المرنيسي واستشكال قضيّة المرأة المغربيّة والعربيّة (ملفّ)
28-02-2016

 

عندما أصدرتُ كتابي الخطاب النسائيّ في المغرب: نموذج فاطمة المرنيسي، وقّعتُ سنة 1990 نسخةً للصحفيّة القديرة ليلى الشافعي مدبِّجًا: "إلى الأستاذ ليلى الشافعي..." فنبّهتني بظرافةٍ إلى هذه الفلتة الذكورية، فرجوتُ منها إضافةَ تاءِ التأنيث، مربطِ الفرس. إلّا أنها أبت، وما زلنا نتحاكى حول هذه الوثيقة إلى اليوم، ملتمسًا منها الكتمانَ! ومهما يكن من جدل، فإنّ ذلك لم يكن إلّا توقيعًا لتلبّسٍ ذكوريّ لاشعوريّ، وهو كذلك موجودٌ في بعض ثنايا الكتاب ومفاهيمه.

من بين  هذه المفاهيم التي حاولتُ توظيفها مفهومُ "العائق الإبستمولوجيّ" لجاستون باشلار، الذي كان تداولُه قويًّا في ذلك العصر. وقد تمّ تجاوزُ هذا التوظيف لأنّ العائق، وإنْ كان صالحًا على صعيد بنيات المعرفة العلميّة، فإنّ توظيفه توظيفا جنسانيًّا لا يخلو من تربّص جنسٍ بآخر، أو تلبّس أحدها بجنسه ضدًّا على الآخر. فلئن لم يمارس الكتاب تلك "القراءةَ البيضاءَ" التي أصبحتْ عنوانَ الخطاب النقديّ اليوم، فإنّ الخطابَ النقديّ، كما كنتُ أتصوّره وما أزال،  يقتضي مثلَ ذلك النزوع المشروع نحو الأشكلة والاستفهام والشك والتجاسر، وإلّا فقد الوظيفةَ والمعنى.

بعد عقدين على صدور الخطاب النسائيّ، وبعد صدور كتبٍ عديدةٍ للمرنيسي اتّسمت بالانفتاح على مقارباتٍ أخرى في البحث ـــ كالتحليل المقارن لمفهوم "الحريم" بين الأنا والآخر،(1) والتحليل السوسيولوجيّ للمجتمع المدنيّ،(2) والمسألة الشبابيّة في النسيج المجتمعيّ، فضلًا عن الخطاب السرديّ الذي كانت قد مارستْه(3) قبل إصدار سيرتها الذاتيّة (نساء على أجنحة الحلم) ـــ فإنّ على مقاربة إنتاج المرنيسي أن تركّز على خصيصتين ميّزتا مسيرتَها المتصلة والمتجددة:
1 ـ الكتابةٌ المؤسِّسةٌ (بكسر السين الأولى). شكّلت المرنيسي علامةً فارقةً في تاريخ الثقافة المغربيّة المعاصرة، وذلك عبر تأسيس قارّةٍ جديدةٍ في البحث والكتابة، هي استشكالُ قضيّة المرأة (المغربيّة والعربيّة) على ثلاثة مستويات: الموضوع، والمنهج، والاستراتيجيا.
أ- على مستوى الموضوع. إذا كان تاريخُ البحث في قضايا المـرأة قديمًا، فإنّ جديد المرنيسي يكمن في مَفْهمته ضمن جغرافيا خاصّةٍ على الصعيد القطْري. المرنيسي أسّستْ فرعًا جديدًا في السوسيولوجيا الوطنيّة، هو سوسيولوجيا المرأة والعائلة. وهي لم تقتصرْ على المناولة الباردة في حدودها الإبستمولوجيّة، وإنّما تجاوزتْ ذلك إلى الدفاع المتفاني عن القضيّة النسائيّة، مزاوِجةً في ذلك ما بين العالمة والمثقفة (بالمعنى العضويّ لدى غرامشي، أو بالمعنى الرسوليّ). فأصبحتْ مرجعًا في المسألة النسائيّة، ولسانَها في الخطاب والإشعاع والانتشار.
ب- على مستوى المنهج. زاوجت المرنيسي ما بين بحثٍ نظريٍّ أكاديميّ يعتمد على آليّة التنقيب الأركيولوجيّ في التراث العربيّ الإسلامي، وإعادة قراءة المقدّس في علاقته بالدنيويّ، فضلًا عن أبحاثها الميدانيّة في مختلف مناطق المغرب. وعبر آلية الاستجواب فتحت المجال لصوت المرأة كي تعبّر عن آلامها وآمالها بصورة مباشرة، من دون وسيطٍ معرفيّ مؤوَّل أحيانًا، وذلك كلّه في إطار تأسيس خطاب "الإشهاد والشهادة" لحال المرأة المغربيّة وهمومها في مختلف الدروب والقطاعات.
ج- على مستوى الاستراتيجيا. إنّ الاستراتيجيا المركزيّة لهذا المتن الغنيّ هو إثباتُ أطروحة المساواة بين الجنسين. وهذه الأطروحة  ذات بنيات متعدّدة، وتمضي في اتجاهات ومجالات متعدّدة أيضًا: سواء تجاه الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وتجاه المرأة في التعليم أو الدراسة أو الذكاء أو الكفاءة، وفي علاقتها بالسياسة أو الثقافة، وفي علاقتها بالمبادرة والفعل في المجال الخاصّ أو العامّ. إنّها استراتيجيّة يمكن استشفافُها في كلّ متن المرنيسي، سواء على مستوى الموضوع أو المنهج أو المفاهيم، أو على مستوى التخريجات والتأويلات النظريّة، بما في ذلك سيرتها الذاتيّة كامرأة(4) بما تحمله من وقائع وانزياحات وتخيّلات وشطحات وأفكار وتأمّلات.

2 ـ  مؤسَّسة الكتابة. انطلاقًا من متنها الزاخر، وحضورِها المتّصلِ والفاعل، استطاعت المرنيسي أن تشكل مؤسَّسة للكتابة. وهي مؤسَّسة رمزيّة وحقيقيّة في آن، ربّما تجاوزتْ (بالمفرد) تلك المؤسَّساتِ الماديّةَ المهيكلة (بالجمع)، على مستوى الحضور والإنتاجيّة. المرنيسي شكّلتْ مدرسةً في المناولة والإحاطة والكتابة لدى كثير من الفعّاليّات النسائيّة؛ فضلًا عن سلطتها الرمزيّة الواضحة من خلال إشرافها على مقاربات جماعيّة ومجموعاتِ بحثٍ؛ إضافةً إلى خبرتها الدوليّة لدى كثير من المؤسّسات الماديّة؛ وحضورها اللافت في المنابر والمعاهد والمنتديات؛ وانتشار نصوصها في لغات عالمية.

رحلتْ فاطمة المرنيسي، ومازال مشروعُها الحالمُ بعالم الغد مشرعًا على الممكن من حياة المساواة والعدالة الاجتماعيّة.

المغرب

1 ـ انظر (مثلًا) كتابها: شهرزاد ترحل إلى الغرب، ترجمة فاطمة الزهراء ازرويل (بيروت: المركز الثقافي العربي، والدار البيضاء: الفنك)،2003.

2 ـ
ONG rurales du haut Atlas (les Ait-debrouille), ed. Marsaum, Rabat 2003.
3 ـ  أحمد شراك، الخطاب النسائي في المغرب، نموذج فاطمة المرنيسي (الدار البيضاء: افريقيا الشرق، 1990)، ص 52 ـــ 56.
4 ـ خطاب السيرة والانزياح يمتد في كل كتبها، وهي صورة من صور السوسيولوجي في مشهد السيوسيولوجيا المغربية، إلى جانب صور أخرى. وهذا ما سنحاول إبرازه في عملٍ قيد الإنجاز.

 

احمد شراك

أستاذ السوسيولوجيا بجامعة  ظهر المهراز، فاس–المغرب.