نسيتُها في البيت
26-01-2021

 

لم يعد الحمّامُ مكانًا صالحًا للاختباء،؛ فصواريخُ هذه الحرب لا تشبه أخواتِها في "عناقيد الغضب." لكنّ أمّي لا تستطيع إدراكَ هذا الأمر.

"لماذا الحمّام يا أمّي؟"

أسالُها دومًا فلا تجيب. أشدُّها من ثوبها كي تنتبهَ إليّ، فتكتفي باحتضان رأسي، ويبقى نظرُها معلّقًا على الشبّاك الصغير، ولسانُها مشغولًا بالتسابيح والأذكار.

بقي الأمرُ سرًّا لي، حتى تكفّل أبي بشرحه. فلقد كان الحمّامُ يقع تحت التتخيتة (العلّيّة). وفي وقتٍ سابق، لم تكن للقذائف قدرةٌ على اختراق أكثر من سقفٍ واحد، لتنفجرَ بعدها من دون أن تُلحقَ الضررَ بما تحتها. لذلك كان الحمَّامُ مكانًا مثاليًّا للاحتماء بسبب وجود سقفيْن فوقه. لكنْ، بمرور السنوات، فقد الحمّامُ قدرتَه على حمايتنا أمام الصواريخ الذكيَّة القادرة على اختراق مبانٍ كاملةٍ من طوابقَ كثيرة.

كنّا نشاهد الأبنيةَ تنهار وتستحيل في لحظةٍ أكوامًا من الحجارة. وكانت أمّي تتّخذ من زاويةٍ في أقصى الغرفة مقرًّا لها تقرأ فيه القرآنَ الكريم، مركِّزةً بشكلٍ خاصّ على سورتَي الأحزاب والحديد.

القصف مستمرّ منذ خمسة عشر يومًا. أحياء كثيرة في الضاحية والجنوب اختفت ملامحُها تمامًا، وأخرى باتت مساكنَ للأشباح، أو محطّاتٍ لأشباحٍ من نوعٍ آخر: نرى أفعالَها ولا نراها.

كان الوقتُ يقارب منتصفَ الليل، وأمّي - بخلاف عادتها - نائمةٌ بعمق، من دون أن يوقظَها صوتُ القصف البعيد، ولا صوتُ طائرة الاستطلاع. كانت تلك فرصتي لأخرجَ من بين الجدران كي أستنشقَ شيئًا من الهواء. كنتُ أفضّل الموتَ في الهواء الطلق على أن أُحشَرَ حيَّةً في حمَّامٍ لا يتعدَّى اتساعُه أمتارًا قليلة.

وبينما كنتُ أجلس على الأريكة، سمعتُ أصواتًا خلف المنزل، فخطر لي أن تكون صادرةً عن قطّةٍ أو كلبٍ بسبب وجود بستانٍ خلف المنزل. التففتُ حول المنزل، فرأيتُ أشخاصًا يَعْبرون بشكلٍ خاطفٍ من بستاننا إلى المنزل المجاور.

كان المجاهدون يستحوذون على تفكيري أغلب الوقت: باندفاعهم إلى القتال، وتسابقِهم نحو الشهادة، واستشعارِهم اللذةَ في الموت. وبقدْرِ ما كانت الفلسفةُ التي يحملونها تثير دهشتي، فقد كانت تثير إعجابي أيضًا.

استيقظنا على مجزرةٍ أخرى. ثمَّة ضحايا جدد يُقتلون بوحشيّةٍ لم يعرف العالمُ لها مثيلًا.

وحشيّة؟

لا أعتقد أنَّ الكلمة تكفي لوصف منظر أطفالٍ يكتبون رسائلَ على صواريخ يُقتل بها أطفالٌ آخرون!

لم أعد أحتمل مشاهدةَ التلفاز. تذرّعتُ بنفاياتٍ لا بدّ من رميها كي أخرجَ قليلًا إلى الشارع. في الحرب، رميُ النفايات نفسُه يصبح رحلةً ممتعةً، بل ترفًا أَنْشدُه كلَّ يوم.

رميتُ الكيسَ شبه الفارغ قرب مستوعب النفايات الذي امتلأ عن آخره، واستدرتُ كي أعود. لكنّي سمعتُ صوتًا من أحد الأزقّة القريبة. وحين اقتربتُ لأتحقّقَ من الصوت، رأيتُه!

كان يقف بكامل لباسه العسكريّ: الجعبة، السلاح، مخازن الرصاص،... أمّا مصدرُ الصوت فكان جهازَه اللاسلكيّ.

نظر إليّ كأنّه يقول "أُدركُ تمامًا أنّني ضُبطت متلبّسًا لكنْ لا بأس!" ابتسمَ لي ابتسامةً لم أفهمْ مغزاها. وفي اللحظة التي التفتُّ فيها إلى الخلف لأنظرَ إلى شجار قطّتيْن عند مكبّ النفايات، اختفى.

في اليوم التالي استيقظتُ على صوت أبي يتحدّث مع أحد المجاهدين. كان المجاهدُ يطلب إلى أبي مغادرةَ المنزل لأنّ الوضع أصبح خطيرًا ولم يعد يصحّ البقاءُ، خصوصًا أنّنا العائلة الوحيدة التي لم تترك القريةَ بعد. وما هي إلّا ساعةٌ ونصفُ الساعة حتى كانت سيّارةُ الأجرة تنتظر أمام المنزل.

حمل أبي الحقائب ووضعها في الصندوق الخلفيّ.

جلس الجميعُ في مقاعدهم. وبينما كنتُ أتوجّه إلى السيّارة، تذكّرتُ ساعةَ يدي التي تركتُها على رفّ المغسلة، فعدتُ لأحضرَها.

وفجأةً، إذ بأحد صواريخ العدوّ يسقط بالقرب من منزلنا، وتحديدًا خلف الجدار الذي تستريح عليه المغسلة.

كان ضغطُ الانفجار كفيلًا بتدمير الحائط ورميي عدَّة أمتار. لكنّ اللطف الإلهيّ أحاطني في تلك اللحظة، فلم أمت. فقط سُحِلتْ يدي تحت قطعةٍ كبيرةٍ من الإسمنت.

لم أكن أملك من الطاقة ما يكفي لأرفعَ صوتي ردًّا على الأصوات التي نادتني. أغمضتُ عينيَّ قليلًا، ورأيتُ في حلمي ذلك الشابَّ في الزقاق يحاول سحبي من تحت الأنقاض.

حين فتحتُ عينيّ كنتُ بين ذراعيْ أبي. وكان هذا آخرَ ما رأيتُه قبل أن أستيقظَ مجدَّدًا في المستشفى.

لم أعرف كم لبثتُ فاقدةً الوعيَ. لكنْ كان أوّل ما رأيتُه حين أفقتُ هو التلفاز المثبت بالحائط: كانت إذاعةُ سوريا تذيع أخبارَ لبنان وتبكي ضحاياه.

عرفتُ أنّني أرقد في أحد مستشفيات دمشق. وحين حرَّكتُ يدي لأزيحَ خصلةَ شعرٍ تدلّت على وجهي، لم أجد يدي!

شعرتُ بالحزن والنقص والغضب والغيظ والرغبةِ في الموت. وبكيتُ بحرقةٍ ما بعدها حرقة.

غير أنني بعد فترة فكّرتُ:

ماذا يعني أن أفقدَ يدي بينما فقد غيري روحَه؟

ماذا تساوي يدٌ مقطوعةٌ أمام وطنٍ مقتول؟

تُواصل هذه الأصواتُ دورانَها في رأسي أيَّامًا، قبل أن يُسكتها صوتُ المذيع قائلًا: "تُطوى الآن صفحةُ الحرب بعد 33 يومًا، ويُسجِّل لبنان انتصارًا جديدًا على العدوّ الإسرائيليّ."

انتهت الحربُ بالنصر إذًا، وبدأت القنواتُ العربيَّة والعالميَّة تعرض مشاهدَ عودة النازحين إلى قراهم ليرفعوا أنقاضَ بيوتهم ويعيدوا إعمارَها.

وأنا أخرج من المستشفى الدمشقيّ، وقد تماثلتُ للشفاء، التقيتُه عند الباب. لم أبذل جهدًا في تذكّر ملامحه التي طُبعَتْ في ذاكرتي وقلبي على الرغم من اللقاء القصير. ابتسامتُه كانت لا تزال هي ذاتَها. وقع بصرُه على كمّ قميصي الفارغ. قلتُ مبتسمةً: "نسيتُها في البيت."

ضحك وهو يتكئ على عكّازٍ وقدمٍ واحدةٍ وقال: وأنا زرعتُها هناك.

مشغرة

مروة رزق

تنهي شهادتها في علم النفس من الجامعة اللبنانية قريبًا.