثورة أصلًا.
لكنْ، خصوصًا بعد حدثٍ عظيمٍ كالثورة، لن يستطيع المرءُ تعلّمَ شيءٍ جديدٍ من هذا الحدث بمجرّد العودة إلى طريقة تفكيرٍ قديمةٍ مألوفةٍ عن الواقع. الثورة لم تكن مجرّدَ حدثٍ مفاجِئ، بل إضافة إلى الحقائق المعلومة عن الوجود. والجديد، بالتأكيد في هذا السياق، كان القدرةَ على الثورة، لا ما جاء بعد ذلك. هذه القدرةُ هي ما أظهرتْه اللحظةُ الثوريّة. الابتعادُ عن اكتشاف مصدر هذا الجديد ووعدِه، والعودةُ إلى السيكولوجيا المألوفة والعاديّة لـ"الواقعيّة،" يشجِّعان على اعتبار الفعل الثوريّ مجرّدَ وسيلةٍ إلى غاية. وهكذا، فإنّ أكبرَ تهديدٍ يواجِه أيَّ ثورةٍ بعد حصول لحظتِها هو نسيانُ هذه اللحظة. الأسوأ هو تحويلُ هذه اللحظة إلى ما لا يتعدّى الإحياءَ الطقوسيَّ في خدمة نظام سلطةٍ جديدة.
هذه اللحظة [الثوريّة] تتضمّن، في الأساس، تجاربَ نادرةً ذاتَ خصائصَ روحيّة. وبالنسبة إلى المشاركين في أيّ تجمّع ثوريّ، فإنّ هذا التجمّع يتجاوز المطلبَ الواحدَ أيًّا يكن، إذ يطرح حاجةً محسوسةً إلى تجديدٍ اجتماعيٍّ شامل. المهمّة، إذًا، تبدو أعظمَ من مجرّد استبدال حاكمٍ بحاكمٍ آخر. في تلك اللحظة يكون الشخصُ "العاديّ" في الثورة لأنّه هناك، تحديدًا، لا يكون محكومًا. هناك، تحديدًا، يكتشف أخيرًا ما يبدو وكأنّه طاقةٌ عضويّةٌ فطريّةٌ على العمل كعاملٍ مستقلّ: بلا تعليمات، ولا سلطة، بل بلا تقاليدَ قديمةٍ تُمْلي عليه ما يفعلُه.
ما يريده المرءُ في تلك اللحظة يتجاوز المطالبَ العاديّةَ التي تُطرح في الأوقات غيرِ الثوريّة: من قبيل تصحيح ظلمٍ هنا، أو خطأٍ هناك. في اللحظة الثوريّة، ما يريده المرءُ يتخطّى الشكاوى المألوفةَ، إذ تتجمّع هذه كلُّها لتصبَّ في مطلبٍ مكثّفٍ واحد: عالمٍ جديد. هذا الوضعُ الروحيُّ، الجديدُ كلّيًّا، يوحي للمعنيّين جميعِهم أنّ الثورةَ أكبرُ من أيّ خصوصيّة. وعيُ الكلّيّانيّة يتجلّى كأنّه وحيٌ مفاجِئ، شبيهٌ بالرؤيا النبويّة: باللحظة التي تضيء فيها الوجودَ بأكمله حقيقةٌ لم تكن مرئيّةً حتى تلك اللحظة.
بهذا المعنى، فإنّ لحظةَ الثورة تؤشِّر على انفجار نظامٍ كان يفتقر إلى الديناميّة افتقارًا كلّيًّا، مستبِقًا انبثاقَ عالمٍ جديدٍ من حُطام النظام [السابق]، لكنّه لم يكن عالمًا معروفًا من زاوية لحظة الانفجار. هذه الروحانيّة الثوريّة تكمن في ضرورةِ عملِ ما ينبغي عملُه، وبالخيالِ وحده - بدلًا من التخطيط - آخذًا بزمام التفكير إلى حيث المسار.
لا تَدَعوا ما يأتي بعد اللحظة الثوريّة يلوِّثُ ما تكشَّفَ فيها.
4) هدفُ ما بعد اللحظة: لمّا كانت الثوراتُ الجماهيريّةُ تجمّعًا مؤقّتًا لمليون أجندة، فإنّها لا تمتلك هدفًا واحدًا قطّ، وإنْ بدتْ مُجْمِعةً على إسقاط النظام. ذلك لأنّها لا تتّفق على شكلٍ محدَّدٍ لما سيأتي بعد ذلك، بل هي لا تتّفق على ماهيّة "النظام" نفسِه. تَحْدث الثورةُ الجماهيريّةُ حين ينضمّ المصلِحون إلى العدميّين، وتسير النِّسْوياتُ إلى جانب البطريركيّين، ويجد موالون سابقون للنظام قضيّةً مشتركةً تَجْمعهم بمَن تعرّضوا إلى تعذيبه، ويجتمع الفلّاحون مع المدينيّين، وتشتبك أيدي الطبقات "المحترَمة" مع أيدي البروليتاريا الرثّة، ويكفّ "العالي" عن اعتبار نفسه بعيدًا عن "المنخفِض،" ويعتبر المنحفضُ أنّ العالي مساوٍ له.
بعد أن سَجّلتْ هذه الأجنداتُ نصرَها الكبيرَ الأوّلَ على بنية السلطة القائمة، تبدأ بكشف خلافاتها التي كانت قد كبحتْها حفاظًا على وحدتها الآنيّة ضدّ عدوّ مشترك، واستمتاعًا بالسمة الروحانيّة الجديدة للّحظة الثوريّة. لكنْ، بعدها، سيتساءل أصحابُ هذه الأجندات: إلى أين نذهب الآن؟ هل نعيد تأسيسَ تقليدٍ عتيقٍ ونبيلٍ ومنسيّ، أمْ نبني مجتمعًا جديدًا تمامًا؟ هل نتْبع نموذجًا موجودًا، أمْ نسمحُ لأنفسنا بإبداعٍ لامحدودٍ، يبرِّرُه نجاحُنا المشهودُ؟
ثم يَنْبع سؤالٌ رئيسٌ آخر يزيد الاختلافَ: هل حقًّا أسقطنا النظامَ؟ للإجابة عن هذا السؤال، نكتشف أنّنا، أثناء وحدتنا المؤقّتة، قد تفادينا السؤالَ الآتي أيضًا: ماذا كان النظام؟ علينا أن نعرفَ ذلك الآن، لأنّ الجوابَ سيساعدُنا على شيءٍ من التخطيط لمسارِنا القادم، ولكي نقرِّر ما قد سقط فعلًا من "النظام" وما ينبغي أن يُستأصَلَ بعدُ من أجل الوصول إلى "أهداف الثورة." النظام، بالنسبة إلى بعض الثوّار، كان رأسَ النظام فقط. بيْد أنّ ثوّارًا آخرين يروْن أنّ النظام طبقةٌ فاسدةٌ بأكملها تحيط به وتستفيدُ منه. وهناك ثوّارٌ آخرون يروْن أنّ النظام هو الحياةُ اليوميّة: فالرأسُ المتعفّن أصاب كلَّ المجتمع بالعدوى وجعلَه كلَّه - بمعاييره وعلاقاتِه الاجتماعيّة - عفِنًا مثلَه. هؤلاء يروْن أنّ علينا إسقاطَ المجتمع أيضا، لأنّ المجتمع القديم - بكلّ ما فيه - هو "النظام."
هذه الخلافات ستكون كثيرةً كلّما كبرت الثورةُ حجمًا. وهي السبب في أنّ الثورات غالبًا ما تؤدّي مباشرةً إلى حروبٍ أهليّة. غير أنّ هذه الخلافات لا يمكن أن تُخمدَها الحربُ الأهليّة، أو الديكتاتوريّةُ الثوريّة، وكلتاهما تُنَصِّبان قسمًا من الثورة ضدّ القسم الآخر. لا يمكن أن تعالَجَ هذه الخلافاتُ إلّا بالانفتاح التواصليّ، الذي أشعل روحَ اللحظة الثوريّة أصلًا، وبالتنوير الذي انبثق من تحت في تلك اللحظة أيضًا، حدسيًّا وبلا جهدٍ، قبل أن يبدأ الثوّارُ في التركيز على أجنداتٍ معيّنة: فيغرقوا في صغائر السياسات الحزبيّة، وقِصَرِ نظرِ ألعاب الصراع على السلطة بعد الثورة، ويكفّوا عن أن يُدركوا ما يفعلونه أمام حقيقةِ أنّ روحَ الثورة أكبرُ من أيٍّ من أهدافها المحدَّدة.
الثورة هي أنت، زائدًا كثيرين هم ليسوا أنت.
5) القرار: الثورات قراراتٌ بشريّة، تؤخَذ بحرّيّة، في وجه الخطر. لا تحصل الثوراتُ خضوعًا لـ"قوانينَ موضوعيّة." قد تكون مدفوعةً بمشاكلَ أو مظالمَ اجتماعيّةٍ قائمةٍ: كالفقر، والقمع، والفسادِ، واللامساواةِ الفاحشة، وغيرِها. لكنّ هذه المشاكلَ والمظالمَ لا تُنتِج وحدَها ثورةً، خصوصًا إنْ وُجدتْ قبلها بزمنٍ طويل. بل الحقّ أنّ الثورات أحيانًا تندلع تحديدًا عندما تحدث بعضُ التحسينات في تلك الأوضاع.
في عالمٍ ظالمٍ، ثمّة بدائلُ دائمًا من الثورة: كالاستسلام لفكرة القدر، واتّباعِ مبدأ اللذّة الشخصيّة، والغرقِ في النشاطات الثقافيّة، والإجرام، والتضامن العشائريّ، و"أخلاقِ الثبات،" والموادّ المُغيِّرة للعقل، والطقوس المهدِّئة، والانتحار، والعدميّة، والتَبَحُّر الأكاديميّ. الثورة، إذًا، هي خيارٌ واحدٌ، فحسب، بين خياراتٍ متعدّدة.
الثورات ليست أبدًا محتومةً لا مفرَّ منها. والظلم قد يَستغرق قرونًا، ويتجمّد كأنّه "حقيقةٌ" أو "تراث،" فيُعتبَر كأنّه الأمرُ "الطبيعيّ" والبنيةُ الوحيدةُ المعروفةُ في العالم. إذًا، القرار الثوريّ خيارٌ يقضي بتجاهل "الواقع" و"الواقعيّة." إنّه خيارٌ بأن يكون الإنسانُ فاعلًا، بحرّيّة، وبطريقةٍ يشعر معها بهذه الحرّيّة لا كمبدأٍ نظريٍّ بل كقوّةٍ جديدةٍ، تَخْلق هي نفسُها ذلك الإنسانَ الجديدَ، الذي يضطلع يومَ الثورة بما بدا قبلها بيومٍ خارجًا عن كلّ حدودِ الممكن. الثورات، إذًا، هي في الأساس قراراتٌ ضدّ الواقعيّة. وهي، بذلك، تخلق الإنسانَ الحرَّ الذي يقوم بها، وفي الأثناء يُثْبت بالتجربة مبدأً كان يفتقر في السابق إلى الصدقيّة: أنّ عالَمًا آخرَ، غيرَ الذي نسكنُه، قابلٌ لأن يولَدَ الآن.
6) الخيانة: في نهاية المطاف سوف يَعتبر بعضُ المشاركين في الثورات أنّها تعرّضتْ للخيانة، خصوصًا حين تتضمّن هذه الثورات - كما هي العادة - أهدافًا متعدّدةً وتوقّعاتٍ متصادمة.
إحدى الإستراتيجيّات الشائعة للخيانة تتّخذ شكلَ "احتكار الذاكرة." احتكارُ الذاكرة يعني أنّ الثورة قد احتكرَها، كما احتكر ذاكرتَها وإرثَها، فصيلٌ واحدٌ في مواجهة كلِّ الفصائل الأخرى. في هذه الحالة، مَن يرى هذه الخيانةَ سيرى أنّ "أهدافَ الثورة" قد جرى التخلّي عنها، أو أنّ الثورةَ انحرفتْ عن مسارها. غير أنّ الثورات قد تكون لها أهدافٌ بعدد الثوريّين فيها، ومن ثمّ بعدد المسارات المتخيَّلَة. الخيانة، هنا، قد تُرى في خيار المرء الإضاءةَ على هدفٍ وتجاهُلَ هدفٍ آخر، وفي شعورِه أنّ المسارَ الذي كان يفضِّله لم يجْرِ تبنّيه (مع أنّ ذلك كان ممكنًا)، أو أنّ الثورة قصّرتْ حين كان إكمالُ المسار أمرًا ممكنًا.
وبالعكس، قد يسود الإحساسُ بأنّ الثورات تعرّضتْ للخيانة حين تحتكرها نزعةٌ راديكاليّة، نزعةٌ كانت جزءًا واحدًا فحسبُ من الطاقة الاجتماعيّة التي أَطلقتْ شرارةَ الثورة؛ أو حين تتبنّى جزءًا من النظام القديم -- وهذا يحصل أحيانًا لأنّ جزءًا من هذا النظام القديم كان أيضًا جزءًا من الثورة، أو لأنّ جزءًا من الثورة كان يؤْمن دومًا أنّ هناك قسمًا "نظيفًا" في النظام السابق.
كلُّ ما سبق ينبغي تمييزُه من الثورة المضادّة، التي لا يمكن القولُ إنّها "خانت" الثورة؛ فهي كانت دائمًا تتحيّن الفرصةَ الأولى لطعنِها في ظهرِها أو صدرِها.
وبشكلٍ أعمّ، فإنّ الثورات تُعتبر "مَخُونةً" حين تُنسى. أيْ إنّها تُخان حين لا يجري التشجيعُ على بذل الجهد لفهم أسباب اندلاعها: حين لا يمكن سماعُ روحِها الأولى، أو رؤيةُ صعودها الإبداعيّ الناصع إلى الأعلى من حضيض اليأس، وإنّما يجري التشجيعُ على التركيز الكلّيّ على الحالة البائسة الحاليّة التي دُفعتْ إليها. تُخان الثوراتُ حين لا تعود تُعتبر أعمالًا عظيمةً في ذاتها، وإنّما مجرّدَ وسيلةٍ إلى غاية. تُخان حين يُكَفُّ عن اعتبارها قراراتٍ بشريّةً، تُختار في وجه الخطر، وتُعتبر بدلًا من ذلك طاعةً عبوديّةً لقوانينَ موضوعيّة. تُخان حين تُعتبر وكأنّها برمّتها نتاجٌ للضرورة، لا أعمالُ حرّيّة. تُخان حين يُطلب من صانع هذه الثورات، أيْ من الشخص العاديّ، أن يَرحلَ، وأن يُخْليَ الساحة لِمن يَعرف "بشكلٍ أفضل" كيف يديرُ أمورَ ما بعد الثورة. بكلماتٍ أخرى، العدوُّ الأكبرُ لكلّ الثورات هو النسيانُ لأنّه يَضْرب لُبَّ التجربة الثوريّة: كيف تحدّت الصعوباتِ والواقعَ والعقلانيّةَ وكلَّ ما بدا طبيعيًّا وصلبًا وأبديًّا.
7) النموذج: تميل الثوراتُ إلى أن تتشاركَ النماذجَ التي تُعتبر، بنظرةٍ خلفيّة، ملائمةً لزمانها. وجودُ نماذج للثورات، في أيّ فترة، لا يقلِّل من الطبيعة المفاجئة لتلك الثورات؛ ذلك لأنّ النموذجَ الثوريّ لكلّ حقبةٍ هو النموذجُ الذي يكتشف الزاويةَ الهشّةَ في نظام السلطة فيَدْخل منها. الثورةُ الممكنةُ اليوم لن تهاجِمَ، في العادة، النظامَ من الزاوية التي كان فيها هشًّا في ثورةٍ سابقة. ولمّا كانت الهشاشةُ السابقة قد أُدركتْ وأُغلقتْ، فإنّ طلّابَ الثورة قد يتوقّعون أن تحاكي الثورةُ الجديدةُ نموذجًا عرفوه من قبل. غير أنّ الثورةَ الجديدة ستكون على شكلها الأنجح حين تتحدّى هذا التوقّع: استمرارُها يعتمد على قيامها بالجديد واللامتوقّع.
الانتفاضات العربيّة التي جرت في الحقبة الحاليّة، وتحديدًا انتفاضات 2011 و2019 (لكنْ ليس الحروب الأهليّة التي تلتها)، تَكشف نماذجَ مشتركةً: كلُّها بدأتْ في مناطقَ هامشيّةٍ مهمَلة، وانطلقتْ منها إلى المركز المحصَّن تحصينًا جيّدًا. واعتمدتْ على العفويّة فنًّا للانتشار، لا على التنظيم والبنية ـ بل هي لا تعتمد على التخطيط أيضًا. وهي تشكّ في "الطليعويّة،" وترفض بالحدْس كما يبدو أيَّ فكرةٍ متصلّبةٍ لـ"القيادة،" وتؤْثِر الهياكلَ التنسيقيّةَ الرخْوة، وينبثق "المنسِّقون" فيها فصيلةً ثوريّةً جديدة -- بما يشير إلى أنّ الثورات الآن تحتاج إلى أن تتشاركَ المعلوماتِ في ما بينها أكثرَ ممّا تحتاج إلى إرشادٍ مركزيّ.
تعمل الثوراتُ الجديدةُ، بشكلٍ عامّ، على مبعدةٍ من الأحزاب السياسيّة، بل هي في الحقيقة لا تدعم أيَّ حزب يَزعم أنّه يمثّلُها أو يجسِّدُها. فاعلُ (أو محرِّكُ) الثورة وصانعُ التاريخ هو اليوم الإنسانُ العاديّ، لا القائدُ المخلِّص. ووسطَ هذه الثورة يبدأ "المواطِنُ" في اعتبار نفسه كذلك، إلى حدّ أنّه يوجِدُ "المجتمعَ" انطلاقًا من أفعاله بشكلٍ مباشر. وحينها يصبح "المواطِنُ" مفهومًا محسوسًا، ولوهلةٍ ينسى فكرةً أقدمَ عن المواطَنة: وهي أنّ "المواطِن" تعبير سلبيّ عن فكرةٍ راسخةٍ عن الانتماء إلى "مجتمع" مجرَّد. وفي الوقت نفسه تحدّثتْ تلك الثوراتُ باسم كيانٍ غامضٍ وكبيرٍ اسمُه "الشعب،" لا باسم مجموعةٍ فرعيّةٍ أو طبقةٍ أو قبيلةٍ أو طائفةٍ، أو باسم "المستضعفين في الأرض." هذه العموميّة عبّرتْ عن شخصيّة تلك الثورات في وصفها نقطةَ التقاء كلّ المظالم.
وفي كلّ الأحوال، فإنّ عدوَّ هذه الثورات، أي "النظام،" يُظْهر هو أيضًا النموذجَ ذاتَه: فبعد أن "تبلّدَ" جيلًا أو جيليْن في مركز السلطة التي لا ينازعُه عليه أحد، لم يعد يستطيع الاستجابةَ للثورات الجديدة إلّا بمزيجٍ من القوّة الوحشيّة والتنازلاتِ الطفيفة؛ وهي تنازلاتٌ كانت على الدوام أقلَّ ممّا ينبغي، وجاءت متأخّرةً أكثرَ ممّا ينبغي، بحيث عجز النظامُ عن ترويض التدفّق الفجائيّ من الطاقة الاجتماعيّة التي واجهتْه. النظام لم يكن يعرف أيَّ لعبةٍ غير لعبة الجهاز القديم، واعتبر الثورةَ مجرّدَ ضجيجٍ عابرٍ لن يلبثَ أن يتبدّدَ مع الوقت. لقد كان النمطُ الأساسُ للحُكم على امتداد المنطقة بأسرها هو الصممَ الاستبداديّ.
إذًا، في حين أنّ نماذجَ الثورة هي دومًا نماذجُ خلّاقةٌ ومفاجِئة (وإلّا لَمَا كانت ثمّة ثورةٌ)، فإنّ نماذجَ النظام لا يمكن إلّا أن تكون بليدةً ويمكن التنبّؤُ بها؛ ولهذا نقول إنّ النظام جهازٌ مكرَّس وراسخٌ أصلًا. الأجهزة، خلافًا للثورات، تفضِّل أن تعيدَ إنتاجَ الشيء الأوحد الذي تعرفه، ألا وهو: ذاتُها (أي الأجهزة).
ومع ذلك، فإنّ الثورات المضادّة تعرف أصلًا أنّ القمعَ وحدَه لن ينقذَها من الثورة. لذا فإنّها تحتاج إلى تقوية نفسِها ضدّ الثقافة الثوريّة الوليدة، وذلك باستيلاد ثقافة ثوريّةٍ مضادّةٍ تستهدف روحَ الثورة. مثلًا: في مقابل الشخص العاديّ، تُعلي ثقافةُ الثورة المضادّة من شأن الزعيم المخلِّص صانعًا أوحدَ للتاريخ؛ وفي مقابل الإيمان الذي انبثق في لحظة الثورة بـ"الشعب" كيانًا نبيلًا ومتنوّرًا، تعزِّز الثورةُ المضادّة من صورة الشعب في وصفه رعاعًا متوحّشًا وأمّيًّا ومدعاةً للخوف والضبط بدلًا من تقديم الحرّيّة والقدرة إليه.
الثورة المضادّة، إذًا، لن تستمرّ بالقمع وحده، وهي تعْلم أنّ القمع وحده لم ينقذ النظامَ من قبل. هي تستمرّ ما دام هجومُها الثقافيُّ المضادّ للثورة قادرًا على تقويض الثقافة الثوريّة الوليدة. الثقافة والأفكار، إذًا، تصبح ميدانَ معركةٍ مركزيًّا في عصر الثورة المضادّة.
8) الموجة: الثورات التي تنتسب إلى حقبةٍ واحدةٍ تميل إلى أن يتعلّمَ بعضُها من بعض، وإلى أن تطبِّقَ تكتيكاتِها، بل شعاراتِها أيضًا، حتى حين تحصل في بيئاتٍ مختلفةٍ جدًّا وتتعاملُ مع ظروفٍ مختلفة. بهذا المعنى يمكن اعتبارُ الثورات المحلّيّة لحظاتٍ من موجةٍ عالميّة. سمةُ هذه الحقبة، في وصفها حقبةَ ثورات، تشجِّع في ذاتها حركاتِ احتجاجٍ إضافيّةً في أماكنَ أخرى من العالم. هذه الموجةُ العالميّة يبدو أنّها تنبثق من انتشار شعورٍ، ألهمَهُ فعلُ حريّةٍ كبيرٌ ومختارٌ (مثل ثورة خلّاقة في بلدٍ واحدٍ في البداية)، بأنّ عالمًا آخرَ قابلٌ للوجود، وربّما الآن فورًا.
في العاميْن 1848 و1989 تنقّلت موجةٌ ثوريّةٌ عبر منطقةٍ بأكملها. الأمر عينُه حصل سنة 2011، لكنّ هذه الموجة واصلت التنقّلَ عالميًّا، واتّخذتْ شكلَ حركات احتجاجٍ منتشرةٍ تسمُها روحٌ شبيهة. لقد انبثقتْ، عالميًّا، ثقافةُ احتجاجٍ تدور حول سماتٍ مشتركةٍ يمكن تمييزُها: فكلُّ الحركات الاحتجاجيّة حدّدتْ "فسادَ النظام" (وعنت به صَمَمَه عن هموم معظم الناس) هدفًا رئيسًا لها: رأت "الشخصَ الصغيرَ" خارج اهتمامات "النظام" كافّةً (بما في ذلك الأنظمةُ الديمقراطيّة)؛ وكانت لديها شكوكُها في الأحزاب أو المنظّمات أو القادة، وتؤْثِر عليها جميعِها شبكاتِ عملٍ مرنةً وهياكلَ تجريبيّةً؛ وأظهرت اهتمامًا قليلًا في التركيز على "الواقعيّة،" وبدا أنّ ما يثيرُها توجُّهٌ طوباويٌّ عامّ؛ وتحدّثتْ عن "الشعب" ككلّ، أو عن أغلبيّته الساحقة على الأقلّ ("99%")، بدلًا من أن تتحدّث عن طبقاتٍ أو مجموعاتٍ محدّدة؛ وفهمت الشعبَ نقيضًا لـ"النظام." مطالبُها حافظتْ على العموميّة والغموض، مؤكِّدةً بذلك أنّها فضاءٌ تجميعيٌّ لكلّ الجراح المحسوسة. الغموض بدا ملائمًا للتوجّهات التجريبيّة والشابّة والمرحة والشاملة التي وسمت الموجةَ العالميّةَ حيال الفكر الشموليّ والتجديد الاجتماعيّ العامّ.
وحين صادفت الموجةُ الثوريّةُ العربيّةُ ثورةً مضادّة، صادفت الموجةُ العالميّةُ موجةَ ثورةٍ مضادّةٍ أيضًا. والأمران حصلا عبر جغرافيّاتٍ متناثرة؛ ما يشير إلى أنّ موجةَ الثورة المضادّة، شأنَ الموجة الثوريّة، ألهمها شعورٌ عامٌّ من التهديد أو الاضطراب الزاحف. صعودُ شعبويّةٍ يمينيّةٍ مترابطةٍ على المستوى الكونيّ بعد العام 2011 قد يكون تعبيرًا عن عمليّة "تَعَلُّمٍ" رجعيّة، ما يدلّ على الجدّيّة التي اتّخذها التحدّي الثوريُّ، أو التحويليُّ على الأقلّ. وشأنَ الحالة العربيّة، فقد تعلّمت الثورةُ المضادّةُ الكونيّةُ من لقائها بالثورة، الحقيقيّةِ أو المتخيَّلة، أنّ النظامَ القديم ينبغي الدفاعُ عنه بأساليبَ أكثرَ سلطويّةً في مجال القانون والضبط الأمنيّ، وبطريقةٍ أكثرَ حيويّةً في ميدان الأفكار والثقافة.
9) الإمبرياليّة المعرفيّة: في حين ترتبط موجاتٌ كبيرةٌ من الاحتجاج بالتربية والثقافة والتنوير، فقد تكون مرتبطةً أيضًا بخطأ، هو الإمبرياليّةُ المعرفيّة – أي الشعورُ الواثقُ ثقةً مفرطةً بأنّنا نمتلك كلَّ المعرفة اللازمة للتحرّر، وأنّ مشهدَ الطاقة الثوريّة المكهربة يبرِّر اعتبارَ كلّ معرفة إضافيّة أمرًا "نافلًا،" ويرى "الانحرافاتِ" انتهاكاتٍ جديرةً بالعقاب.
عادةً، تميل الإمبرياليّةُ المعرفيّةُ إلى أن تكونَ من ممارسات السلطة العاتية الراسخة التي - بفضل أقدميّتها أو قوّتها - أصبحتْ واثقةً بنفسها أكثرَ ممّا ينبغي. غير أنّ الإمبرياليّةَ المعرفيّة قد تكون أيضًا من ممارسات المعارضة؛ فهذه، بسبب خضوعها زمنًا طويلًا لسلطةٍ محدّدة، لا تستطيع أن تدرِكَ الثورةَ إلّا تعبيرًا عن الحقّ في أن تمتلكَ السلطةَ نفسَها.
الإمبرياليّة المعرفيّة قد تبدأ أيضًا بشكلٍ جنينيّ، في وصفها نموًّا نابعًا من صراعٍ محلّيّ يُعبَّر عنه بلغةٍ عالميّة. هذه الإمبرياليّة المعرفيّة، في شكلها الجنينيّ، يمكن فهمُها كاستراتيجيّةٍ خطابيّةٍ في الصراع، وإنْ أمكن نقدُها كاستراتيجيّةٍ منطقيّةٍ للمعرفة. وهي تبدأ باتخاذ شكلٍ إمبرياليّ حين لا تعود مستندةً فقط إلى مجرّد الجهل، بل إلى الإصرار عليه كذلك. وهذا الإصرار مدفوعٌ، عادةً، بشعور أنّ النضالَ المحلّيّ مركزيّ ووجوديّ إلى حدّ وجوب حشد طاقةٍ عالميّةٍ لإدامته. هذه الوضعيّة أيضًا يمكن فهمُها تمامًا في كونها وضعيّةً تتّخذها الصراعاتُ المحلّيّةُ في بداية الأمر. غير أنّه ينبغي عدمُ السماح بها حين يُحبِطُ النزوعُ إلى حشد الدعم العالميّ لها كسبَ المزيدِ من المعرفة: معرفةِ الآخرين، ومعرفةِ لغاتٍ أخرى، وتواريخَ أخرى، وسرديّاتٍ أخرى.
العالميّ (الكونيّ) إمبرياليّ دائمًا حين تكون المعرفةُ المنشودةُ من خلاله معرفةً تأكيديّةً تثبيتيّةً (لِما هو معروفٌ سلفًا)، لا معرفةً تحويليّةً (للإنسان).
الإمبرياليّة المعرفيّة ليست أيّ ادّعاءٍ شاملٍ كان، لأنّ مثلَ هذه الادّعاءات قد يكون مطلوبًا ظرفيًّا (موضعيًّا). الطريقة الاستقرائيّة (inductive)، مثلًا، ظرفيّةٌ (موضعيّة): نعمِّم على أساس معرفةٍ جزئيّة، في انتظار توفّر معرفةٍ أقلَّ جزئيّةً. وفي المقابل، فإنّ الإمبرياليّة المعرفيّة غيرُ مهتمّةٍ بأيّ معرفةٍ إضافيّة، أو هي مهتمّةٌ فقط بالمعرفة التي تُثْبت معرفةً جزئيّةً موجودةً أصلًا، مثل معرفة كريستوفر كولومبوس: العالَم ليس أمامي كي أكتشفَه، بل لكي يُثْبت ما أعرفُه أصلًا؛ العالم أمامي لكي أحتلَّه بما أملكُه من طريقةٍ للمعرفة، لا لكي أتعلّمَ منه ما لا أعرفُه. الاكتشاف، إذًا، يمتلك من منظور الإمبرياليّة المعرفيّة وعدًا كمّيًّا لا نوعيًّا: إنّه يزيد ما أعرفُه أصلًا، ولا يزيد على ما أعرفُه.
الإمبرياليّة المعرفيّة ممارسة شائعة، في الماضي وفي الحاضر. وهي مستقلّة عن الإيديولوجيا. يمارسها مَن في السلطة، ومَن يخضع للسلطة، مع أنّ الممارسة الأولى أكثرُ أذًى: فالطاقة التدميريّة للإمبريالية المعرفيّة تتناسب طردًا مع مقدار القوّة التي تكون في متناولها. أمّا حين لا تكون في صفّ أيّ سلطة، فإنّها قد تكون مجرّدَ جهلٍ غير مؤذٍ.
إذن، في العمليّات الثوريّة، علينا أن نتحفّظ عمّن تَعْمرُهم الثقةُ المفرطةُ بمعرفتهم التحريريّة، أولئك الذين لا تعدو الثورةُ بالنسبة اليهم أن تكون فرصةً للتنفيس عن الطاقة. قد يكونون اليوم محرِّرين، وفي الغد ديكتاتوريّين.
10) الشخص. بعد كلّ ثورة، ثمّة حاجةٌ إلى معرفةٍ جديدة، لا من أجل التنبّؤ بكيفيّة حصول التحرير، بل من أجل مواصلة التنوير الذي بدأتْه الثورة. وهذا التنوير كان قد بدأ حين عمد شخصٌ غيرُ راضٍ عن العالم المألوف إلى تجاوزه ببضع خطوات، فشرع آنذاك فقط برؤيةِ ما كان هذا العالمُ قد أخفاه عن الأنظار: أنّ ثمّة شخصًا ثوريًّا قابعًا داخل الشخص التقليديّ المذعِن لم يكن ذلك الشخصُ قد رآه من قبل. إنْ لم نتعلّمْ كيف نرى هذا الشخصَ المخفيَّ، فلن نرى الثورة.