حوار مع الشيخ نعيم قاسم: عاشوراء، وحزب الله، والمقاومة
10-09-2019

 

(أجراه: بشّار اللقّيس)

تشكّل عاشوراء مناسبةً سنويّةً يُحْيي من خلالها الشيعةُ ذكرى استشهاد الإمام الحسين، من خلال جملة مراسمَ وطقوسٍ تعبّر عن ارتباطهم به. وبالرغم من اجتماعهم حول واقعة كربلاء، إلّا أنّ الأخيرة كانت ـــ ولا تزال ـــ محطّةً تتباين فيها الآراءُ في الساحة الشيعيّة: بين من يتطلّع إليها من المنظور التاريخيّ، أو الدينيّ الخاصّ، وبين من يراها محطّةً لإعادة التذكير بقيم الإصلاح والثورة والتغيير؛ وهي القيم التي يؤمن الشيعةُ بأنّها كانت هدفَ الإمام الحسين في ثورته.

ولأنّ لحزب الله حيثيّةً جماهيريّةً وثقافيّةً كبرى في البيئة اللبنانيّة الشيعيّة، فقد أجرت مجلّة الآداب هذا الحوار مع نائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، في محاولةٍ لاستكشاف رؤية حزب الله لعاشوراء، وكيفيّة فهمه لها بالمعنييْن الثقافيّ والسياسيّ.

 

***

* بدايةً، سماحة الشيخ، نسألكم كيف فهم الشيعةُ عاشوراءَ ومسألةَ الإحياء العاشورائيّ، في ظلّ حديث البعض عن "جِدّة" هذه المسألة؟ هل هذه المسألة لم تكن في زمن أهل البيت، بل دخلتْ (أو أُدخلتْ) في أزمنةٍ متأخّرة (كمرحلة الدولة البويهيّة مثلًا)، ومن ثمّ فإنّها لا تدخل إلّا في إطار "تطييف" الحالة الشيعيّة عامّةً؟

- كربلاء حادثة خطيرة في حياة المسلمين. هي ليست قصّةَ اغتيال، ولا "عملًا أمنيًّا." هي قصّةُ قائدٍ، هو الإمامُ الحسين، خاض نقاشًا مع والي المدينة، المكلَّفِ من يزيد بن معاوية، ثمّ ذهب إلى مكّةَ المكرّمة، وأجرى حواراتٍ مع واليها. بعدها، جاءته كتبٌ من الكوفة تناصرُه، فانطلق مع أنصاره في اتجاهها، من أجل مواجهة الحاكم الفاسد الظالم، يزيدَ بن معاوية، الذي تولّى الحكمَ بالوراثة، ومن دون أن يملكَ أيَّ أهليّة لذلك - - وهذا الأمر [أيْ فقدُ يزيدَ الأهليّةَ] كان معروفًا منذ زمن والده، معاوية بن أبي سفيان، وتَثَبَّتَ مع استلامه الحكمَ.

فمعاوية كان قد سعى، في مراحلَ متقدّمة، إلى أن ينصّبَ ابنَه يزيدَ، فذهب إلى المدينة المنوّرة، والتقى وجهاءها، باستثناء الإماميْن الحسن والحسين، ليقْنعَهم بالقبول بولاية يزيد، فلم يوافقوه الرأيَ. فقال إنّه أقلع عن الفكرة. ثمّ عاد إلى المدينة المنوّرة بعد وفاة الإمام الحسن. وعندما لم يجد الجوَّ مناسبًا، رجع إلى مكّة، وحاول إلزامَ أهلها بقبول ولاية يزيد.

هذه المشاهد المختلفة تُبيّن أنّ قصّة كربلاء لها مقدّماتٌ تزيد عن سنوات. ومن هنا، فإنّ ما جرى في معركة كربلاء كان خلاصةً ونتيجةً لكلِّ هذا التراكم الذي أراده الأمويّون من أجل تثبيت معالم حكم يزيد، وأراده الإمامُ الحسين من أجل تقويم مسار الإسلام والمسلمين وإصلاحِه. لذا لم يكن الموضوعُ عاديًّا كي نناقشَه كموضوع عاديّ في التاريخ الإسلاميّ، بل هو موضوعٌ جذريٌّ، أحدث انقلابًا في الحالة الإسلاميّة، خصوصًا أنّ الإمام الحسين حشد في هذه الحادثة خيرةَ أهله وأصحابه، مع قلّة العدد والعدّة، وواجه القتالَ، وهو يَعْلم مسبّقًا أنّه لا يمكن أنْ يفوزَ عسكريًّا. فكانت الشهادةُ - بشكلها ومظهرها [الفاجعيْن] - عاملًا من عوامل تحريك الأمّة، وإثارةِ مشاعرها، ووضعِها أمام مسؤوليّاتها من أجل إحداث التغيير.

البعض يسأل: إذا كان الإمام الحسين غيرَ قادرٍ على الانتصار في هذه المعركة، فلماذا خاضها أصلًا؟ الحقيقة أنّه كان يَعْلم أنّ خوضَها هو الذي سيثبّت المسارَ ويحقّق الهدفَ الذي أعلنَه في مكّة: إنّما خرجتُ "لطلب الإصلاح في أمّة جدّي رسولِ الله."

*عندما نتحدّث عن "الشيعة،" فنحن نتحدّث عن طيفٍ واسعٍ، أصوليًّا وفقهيًّا. ما هي أبرزُ الاتجاهات والرؤى عند الشيعة في قراءة التجربة الحسينيّة؟

- لقد حصل نقاشٌ في التاريخ بين عددٍ من العلماء حول هذه المسألة. فقال بعضُهم إنّ الشيعة بدأ تكوينُهم، كجماعة، مع بدء مرحلة ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وإمامتِه، قبل أن يستلم الخلافةَ الرابعة، أيْ منذ أنْ تنزّلَت الآيتان الكريمتان على رسول الله: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ).[1] وهنا يستدلّ الشيعةُ على تنوّعهم في كون الولاية هذه مطلَقةً لله، وللرسول، وللإمام. وعليه، فالولاية المطلقَة تستوجب الولايةَ السياسيّة. ومن هنا رأوْا أنّ الإمام عليًّا أحقُّ بالخلافة بعد رسول الله. ومنذ ذاك التاريخ صار يمكننا القولُ إنّ كلَّ مَن آمن بالإمامة لعليّ، ولأولاده من بعده، فهو شيعيٌّ؛ وإنّ كلَّ مَن لا يؤمن بالإمامة لهم، فهو مسلم غير شيعيّ، له حريّةُ الخيار الآخر في تصنيفات المسلمين.

من هنا نجد أنّ ثورةَ الإمام الحسين دخلتْ في منظومة الإمامة والأحقّيّة في القيادتيْن الدينيّة والسياسيّة؛ ذلك لأنّ الإمامة قيادةٌ دينيّةٌ وسياسيّةٌ في آنٍ معًا. بل إنّ من يقول، من الشيعة، إنّ الإمامةَ دينيّة، فهو لا ينفي أحقّيّةَ الإمام عليّ، ومن بعده الإمام الحسن، ومن بعده الإمام الحسين، في تولّيهم الخلافةَ. أمّا ما دون ذلك، فثمّة طيف شيعيّ واضح - - وهذا صحيح.

لكنْ يجدر بي التنبيهُ إلى أنّ كربلاء محطُّ إجماعٍ عند كلّ الشيعة، سواء أولئك الذين ينظرون إلى الإمام الحسين من موقع الإمامة الدينيّة، أو أولئك الذين ينظرون إلى إمامته كإمامةٍ سياسيّةٍ ودينيّة في آن معًا.

* يرى حزبُ الله، في أدبيّاته، أنّ كلَّ يومٍ عاشوراء، وكلَّ أرضٍ كربلاء. البعض يأخذ عليه أنّ هذا الشعار حقٌّ المعصوم[2] دون غيره في تشخيصه؛ وهذا هو اتجاهُ الحوزة التقليديّة، ربّما النجفيّة، التي لا ترى أولويّةً في العمل السياسيّ الذي يشخّص المعصومُ وحدَه مقتضاه. كيف تفهمون، في حزب الله، مثلَ هذا الشعار؟ وكيف استطاع حزبُ الله إعادةَ "تبيئة" عاشوراء، كمسألة سياسيّة، في البيئة التقليديّة الشيعيّة؟

- لا يَخفى أنّ الحركة التي قام بها الإمامُ الخمينيّ أحدثتْ تحوّلًا قويًّا في قراءة حركة الإمام الحسين باتجاه دمج الفكرة الدينيّة والسياسيّة. والمشهور عن الإمام الخمينيّ قولُه: "دينُنا عينُ سياستنا، وسياستُنا عينُ ديننا." وهو استند في ذلك إلى أنّ الرسول كان حاكمًا ومبلِّغًا ومعبِّرًا عن الرسالة الدينيّة والتربويّة والأخلاقيّة والعقائديّة. فهو كان يدعو الناسَ إلى الدين، وقاد الحكمَ في المدينة المنوّرة، وخاض الحروبَ، من أجل تثبيت الإسلام - - وهذا ما يمكن إدراجُه في خانة "السياسة."

إذًا، الإمام الخميني هو الذي أحدث هذا التغييرَ الواسع. وهذا لا ينفي أنّ هناك علماء وقادةً في التاريخ الشيعيّ كان لهم مثلُ هذه الرؤيا، إلّا أنّهم لم يستطيعوا نشرَ هذه المسألة بين جمهور الشيعة وطيفِ المسلمين الواسع. ولربّما كان في انتصار الإمام الخمينيّ في ثورته، وفي إقامته الدولةَ الإسلاميّةَ في إيران، ما جعله يترجم القيادةَ السياسيّةَ والدينيّةَ في الحكم. وهذا أثّر بشكل كبير في حزب الله، وعموم الشيعة في العالم.

لذا، حزبُ الله،  عندما حمل عاشوراءَ بهذا الفهم، كان منطلِقًا من فهم الإمام الخميني. وكانت عاشوراء دعامةً تحدّدتْ، بشكلٍ مباشر، من خلال رؤية الإمام الخميني، والسيّد الخامنئي راهنًا. هنا يجب لفتُ النظر إلى أنّ عاشوراء تشكّل محطّةً [فقط] في التاريخ الإسلاميّ، لكنّها بالنسبة إلينا هي محطّةُ تصحيحٍ وتوجيه. هذه المحطّة التغييرية عبّر عنها النبيُّ بقوله: "حسين منّي، وأنا من حسين." وإذا كان شرطُ الحديث الأوّل مفهومًا لارتباط الإمام الحسين بالنبيّ نَسَبًا، فإنّ القسم الآخر منه يؤكّد استمراريّةَ الرسالة بالنهج الحسينيّ. والاستمراريّة هذه حصلتْ من خلال هذا التصحيح الذي حملناه ومشينا به. وهو ما عبّر عنه الإمامُ الخميني حين قال إنّ كلَّ ما لدينا "مِن عاشوراء." فعاشوراء جسّدتْ كلَّ المعاني التربويّة والأخلاقيّة والسياسيّة التي تُعبّر عن الإسلام. ونحن عندما نقتدي بالإمام الحسين، فإنّما  نعبِّر عن إيماننا بالإسلام؛ ذلك لأنّ كلّ الخطوات العقائديّة والعمليّة في حركة الإمام الحسين تعبّر عن الرمزيّة الكاملة الحضور في الإسلام.

وعاشوراء جزء لا يتجزّأ من المنهج النبويّ الذي أكّد بوصيّته [وصيّةِ النبيّ] أنّ الثقليْن، أيْ "كتابَ الله وعِترتي أهلَ بيتي،" لن يفترقا "حتى يردا عليّ الحوضَ،" كما قال النبيُّ الأكرم. وفهمُنا لهذا الحديث أنّ القرآن الكريم هو الإطارُ النظريّ لما يريده اللهُ تعالى من الإنسان، وأنّ عترةَ أهل البيت هي "القرآنُ الناطق،" أو التطبيق العمليّ الأتمّ والأمثل لما يريده اللهُ من عباده. وهنا نحن نأخذ من الإمام الحسين التطبيقَ العمليّ لفهمه للإسلام.

* كيف يفهم حزبُ الله القيمَ العاشورائيّةَ اليوم؟

- القيم العاشورائيّة هي قيمُ الإسلام. وقيمُ الإسلام، كما نفهمها، هي صراعُ الحقّ والباطل على امتداد التاريخ. العناوين واحدة [عبر التاريخ]، وإنْ كانت تطبيقاتُها مختلفةً. فإذا أردنا اليومَ أنْ نتطلّعَ إلى القيم العاشورائيّة التي تأثَّر بها حزبُ الله، فسنرى أنّ قيمَ الجهاد، والشهادة في سبيل الله من أجل إحقاق الحقّ، وتحرير الأرض، وتحقيق الاستقلال في الخيارات السياسيّة والفكريّة، هي من العناوين الأساسيّة التي أثَّرتْ في بناء حزب الله النظريّ.

وقد تجلّتْ هذه القيمُ، بأسمى صورها، في مقاومة المحتلّ الإسرائيليّ. كما تجلّت في مواجهة أدوات "إسرائيل" من أصحاب التفكير "الإسلاميّ" المنحرف، الذي شوّه تعاليمَ الإسلام؛ فكانت المواجهة معه محطّةً لمواجهة الانحراف الثقافيّ والسياسيّ والأخلاقيّ. هذه القيم التي تتعلّق بالجهاد والشهادة هي الأبرز، إذًا. وأضيف إليها قيمةً أخرى، هي الانطلاق من عامل الإيمان؛ فمِن دون الالتزام بخطّ الإسلام، وبهذه العقيدة الروحيّة الأخلاقيّة، التي تلتزم بالصلاح وخطّ الاستقامة، لم نكن لنستطيع ترجمةَ هذه المفاهيم وهذه القيم واقعيًّا.

من هنا أريدُ القولَ إنّ انطلاقة حزب الله هي انطلاقةٌ عقائديّةٌ إيمانيّة، تلتزم بالولاية، وتعمل على أنْ تكون في خطّ الجهاد والشهادة، مع ما يحمله ذلك من آثارٍ وتضحياتٍ عاشورائيّة.

* إلى أيّ مدًى نجح حزبُ الله في ترجمة القيم العاشورائيّة بعيدًا عن جبهة القتال؟

- الجبهة نتيجة. ولو لم يكن لها رصيدُها من خلفها - في البيئة التي نحن فيها، بين العائلات والمجتمع، وفي التربية العامّة على الإسلام - لَما وجدنا الشبابَ في الجبهات. لذلك، عندما يَقبل حزبُ الله المنتسبين إليه، فإنّه يُخْضعهم إلى دوراتٍ ثقافيّةٍ وأخلاقيّة؛ فمِن دون هذا المبنى العقائديّ يَصْعب أنْ نحصل على هذه النتيجة. حزبُ الله لا ينسِّب الناسَ إليه سياسيًّا فحسب، بل عقائديًّا أيضًا. ومن منطلق الإيمان العقائديّ يَرفد الحزبُ الجبهاتِ، وساحاتِ العمل السياسيّ والاجتماعيّ والمدنيّ، وغيرَها. حزبُ الله منظومة متكاملة.

* البعض يتخوَّف من أنّ مدرسة حزب الله هي مدرسةُ الإمام الحسين، لا مدرسةُ أبي ذَرّ الغفاري؛ بمعنى أنّ قضيّتَه هي الإسلامُ والولايةُ ومضامينُ مشابهة، لا محاربةُ الفساد أو تطبيقُ العدالة الاجتماعيّة. كيف سيستطيع حزبُ الله التوفيقَ بين هذين المنظوريْن للسياسة ولأولويّاتها؟

- أنا لستُ مع التفكيك الذي يحاول البعضُ أنْ يوجِدَه بين العمل الاجتماعيّ والسياسيّ والمقاوِم. والمقارنة بين أبي ذرّ والإمام الحسين غيرُ صالحةٍ هنا لأنّ لكلٍّ منهما ظروفَه التي أبرزتْ فيه خاصّيّةً منسجمةً مع ما مرّ به. وإذا أردتَ أنْ تجري مقارنةً [أشدّ ملاءمةً للسياق]، فيمكن أنْ تجريَها بين الإمام الحسين والإمام الحسن عليهما السلام. فلماذا صالح الإمامُ الحسنُ معاويةَ، في حين قاتَلَ الإمامُ الحسين يزيدَ بنَ معاوية؟

جوابي: لأنّ ظروفَ الإمام الحسن لم تكن مؤاتيةً ليعبّر عن المواجهة بالجهاد والشهادة. فالأمّة، فترةَ الإمام الحسن، لم تكن قد حادتْ بعدُ عن الإسلام. أمّا ظروفُ الإمام الحسين فكانت في منعطفٍ خطير، مقتضاه انحرافُ الأمّة بما لا عودةَ بعدها إلى جادّة الصواب؛ وكان سكوتُ الإمام الحسين يعني إعطاءَ السلطة الفرصةَ لإنهاء كلّ قيم الإسلام ومبادئه. فكان لا بدّ من المواجهة، كي تقف خطواتُ الانحراف. وهذا ما عبّر عنه الإمامُ الحسين بـ"طلبِ الإصلاحِ في أمّةِ جدّي."

اليوم، في حركة حزب الله، أيَّ مشهدٍ نرى؟ كان الناس منذ العام 1982 وحتى العام 1990 يرَوْن [في هذه الحركة] مشهدَ المقاومة فقط؛ ذلك لأنّ ظروفَ البلد آنذاك لم تكن مؤاتيةً للسياسة، وكنّا منصرفين إلى مقاومة "إسرائيل" فقط. لقد كنّا في مرحلة جنينيّة، ولم تكن الظروفُ لتساعدنا على العمل السياسيّ.[3]

أمّا منذ العام 1992، فقد انخرطنا في العمل السياسيّ لأنّنا أردنا أنْ نطرحَ مقاربتَنا للمسألة الداخليّة. وفي العام 2005، انخرطنا في العمل الحكوميّ، وبدأنا نشارك في أداء السلطة التنفيذيّة في لبنان.[4] وكلُّ هذا يدلّ على أنّ حزبَ الله لا يعمل في اتجاهٍ دون آخر، ولا في مجالٍ دون آخر، لكنْ تبرز فيه خصائصُ دون أخرى بحسب الظروف الموجودة. واليوم، الحزب يقاوم "إسرائيل،" ويحاول – في الوقت نفسه - أنْ يرفعَ مطالبَ الفقراء، وأنْ يقدّمَ نموذجًا في نظافة العمل السياسيّ ومحاربة الفساد، بقدْرِ ما يحتمل البلد؛ أيْ إنّه يقوم بكلّ القضايا المطروحة لخدمة الناس قدر المستطاع.

أضيفُ إلى ذلك اهتماماتٍ أخرى ذات صلةٍ بمواجهة التسلّط الاستكباريّ العالميّ في لبنان.

* عندما نتحدّث عن لبنان، نتحدّث في كثيرٍ من الأحيان عن طوائف. هناك أسئلةٌ دائمة عن حركة حزب الله ذاتِ المرجعيّة الإسلاميّة، وعن موقعها من المسألة الطائفيّة. ما هو منظورُكم الدينيّ إلى المسألة الطائفيّة نظريًّا، وعلى المستوى الواقعيّ؟ وإلى أيّ مدًى تأخذون مصالحَ الطائفة في الاعتبار؟

- حزبُنا عقائديّ إسلاميّ، وليس حزبًا طائفيًّا. لكنّ هذا الحزب، العقائديَّ الإسلاميّ، له بحرٌ في طائفته الشيعيّة أوسعُ من البحور الأخرى في الطوائف الأخرى. من هنا ترى أنّنا حاولنا الامتدادَ خارج الطوائف من خلال "السرايا اللبنانيّة لمقاومة الاحتلال،" وأنشأنا فصائلَ تشمل أطيافًا لبنانيّةً مختلفة، لكنّنا لم نضمَّها مباشرةً إلى حزب الله العقائديّ، ليس لأنّها ليست شيعيّةً، بل لأنّها لا تلتزم الضوابطَ الدينيّةَ التي يؤمن بها الحزبُ على المستوى العقائديّ الفكريّ. وللعِلم، يوجد بعضُ الشيعة في "السرايا" وليسوا في تركيبة الحزب لأنّهم يقْبلون الانتماءَ السياسيّ ولا يتلزمون عقائديًّا بمعتقدنا.

حزب الله، إذًا، حزب إسلاميّ، عقائديّ، إنسانيّ، وطنيّ؛ بمعنى أنّه يعتمد على البنية الإيمانيّة الفكريّة أساسًا في الانتماء. وهو ليس حزبًا طائفيًّا، وإنْ كان أغلبُ المنتمين إليه هم من الطائفة الشيعيّة.

* ما دمنا نتحدّث عن الطائفيّة، دعْني أسألكم عمّا يراود الناسَ في الشارع. لقد انفجرت المسألةُ الطائفيّةُ مع أحداث سوريا (2011 - ...). ويؤخَذ على حزب الله خطابُه الطائفيُّ بدايةَ الأزمة، من خلال رفع بعض الشعارات الخاصّة بالشيعة، مثل "لن تُسْبَى زينبُ مرّتيْن." كيف تفسّر ذلك؟

- لماذا ذهبنا لنقاتل في سوريا؟ بكلّ وضوح: من أجل عدم إسقاط دعامةٍ من دعامات المقاومة في المنطقة، ممثّلًةً بالدولة السوريّة، وعلى رأسها بشّار الأسد. وهذا ما أعلنّاه مرارًا وتكرارًا. لكنْ، عادةً، عندما تُريد أنْ تحقّقَ هدفًا، فإنّك تحاول أنْ تستنفرَ مناصريكَ بأساليبَ تعبويّةٍ مختلفة، تتقاطع مع الهدف ولا تتعارضُ معه. ولقد وجدْنا أنّ أحدَ الشعارات المناسبة هو أنْ نشدّدَ على تحرير مقام السيّدة زينب من التكفيريين والمعتدين، ليكون ذلك جزءًا من عمليّة التعبئة. لكنْ عندما ذهبنا إلى حلب، لم يكن في حلب مقامٌ للسيّدة زينب عليها السلام، ولم نرفعْ شعار "لن تُسبى زيْنبُ مرّتيْن." إلّا أنّ قتالنا في حلب كان مشابهًا لقتالنا في جوار السيّدة زينب وفي أزقّة دمشق.

هذا يعني أنّ أساليبَ التعبئة ذاتُ علاقةٍ بتحريك الناس، وتأجيجِ المشاعر، وتقديمِ بوصلةٍ من أجل استقامة الطريق، ولا علاقة لها بأنّنا نعمل بخلفيّةٍ طائفيّة. وذاك دليلٌ مضافٌ على أنّنا، عند حضورنا في أيٍّ من الساحات في سوريا، كان عنوانُ قتالنا المركزيّ: هزيمةَ المشروع الأمريكيّ، وحمايةَ دعامةٍ من دعامات محور المقاومة.

*ألم يكن لهذا العنوان جانبٌ سلبيّ لدى الطرف الآخر؟

- زينب للسنّة والشيعة معًا! ويُفترض ألّا "يتحسّسَ" أحدٌ من اهتمامِنا بزينب، التي هي بنتُ الإمام علي، والإمامُ عليّ كان واحدًا من الخلفاء الأربعة. ينبغي على العالم العربيّ ألّا يتحسّسَ من ذلك، إلّا إذا كانت للبعض أفكارٌ خاطئة من الأساس.

في كلّ مراحل جهادنا، لم نرفعْ عنوانًا ضدّ المسلمين، أو يُخالف قناعاتهم. ومَن يعتبرون أنّ الشعارَ موجَّهٌ إليهم مخطئون. وما وصلوا إليه من استنتاجات إنّما هو وليدُ خطئهم ومقاربتهم الخاطئة. نحن لم نرفعْ أيَّ شعار طائفيّ، أو خاصّ، أو منغلق عن الآخرين، حتى في أشدّ لحظات تعبئتنا حساسيّةً!

*عندما تتحدّث الحركةُ الإسلاميّة المقاوِمة عن السياسات العامّة، دائمًا ما يكون العنوانُ واضحًا، من ناحية التزاماتها بمواجهة الاستكبار أو محاربة المشروع الصهيونيّ أو الأمريكيّ. أمّا عندما ندخل في التفاصيل، فالأمور تبدو مختلفة. ففي سوريا، مثلًا، 600 ألف ضحيّة، و8 ملايين مهجّر، والآلافُ ممن قضوْا في البحار هربًا من الحرب. أين محلُّ هذه الحيثيّات من خطابكم العامّ؟

- عندما نتحدّث عن محور المقاومة والقضايا الكبرى، فذلك لا يعني أنّ هذا المحور لا قضايا صغرى ومحلّيّة له. لذلك عندما نواجه القضايا الصغرى والمحلّيّة نواجهها بقدْرِ ما تحتمل، وباحتسابٍ ودرايةٍ كامليْن.

اليوم، بدلًا من أنْ تسألَني عن رأيي في "600 ألف ضحيّة في سوريا،" اسألْني "كيف كان سيكون وضعُنا في سوريا لو سيطر التكفيريّون والإسرائيليّون والأمريكيّون عليها وتحكّموا بها؟!" وجوابي في هذه الحال: كانت الضحايا ستكون بالملايين حتّى لو بقوْا على قيد الحياة، لأنّ الهيمنة الأمريكيّة والإسرائيليّة أخطر وأشدُّ أذًى ممّا يمكن أنْ يتخيّل البعض.

السؤال ينبغي طرحُه على النحو الآتي: "هل ما قمنا به يُدرَجُ ضمن الموقف الصحيح؟" إذا كان صحيحًا لناحية [دعم] الموقف المقاوِم [لـ"إسرائيل"]، فهذا يقتضي التضحياتِ حتمًا؛ ونحن آليْنا على أنفسنا تقديمَ التضحيات مهما بلغتْ، لأنّ النتيجة في كسر المشروع الأمريكيّ والإسرائيليّ أفضلُ للأجيال القادمة، ولهذا الجيل، في سوريا، وفي المنطقة. نحن نقارب المسألة من هذه الزاوية: من زاوية النتائج.

سوريا لم تسقطْ، وسوريا لم تُصبحْ إسرائيليّة، وسوريا وقفتْ سدًّا منيعًا أمام مشروع "الشرق الأوسط الجديد." هذه إنجازاتٌ ستُخلَّد في التاريخ، وستكون خيرًا لكلّ مَن يأتي مِن الآن فصاعدًا. أمّا التضحيات فلم نخترْها نحن، بل فُرضتْ علينا.

*نحن اليوم في ذكرى عاشوراء. وحزبُ الله يكثِّف المعاني والمرامي التي يتطلّع إليها على مدار العام في هذه المناسبة بشكلٍ خاصّ. فما هي العناوين التي تتطلّعون إليها في سياستكم هذا العام، وفي الفترة المقبلة؟

- عاشوراء في كلّ عام مددٌ إضافيٌّ لنبقى في الميدان واقفين وصامدين؛ فالتحدّيات كثيرة ولا يجوز أنْ نَخضعَ لها. اليوم ثبتَ أنّه عندما صمدنا انتصرْنا، وحافظْنا على الانتصارات. والمطلوب أنْ تبقى عاشوراءُ فينا كي نحافظ على صمودنا وانتصاراتنا!

ضاحية بيروت الجنوبيّة


[1]  القرآن الكريم، سورة المائدة، الآيتين 55،56.

[2]  العصمة عند الشيعة تعني عدمَ الوقوع في الخطأ والذنْب، أو في أيّ عمل أو قول أو تدبير مخالف لكتاب الله. والمعصومون هم الأنبياء حصرًا، والأئمّة الإثنا عشر، من بعد رسول الله. أمّا راهنًا، فالعصمة هي لإمامهم الثاني عشر الغائب، محمد ابن الحسن. (الآداب)

[3]  عاش لبنان حربًا أهليّةً منذ العام 1975، وحتّى العام 1990. وقد انتهت الحربُ الأهليّة بتوقيع اتفاق الطائف، وإجراء أوّل انتخابات نيابيّة بعد عاميْن من تاريخ توقيع الاتفاق. (الآداب)

[4]  جاء دخول حزب الله إلى الحكومة اللبنانيّة بحقيبة وزاريّة واحدة (وزارة العمل) بعيْد الخروج السوريّ من لبنان سنة 2005، ومع ارتفاع التوتّر الداخليّ والخارجيّ إثر صدور القرار الدوليّ 1559 عن مجلس الأمن، وما تركه من تداعيات أمنيّة وسياسيّة خطرة على مجمل المشهد السياسيّ اللبنانيّ. (الآداب)