ماهر الذي لا يغيب
28-03-2019

 

شهدتْ سبعينيّاتُ القرن الماضي تململًا في أوساط الشباب على مستوى الوطن العربيّ بعامّةٍ، ولبنان بخاصّة. وعَرفت المواقعُ نقاشًا حادًّا حول العمل المقاوم، واتُّخذت الخياراتُ في دعم العمل الفدائيّ، مع ميْلٍ إلى تشكيلات كانت تنعطف باتجاه اليسار، ومنها الجبهةُ الشعبيّةُ لتحرير فلسطين التي تتبنّى أطروحةً نضاليّةً جذريّةً ذاتَ محتوًى ديموقراطيّ علمانيّ.

تميّزت الجبهةُ الشعبيّة بأداءٍ ثوريٍّ متميّز، نال منّا كلَّ تقدير وإعجاب، وبتنا نتشوّق إلى متابعة تفاصيل العمليّات البطوليّة التي خاضها فدائيّوها. وشاءت الصدفُ الجميلة أن نتعرّف إلى أحد هؤلاء الفدائيّين الأفذاذ. كان الرجلُ مهيبًا وقورًا، يَحسب كلماتِه بانتظام، ويصبُّ رأيَه في قوالبَ كلاميّةٍ دقيقةٍ ومنتقاة، ولا يفيض بل يختصر، لا سيّما إذا كان الأمرُ متعلّقًا بالعمل الحزبيّ والسياسيّ.

مع الأيّام القليلة الأولى للتعارف تراجعت المصطلحاتُ البروتوكوليّة بيننا لتحلّ محلَّها الصّيغُ الرفاقيّةُ المحبّبةُ والأليفة؛ ذلك لأنّ ماهر اليماني استطاع أن يتحوّل - في وقتٍ قصير - من شخصيّةٍ تثير التساؤلَ والفضولَ الجامح، إلى رفيقٍ أنيسٍ وصديقٍ مقرَّب. إنّه واحدٌ من المناضلين الثوريّين الذين قرأنا عنهم في عائد إلى حيفا للشهيد غسّان كنفاني، وهو القالب الذي صُبّ عليه الرجالُ الذين أخذوا عن القائد جورج حبش سعةَ الأفق وشجاعةَ الموقف وصدقَ المبادرة.

***

كنّا كثيرًا ما نلتقي حول مادّةٍ للنقاش تأخذ بإشكاليّاتٍ متعدّدةِ الاتجاهات والمقاصد، منهمّةٍ بقضايا النضال والعمل الثوريّ والمقاومة الفلسطينيّة. وإنّي لأذكرُ في أحد الاجتماعات، المكرّسةِ لنشاطٍ مُرتقب، أنّني قطعتُ عليه مداخلتَه حين حاول الكلامَ معترضًا على أحدهم. حاولتُ الاعتذارَ منه، فأبى، مؤكّدًا أنّي أصبتُ في موقفي لأنّ الديموقراطيّة التي لا تنتهي إلى مركزيّةٍ مقرِّرة تؤدّي إلى الانفلات والتسيّب.

كما أنّني لمستُ في ماهر مثقّفًا يُحسن العرضَ والتفصيلَ، في أداءٍ فيه مهارةُ الثوّار المسكونين بقضيّتهم ومأساةِ شعبهم.

***

كثيرةٌ هي المرّات التي أنسنا فيها إلى ضيافته، إذ كان يصطاد السمكَ ويوفّره لجلساتٍ ننعم بأُلفتها. فكنّا نلتقي حول مائدة زينب وماهر، اللذيْن يحرصان على توطيد أواصر العلاقة مع الأصدقاء والمعارف.

***

 

ماهر استحقّ تقديرَ الهرمل الوفيّةِ له

 

لقد أذهلني حضورُ ماهر في غيابه، وذلك غداةَ نعيه في ساحات الهرمل الرئيسة، وفي شوارعها، من خلال يافطاتٍ تَشْهد به رجلًا ولا كلَّ الرجال، وثوريًّا استثنائيًّا، استحقّ تقديرَ الهرمل الوفيّة له.

فخورٌ بكَ يا رفيقي ماهر، وأعتزُّ بصفحةٍ من عمري تشرّفتُ فيها برفقتك. وإنّنا إذ نرفع الهامةَ أمام ذكراكَ، نقول للرفيق أحمد سعدات، أمينِ عامّ الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، إنّ الساحة ما زالت أمينةً للموقف الثوريّ؛ وإنّ الصراع ما يزال مفتوحًا مع العدوّ؛ وإنّ النضالَ هو الحقيقةُ الساطعة التي تنبذ كلَّ مؤتمرات الذلّ والهوان وتفضح مساراتِ التطبيع والخيانة.

الهرمل

 

سهيل الطشم

أستاذ متقاعد في التعليم الثانويّ. حائز شهادة ماجستير في الأدب المقارن من الجامعة اللبنانية سنة ١٩٨٠. فاعل في العمل النقابي والشأن الاجتماعيّ.