جدل المسألة الفلسطينيّة والعربيّة
25-11-2015

 

للقضيّة الفلسطينيّة طعمٌ محبَّبٌ لدى الأنظمة العربيّة، ليس من جهة حلّها، بل في وصفها قضيّةً مستعصيةً على الحلّ في ظلّ الصراع الوجوديّ غير المتكافئ. فقد وفّر هذا الاستعصاءُ للأنظمة شمّاعةً تعلّق عليها قمعَها لشعوبها بحجّة أنّها تواجِه عدوًّا صهيونيًّا لا بدَّ في سبيل دحره من "تسخير كلِّ قدرات المجتمعات العربيّة" ــــ ومنها التضحيةُ بالديمقراطيّة وبالتنمية.

هذا ما تمَّ من قِبل النظام السوريّ والعراقيّ والمصريّ والليبيّ قبل اتفاقيّات كامب ديفيد بصورةٍ خاصّة. وبالإضافة إلى ذلك، فقد حصل تكرارٌ كبيرٌ على وسائل الإعلام الرسميّة لمشاهد الممارسات الإسرائيليّة الإجراميّة. لكنّ تلك المشاهد أصبحتْ، بعد فترة، مَشاهدَ للمقايسة أكثرَ منها مشاهدَ للتضامن؛ فالإذلال الذي تتعرّض له شعوبُ الأنظمة الشموليّة يختلف نوعًا، لكنْ ليس كمًّا، عمّا يعانيه الفلسطينيّون. وبذلك بدأتْ تنمو مناخاتٌ شعبيّةٌ  تقول بضرورة "إرجاء الموضوع الفلسطينيّ" والالتفاتِ إلى "الوطن أولًا."

"الليبراليّون" شجّعوا هذه الميولَ، زاعمين أنّ اليسار والقوميّين أخرجوا "التطوّرَ التاريخيَّ" للعرب عن سياقه الطبيعيّ منذ الخمسينيّات، وهو سياقٌ لا تمْكن استعادتُه ـــ كما ادّعوْا ــــ من دون الاعتراف بإسرائيل.

وبهذا يمكن القول إنّ الأنظمة العربيّة "استهلكت" القضيّةَ الفلسطينيّة وأطفأتْ بريقَها في عيون الملايين من شعوب المنطقة؛ الأمرُ الذي مهّد الطريقَ للمنطق "الليبراليّ" القائل بأنّ "الطريق إلى القدس يبدأ عبر إسقاط الأنظمة العربيّة،" وأنّه يبدأ أولًا "عبر بناء الدولة الوطنيّة،" بل خَلَقَ الحاضنَ الشعبيَّ لهذا المنطق أيضًا.

الأصوليّة كانت الرحمَ التي خرجتْ منها الظاهرةُ الجهاديّة المتضخّمة، غيرُ المعنيّة بقضايا العرب ولا بفلسطين: إنّها حركةٌ تهدف إلى تعويق أيِّ تطوّرٍ حداثيّ يسمح بتجاوز الأنظمة القمعيّة العربيّة.

لو اقتصر السلوكُ المرافقُ لهذا المنطق على اتخاذ موقفِ "الحياد" من القضيّة الفلسطينيّة لكان الأمر جديرًا بالنقاش. غير أنّه ترافق مع الدعوات إلى "إحلال السلام" مع إسرائيل، والضرب بشعار "تحرير فلسطين" برمّته عرضَ الحائط. وهذا التساوق في الطرحيْن يرسم علاماتِ استفهام حول جوهر هذا المنطق.

يضاف إلى ممارسات الأنظمة وأجواء "الليبراليّين" ظهورُ الردّة الأصوليّة منذ سبعينيّات القرن المنصرم. فقد وضعت الأصوليّةُ  قضايا "بعث الأمّة الإسلاميّة" وكيفيّة إيصال التيّارات الإسلاميّة إلى الحكم في أولويّاتها، الأمرُ الذي برّر لها التنسيقَ مع الإدارة الأمريكيّة لبلوغ هذه الأهداف، غيرَ مباليةٍ بفلسطين كقضيّة شعبٍ مستعمَرٍ وأرضٍ محتلّةٍ من قِبل مافياتٍ صهيونيّةٍ مدعومةٍ من إمبرياليّاتٍ عالميّةٍ على رأسها الولاياتُ المتّحدة. الأصوليّة كانت الرحمَ التي خرجتْ منها الظاهرةُ الجهاديّة المتضخّمة، غيرُ المعنيّة بقضايا العرب ولا بفلسطين: إنّها حركةٌ تهدف إلى تعويق أيِّ تطوّرٍ حداثيّ يسمح بتجاوز الأنظمة القمعيّة العربيّة.

وعليه، فإنّ هذه الأطراف، الأنظمة و"الليبراليين" والحركة الأصولية، ساهمتْ جميعُها في تهميش قضيّة فلسطين في العقود الثلاثة الأخيرة، لتبدو الآن في أبهت حضورٍ لها.

***

ولم تكن قيادة منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وقيادة "فتح" بالتحديد، نقيضًا للأنظمة العربيّة، بل كانت متمّمًا فكريًّا وسياسيًّا لها. وما إن انتهت الموجةُ القوميّة وانتقلت الأنظمة إلى تأسيس الدول الشموليّة، حتى فعلت القيادة الفلسطينيّة الشيءَ ذاته، لكنّها مُنيتْ بفشلٍ بعد فشل. إذ لم تستطع القيادة التي جاءت على جثة انتفاضة الثمانينيّات من القرن الماضي أن تحقّقَ دويْلةً على أراضي الـ 67؛ كما أخفقت انتفاضة الأقصى في تحقيق أهدافها. ولاحقًا كان التذرّرُ الفلسطينيّ الأكبرُ بانفصال غزّة عن الضفّة، وضياعِ الصلة مع اللاجئين الفلسطينيّين في العالم. وهذا ما رسّخ الانفصالَ بين الفلسطينيّين أنفسهم، وبينهم وبين العرب.

فلسطين قضيّة العرب المركزيّة

 

الحالة الفلسطينيّة تلك في المناخ العربيّ العقيم أنتجتْ أيضًا ميولًا "فلسطينيّة" كثيفة الحضور، رافضةً للقوميّة، أو هي ــــ توخّيًا للدقة ــــ رافضةٌ للأنظمة العربيّة التي تتلطّى بالفكرة القوميّة. فإذا كانت الأنظمة غيرُ الجمهوريّة لا قضيّة قوميّة لها، فإنّ الأنظمة "الجمهوريّة" العربيّة أزّمتْ حياة مجتمعاتها تحت فكرة "القوميّة." وبذلك تكون كلُّ الأنظمة العربيّة ضدَّ القضيّة الفلسطينيّة، كما هي ضدَّ شعوبها بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.

النتيجة الكارثيّة هنا هي تجذّر واقعٍ عربيٍّ وفلسطينيٍّ مفتّتٍ، وانخفاضُ قيمة العروبة وفلسطين. وقبالة ذلك ارتفعتْ أسهمُ الإسلام السياسيّ والعشائريّة والمناطقيّة والدعوات إلى التطبيع مع إسرائيل.

***

مع انبثاق الثورات العربيّة كان الوعيُ العربيُّ قد أصبح أشدَّ محليّةً، وأقلَّ تنبّهًا للخطر الإمبرياليّ والصهيونيّ. بل وصل بعضُهم، كـ "الليبراليّين،" إلى أنّ إسرائيل قَدَرٌ لا يمكن ردُّه، وأنّها دولةٌ ديمقراطيّةٌ، وأنّ الإمبرياليّات (متمثّلةً في العولمة وسواها) ليست مسؤولةً عن مشكلاتنا، بل إنّ مشكلاتنا تعود إلى أنظمتنا الديكتاتوريّة أو إلى "تأخّرنا الحضاريّ" فقط. وهناك مَن غالى وتطرّفَ وأعاد الأمرَ إلى الدين. وبهذا تراجعتْ فلسطين والمسألةُ القوميّة، وأصبحت الإمبرياليّاتُ "داعمةً" لحركات الشعوب وللثورات. فيا للعجب!

بمثل هذا الوعي والمناخ العامّ، أظهرت الثوراتُ العربيّةُ موقفًا ضعيفًا من إسرائيل، ومن دورها في تثبيت الأنظمة العربيّة. وتراجعت القضيّةُ الفلسطينيّة بشكلٍ لافت. وعلى الرغم من بعض التيّارات اليساريّة الوطنيّة، التي لم تخطئ البوصلة، وقرنتْ بين الأنظمة العربيّة وإسرائيل، وبين تحرير فلسطين وإسقاط الأنظمة، بل واصلت التأكيدَ أنّ إسرائيل دولةٌ استعماريّةٌ ولا بدَّ من أن تذعن للفلسطينيّين بحقوقهم على كامل فلسطين لا على أراضي الـ 67 فقط؛ على الرغم من ذلك كلّه فقد بقي صوتُ نلك التيّارات هو الأضعف بين باقي الأصوات.

من أجل انتصار الثورات العربيّة، لا بدَّ من إعادة إنتاج مفهوم الوطنيّة والقوميّة مجدّدًا، واعتبار فلسطين قضيّةً مركزيّةً للعرب وللثوريّين كافةً في العالم.

إنّ غياب المسألة القوميّة من ساحات النقاش الفكريّ والعمل الميدانيّ في الوقت الراهن قد سهّل على الثورات النكوصَ نحو المحلّيّة والمناطقيّة والأصوليّة والمذهبيّة، وساهم في إعادة إنتاج النظام العربيّ المنهار وصعودِه إلى السلطة مرةً أخرى، وأفرغ الثوراتِ من مضمونها. ومن ثمّة فإنّ العودة إلى المسألة القوميّة قد يساعد في بناء وطنيّةٍ جديدةٍ، وبما لا ينتقص من أهداف الثورات العربيّة في العمل والعدالة الاجتماعيّة والحريّات والديمقراطيّة وفي أوجه الحياة كلّها.

قد تكون الثوراتُ العربيّةُ غيرُ المكتملة في حاجةٍ إلى الهبّة الفلسطينيّة الحاليّة أكثرَ من حاجة الفلسطينيّين إلى دعمها. فالعمل المشترك من أجل تعزيز الحقِّ الفلسطينيِّ في التحرّر قد يكون فرصةً للمِّ شمل العرب على قضيّةٍ جامعة، وقد يكون فرصةً لتدارك الخطأ المتمثّل في غياب مشروعٍ وطنيٍّ ذي بعدٍ قوميٍّ متكامل. إذنْ، من أجل انتصار الثورات العربيّة، لا بدَّ من إعادة إنتاج مفهوم الوطنيّة والقوميّة مجدّدًا، واعتبار فلسطين قضيّةً مركزيّةً للعرب وللثوريّين كافةً في العالم.

الهبّة الفلسطينيّة الراهنة تنتظر من العرب تضامنًا مطلقًا، ولا يعوّق هذه الحقيقةَ الوضعُ العربيُّ المتأزّم. بل أزعم أنّ عدم التضامن معها، وبكلِّ السبل، سيُقلّل من سُبل نشوء وطنيّةٍ عربيّةٍ أو رؤى قوميّةٍ عربيّة، وسيٌعمّق مشكلاتِ الثورات العربيّة. وهذا سيساعد بقيّة الأنظمة على دحر الثورات، وسيعمل على تكريس الحروب الطائفيّة والقبليّة والمناطقيّة، ومن ثمّة تكريس إسرائيل دولةً طبيعيّةً في المنطقة، وبما يخدم المصالح الإمبرياليّة العولميّة أيضًا.

سوريا

عمّار ديوب
كاتب وصحفيّ سوريّ. نشر في العديد من المجلات (مجلة الجديد، دمشق..)، والصحف (الحياة والعربيّ الجديد وفي العرب اللندنيّة...)، كما في العديد من المواقع الإلكترونيّة  العربيّة.
مقيم في دمشق.