يحلو لبعض الغربيين والمتغرّبين ومثقّفي الهزيمة ترويجُ مسألة "رفض القبول بالآخر" وكأنّها خاصّةٌ بالعرب. يوضح د. جورج قرم(1) أنّ إشكاليّة "الآخر" نتجتْ في الغرب من تعريف الهويّة في وصفها موضوعًا اجتماعيًّا مبنيًّا على قاعدةٍ سلبيّة، أيْ تمييزًا من "الغير." ويصوّر قرم كيف تحوّلت الهويّةُ الأوروبيّةُ المبنيّة على ثقافةٍ موروثةٍ من اليونان والرومان إلى مجموعة قيمٍ يهوديّةٍ ــــ مسيحيّةٍ في سبعينيّات القرن الماضي، وكيف أنّ النزعة "الذاتيّة" في تحديد الهويّة أنتجتْ ثقافاتِ "الغير" بما يبرِّر المغامراتِ الاستعماريّة التي تسمّت بأسماء مختلفة: "المهمّة التمدينيّة" (عند الفرنسيين)، و"عبء الرجل الأبيض" (عند البريطانيين)، و"القدَر المتجلّي" (عند الأميركيين).
اليوم نشهد في الغرب سجالاتٍ تعمّ الفضاءَ السياسيّ حول الهجرة الوافدة من الدول الناشئة (أفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينيّة، والشرق الأوسط...)، وتتّخذ هذه السجالاتُ ـ في زمن الضيق الاقتصاديّ الذي يشهده الغربُ ـ طابعَ العنصريّة المعلنة، لكون معظم المهاجرين من ذوي البشرة السوداء أو السمراءِ أو الصفراء. وثمّة إرباكٌ هنا لدى الحكومات الغربيّة: فهي تحتاجُ إلى يدٍ عاملةٍ رخيصةٍ تقوم بأعمالٍ لا يريد القيامَ بها السكّانُ الأصليّون، ولذلك تشجّع الهجرةَ الوافدة؛ لكنّ هذه الهجرة تخلق توتّراتٍ اجتماعيّةً وثقافيّةً متفاقمة في عصر الانكماش الاقتصاديّ لاقتصادات الغرب، الناتج من سياساتٍ اعتمدتْ نظريّاتِ الحرّية المطلقة في الأسواق. وهذه الحقائق الاقتصاديّة الاجتماعيّة تنعكس على البنية الثقافيّة لدول الغرب، حيث تنتشر مجدّدًا مفاهيمُ مثل "ضرورة الحفاظ على الهويّة الأصليّة."
في هذا السياق نذكّر بما قاله صامويل هنتنغتون قبل رحيله: "أنسوا صراعَ الحضارات، فإنّ الخطرَ الذي يُحْدق بأميركا إنّما هو فقدانُها لهويّتها الأنكلوساكسونيّة الإنجيليّة البيضاء." لذا حذّر مواطنيه من الهجرة الوافدة من أميركا اللاتينيّة لأنّها ستَفرض لغتيْن وثقافتيْن في الولايات المتحدة، بما يهدّد "الهويّةَ الأميركيّة" التي أسّسها البريطانيون (مطلع القرن السابع عشر) والتي تقوم على أساس اللغة الإنكليزيّة والقيم البروتستنتيّة والفرديّة واحترام القانون. ومن المفارقات، في هذه المناسبة، أن يندِّد العديدُ من الأروقة الثقافيّة في الغرب بإصرار العرب على الحفاظ على الهويّة العربيّة ومكوّناتها الأساسيّة، كاللغة أو الدين نفسه (أكان الإسلامَ أمِ الكنيسة الشرقيّة)؛ فما يحقّ للأميركيّ المحافظِ المتمسّكِ بهويّته البيضاء الأنكلوساكسونيّة البروتستانتيّة لا يحقّ للعربيّ المتمسّك بهويّته العربيّة!
***
لا يخلو الخطابُ السياسيّ في الحملات الانتخابيّة الأميركيّة من العنصريّة. وهذا ما شهدناه في حملة التشكيك في هويّة الرئيس أوباما. أما على صعيد الحملات الانتخابيّة في الكونغرس، فموضوعُ الهجرة يحتلّ مرتبة أساسيّة في خطاب الجمهوريين المحافظين الذين يرفعون شعارات تحديد هجرة الوافدين، لا الأميركيين اللاتينيين فحسب بل من العرب والمسلمين والآسيويين أيضًا.
ومشكلة "الآخر" في الغرب بشكل عامّ، وفي الولايات المتحدة بشكل خاصّ، لا تنحصر في الهويّة أو لون البشرة، بل تتعدّاها إلى الدين. فبعد إبادة السكّان الأصليين في القارة الأميركيّة،(2) جاءت ثقافةُ الإقصاء على قاعدة الأسس الدينيّة، وبخاصّةٍ تجاه الكاثوليك واليهود في السابق، وتجاه العرب والمسلمين اليوم (هل ننسى الحملة على اوباما، المشكّكة في أصوله الدينية، رغم الاعتراف بحرّية المعتقد؟).
لا ننسى وحشيّة قوى الأمن تجاه المواطنين الأميركيين السود، إذ تشير الإحصاءاتُ إلى أنه قُتل في النصف الأول من العام 2015 ما يفوق 700 مواطن أميركيّ من السود على يد تلك القوى. |
وهناك أيضا إقصاءٌ على أساس الطبقة الاجتماعيّة أو الثروة. فالمتَّهَمُ الفقير مثلًا لا يستطيع استخدامَ خدمات محامٍ كفؤ، بينما الثريّ يستطيع أن يجيّش أرتالًا من المحامين والخبراء. وهذا ما تبيّنُه قضيّةُ اللاعب الرياضيّ الشهير أو. جي. سمسون، المتهم بقتل زوجته في منتصف تسعينيّات القرن الماضي، إذ استطاع أن يفلت من يد العدالة بسبب مهارة محاميه. كما أنّ المدراء المصرفيين الكبار، المسؤولين عن هدر (إنْ لم يكن اختلاس) أموال المودعين والمساهمين، قد استطاعوا الإفلاتَ من تهم الفساد بسبب مهارة محاميهم الأكفاء.
واللائحة طويلة لأمثلة تؤكّد إقصاء "الآخر" في الولايات المتحدة. ولا ننسى وحشيّة قوى الأمن تجاه المواطنين الأميركيين السود، إذ تشير الإحصاءاتُ إلى أنه قُتل في النصف الأول من العام 2015 ما يفوق 700 مواطن أميركيّ من السود على يد تلك القوى.
***
ثقافةُ الإقصاء في أوروبا "العلمانيّة" مترسّخة هنا أيضًا. فمثلًا، رُفضتْ عضويّةُ تركيا في الاتحاد الأوروبيّ بسبب الدين، إذ لا مكان لدولةٍ مسلمةٍ في الاتحاد الأوروبيّ المسيحيّ! أمّا في بريطانيا فهناك مصطلحاتٌ تؤكّد التمييزَ، ومنها مصطلح "الشخص الشرقيّ المتغرّب" (westernized oriental person/wop)؛ وإذا كان من النخَب في بلاده فهو "السيّد الشرقيّ المتغرّب" (westernized oriental gentleman/wog)؛ والمصطلحان غايةٌ في العنصرية، إذ يشيران إلى أنّه مهما علا شأنُ "الآخر" فهو يبقى "آخرَ"!
واليوم نرى في وسائل الإعلام الغربيّة والمواقع الإلكترونيّة تحريضًا واضحًا ضدّ الوافدين إلى أوروبا من القارة الإفريقيّة أو القارة الآسيويّة، وبخاصةٍ العرب والمسلمون.
***
في ما يخصّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة التي يتّهمها البعض بـ "رفض الآخر،" فقد تكوّنتْ عبر التفاعل مع الحضارات الأخرى التي سبقتْها أو عاصرتْها. فالفتوحاتُ العربيّة تلتها الترجمةُ، ومن ثم الرحلاتُ من أجل التعرّف على العالم؛ ورحلاتُ ابن بطوطة خيرُ دليلٍ على ذلك؛ كما أنّ كتابات البيروني عن الهند نتجتْ من التواصل المباشر معها. بل يمكن القولُ إنّ انتشارَ الحضارة العربيّة الإسلاميّة في القارتيْن الإفريقيّة والآسيويّة كان نموذجًا عن "عولمة" سبقتِ التكنولوجيا، وذلك عبر الرسالة والعقل والفكر؛ إذ جاء في القرآن الكريم: "وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتَعارفوا" (الحجرات 13).
الإسلام، إذن، هو رسالةٌ إلى الناس أجمعين؛ فمنهم مَن أسلم ثم آمن، ومنهم من لم يدخل الاسلامَ ولم يؤمن. وإذا كانت العروبة هويّةً، فإنّ الإسلامَ روحُها؛ إذ عبْر الإسلام يتمّ فهمُ العروبة، وعبْر العروبة يتمّ فهمُ الإسلام. وإذا كان المسيحيون في المشرق قد اكتشفوا الإسلامَ عبر عروبتهم، فإنّ المسلمين من غير العرب قد اكتشفوا العروبة عبر الإسلام.
أمّا بالنسبة إلى ما يحدث الآن في الوطن العربيّ من نزعاتٍ إقصائيّةٍ تدّعي أنها تمثّل الإسلام وتكفّر مَن يخالفها الرأيَ (وإنْ كان من المسلمين)، فهو ذو جذور تاريخيّة ابتدأتْ مع الخوارج في صراعهم مع الإمام عليّ. وفيما بعد جاءت كتاباتُ بعض الأئمّة الذين عايشوا حملاتِ الفرنج على بلاد العرب والمسلمين، وعايشوا حملاتِ المغول، بمثابة ردّة فعلٍ على انهيار الدولة وفقدان هويتها. ومن هذه الزاوية نفهم كتاباتِ ابن تيميّة التي أسّستْ لفكرٍ انغلاقيٍّ يكرّس الجهلَ، فالخوفَ من الآخر، فالتعصّبَ، فالتوحّشَ؛ لكنها خمدتْ عندما أعيد تشكيلُ السلطة المركزيّة عبر السلطنة العثمانيّة.
انّ ثقافة الإقصاء ليست حكرًا على المجموعات المتشدّدة الإسلاميّة، أو بعض الدول التي تحمل رايةَ الاسلام. بل هي موجودة أيضًا عند بعض القوميين العرب من السلالات التقليديّة |
على أنّه تمّ "استيرادُ" النزاعات الاستقصائيّة إلى الوطن العربيّ من خلال المستعمِر القديم والجديد، وذلك بعد احتلاله للعراق. فقد أسهم هذا المستعمِرُ في التحريض المذهبيّ بعد نزع العروبة من الدستور العراقيّ الجديد، وغضّ النظرَ عن سلوك بعض الدول العربيّة النفطيّة المروّجة لثقافة إقصاء الآخر. أما في بلاد الشام، فقد اتّخذ الصراعُ السياسيّ منحًى مذهبيًّا للمزيد من التفتيت والتمزّق، خدمةً للاستعمار القديم الجديد وديمومة الكيان الصهيونيّ. وبالمناسبة، فإنّ الغرب الاستعماريّ على استعداد للاعتراف بمختلف القوميّات القائمة في سائر الأقطار العربيّة إلاّ بالقوميّة العربيّة؛ فالعرب ـ بالنسبة إلى هذا الخطاب ـ هم سنّة وشيعة ودروز وعلويون ومسيحيون...(3) فقط لا غير!
***
أخيرًا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ثقافة الإقصاء ليست حكرًا على المجموعات المتشدّدة الإسلاميّة، أو بعض الدول التي تحمل رايةَ الاسلام. بل هي موجودة أيضًا عند بعض القوميين العرب من السلالات التقليديّة، أكانت ناصريّة أمْ بعثيّة أمْ من حركة القوميين العرب. هنا لا يتمّ الإقصاء على قاعدة دينيّة بل على قاعدة "الخيانة،" بملحظ أنّ "الخائن" هو من يخالف رأيَ القائد أو الحزب القائد. إنّ ثقافة "من ليس معي فهو ضدّي" موجودة منذ زمن بعيد، وعقليّة الفرز معادية لعقليّة الوحدة، وإنْ رفع الجميعُ شعارَ الوحدة!
لذلك كان لا بدّ من مراجعة الخطاب العروبيّ ليصبحَ خطابًا إنسانيًّا بامتياز، يَجْمع ولا يفرّق. ومن هنا جاء تعريفُ القوميّ العربيّ، الذي أطلقه كلٌّ من "مركز دراسات الوحدة العربيّة" و"المؤتمر القوميّ العربيّ" و"المؤتمر القوميّ الإسلاميّ": إنّه الانسان الذي يؤمن بالمشروع النهضويّ العربيّ بأبعاده الستة(4): الوحدة العربيّة في مواجهة التجزئة؛ والديمقراطيّة في مواجهة الاستبداد؛ والتنمية المستقلّة في مواجهة النموّ المشوّه والتبعيّة؛ والعدالة الاجتماعيّة في مواجهة الاستغلال؛ والاستقلال الوطنيّ والقوميّ في مواجهة الهيمنة الأجنبيّة والمشروع الصهيونيّ؛ والأصالة والتجدّد الحضاري في مواجهة التغريب.
بيروت
(1) جورج قرم، المسألة الدينيّة في القرن الواحد والعشرين (بيروت: دار الفارابي، 2007)، الفصل الثاني.
(2) منير العكش، أميركا والإبادات الجماعيّة (بيروت: رياض الريّس للطباعة والنشر،2009).
(3) لاحظ هنا أنهم يتكلّمون عن المسيحيين وكأنّهم فرقة واحدة!