نهاية اللعبة
20-02-2019

 

القصة لخوليو كورتاثار*

 

كنّا نلعب - أنا وأولاندا ولاتيشا - بمحاذاة سكّة قطار الأرجنتين المركزي خلال الأيّام الحارّة، متسلّلين عبر البوّابة البيضاء ما إنْ تَخلد الماما والخالة رُوث إلى قيلولتيْهما. كانت الماما والخالة رُوث دائمًا مُتعبتيْن بعد غسل الأواني، وبخاصّةٍ حين أتقاسم مع أولاندا مهمّةَ تنشيف الصحون. وهناك تحتدّ المشادّات: ملاعقُ على الأرض، وإشاراتٌ سرّيّةٌ لا يفهمها سوانا. وبشكلٍ عامّ، وفي جوٍّ تفوح منه رائحةُ الدهون، ويتصاعد فيه مواءُ القطّ خوزيه، وتسود عتمةُ المطبخ، تندلع مشادّاتٌ عنيفة، يتبعها هرجٌ ومرج. كانت أولاندا متخصّصةً في إثارة ذلك النوع من المشاجرات، كأنْ تُسقطَ كأسًا نُظّفتْ للتوّ في طشت المياه المتّسخة مثلًا، أو كأن تلقي تعليقاتٍ من نوع: "إنّ في منزل اللوزا، هذا، خادمتيْن فقط للقيام بجميع الأعمال." أمّا أنا فكانت لي أساليبُ أخرى في افتعال المشاكل: كأن ألمّحَ للخالة رُوث أنّ يديها سوف تصابان بالسماط إنْ واظبتْ على حفّ الطناجر بدلًا من المبادرة إلى غسل الأكواب أو الصحون من وقتٍ إلى آخر؛ وهو بالتحديد ما كانت الماما تفضّل القيامَ به. عندها، تشتعل مواجهةٌ صمّاءُ بينهما في الصراع على انتقاء الأعمال الأسهل.

أمّا الوسيلة الخارقة لافتعال المشاجرة، في حالِ بدء النصائح واسترجاعِ ذكريات العائلة المطوّلة المملّة، فقد كانت دلقَ الماء المغليّ على ظهر القطّ. إنّ مقولة "القطّ ذو الجلد المسموط" أكذوبةٌ كبيرة، وهي حقًّا كذلك، إلّا إذا أخذنا الإشارةَ إلى المياه الباردة بمعناها الحرفيّ، لأنّ خوزيه لم يحاول أبدًا تجنّبَ الماء الساخن، لا بل كان هذا الحيوانُ المسكينُ يبدو وكأنّه يسعى إلى التموضع تحته. فعندما نسكب نصفَ كوب من ماءٍ تبلغ حرارتُه مائةَ درجةٍ أو أقلَّ بقليل، أو ربّما أقلَّ بكثير، فإنّ وبره لم يكن ليتساقط أبدًا. الهدف الأساس هو إشعالُ طروادة؛ وفي خضمّ البلبلة - المتوَّجة بنوتة "سي بيمول"[1] مجلجلةٍ من الخالة رُوث وبمسارعة أمّي إلى البحث عن عصا العقاب - كنّا أنا وأولاندا نهرب بين الشرفات المسقوفة، إلى أن نبلغَ الغرفَ الخاليةَ في مؤخِّرة المنزل، حيث تنتظرنا لاتيشا وهي تقرأ [كتابًا لـ] بونسون دو تيرايْ، أو أيَّ كتابٍ آخر عصيٍّ على الفهم.

 

خوليو كورتاثار

 

في العادة، كانت أمّي تلحق بنا مسافةً لا بأسَ بها. لكنّ رغبتَها في تكسير جماجمنا سرعان ما تتبخّر. وفي النهاية (كنّا نقفل الأبوابَ ونتوسّل المغفرةَ بأصواتٍ تفيض بعواطفَ مسرحيّةٍ مُبالغٍ فيها)، كانت تتعب وتنسحب، مردّدةً العبارةَ نفسَها:

- سينتهي بكم الأمرُ في الشوارع، أيّتها الذرّيّةُ البائسة!

أمّا أين كان ينتهي بنا الأمرُ فعلًا، فهو عند سكّة قطار الأرجنتين المركزيّ، ما إنْ يروم الصمتُ فوق المنزل ونشاهد القطّ يتمدّد ليأخذَ هو أيضًا قيلولتَه تحت شجرة الليمون، التي تفوح منها العطورُ وطنينُ الدبابير. نفتح البوّابةَ البيضاءَ على مهل، وحين نعيد إغلاقَها نشعر وكأنّ ريحًا ما، حريّةً ما، تأخذنا من أيدينا، بل تأخذ كاملَ أجسادنا وتدفعُنا إلى الامام. نركض باحثاتٍ عن دفعةِ ريحٍ تساعدنا على تسلّق المنحدر الصغير المؤدّي إلى حافّة سكّة القطار، وكأنّنا نصعد إلى قمّة العالم لنتأمّل مملكتَنا بصمت.

هكذا كانت مملكتُنا: انعطافةً كبيرةً لسكّة الحديد، تنتهي بانحناءةٍ تمرّ بالضبط أمام الجزء الخلفيّ لمنزلنا. لم يكن هناك سوى حصًى، وروابطَ متصالبةٍ، ومساريْن من الحديد، وبعضِ الأعشاب الغبيّة التي نمَتْ بين مخلَّفات الصخور المبعثرة، حيث زجاجُ الميكا والصوّان والفلبار (وهي مكوّناتُ الغرانيت) تلمع كالماس الحقيقيّ تحت أشعّة شمس الثانية بعد الظهر. حين كنّا ننحني لنلامسَ خطَّي الحديد (دون تلكّؤ نظرًا إلى الخطر المحْدق هناك، إذ علينا توخّي الحذر، لا من خطر القطار بقدرِ ما نتوخّاه من خطرِ أن يرانا أحدٌ في المنزل)، كان لهيبُ الحصى يلفح وجوهنَا. وحين نواجه الريحَ الآتيةَ من ناحية النهر، نشعر بحرارةٍ مبلّلةٍ تلتصق بخدودنا وآذاننا. كنّا نحبّ أن نثنيَ أرجلَنا لنقرفص، ثم ننتصب مجدّدًا، ثم نقرفص، ثمّ ننتصب، ثم نقرفص مرّةً أخرى، متنقّلاتٍ من حيّزِ حرارةٍ إلى آخر، متأمّلاتٍ وجوهَ بعضنا بعضًا لنقيسَ مدى تصبّب العرق منّا، إلى أن نبتلّ بالعرق تمامًا. وكنّا دائمًا صامتاتٍ، ننظر إلى نهايات خطوط السكّة، أو إلى النهر على الجهة الأخرى، ذلك المقطعِ الصغيرِ من النهر الذي يكتسي بلون القهوة بالحليب.

بعد هذا الاستطلاع الأوليّ لمملكتنا، نتدحرج إلى أسفل المنحدر، ونتموضع تحت ظلال الصفصاف المبعثرة، بمحاذاة جدار منزلنا، حيث تنفتح البوّابةُ البيضاء. هنا، كانت عاصمةُ مملكتنا، مدينتُنا البرّيّة، ومركزُ لعبتنا. كانت لاتيشا، وهي أوّلُ مَن أطلق اللعبة، أسعدَنا نحن الثلاث، وأكثرَنا تمايزًا. فهي لم تكن تنشّف الصحونَ ولا ترتّب الأسرّة. بإمكانها قضاءُ يومها في القراءة أو تلصيق الصور، وفي الليل تستطيع السهرَ إلى أيّ ساعةٍ شاءت لو طلبتْ ذلك. ناهيكم بأنّها تتمتّع بغرفةٍ خاصّة، وحساءِ عظامٍ خاصٍّ بها، وبالكثيرِ من الامتيازات الأخرى. شيئًا فشيئًا، أخذتْ لاتيشا تستغلّ هذه الامتيازات، ومنذ الصيف الفائت بدأتْ تترأّس اللعبةَ، وفي اعتقادي المملكةَ كلَّها. على أيّ حال، ما إنْ تنطق بشيء حتى نوافقَها، أنا وأولاندا، من دون اعتراض، بل بسعادةٍ تقريبًا. قد يكون ذلك بسبب محاضرات أمّي الطويلة عن كيفيّة تعاملنا مع لاتيشا، أو ببساطة، بسبب حبِّنا الشديد لها، فلم نكن نتضايق من كونها رئيسةً علينا. للأسف، لم يكن لها مظهرُ الرئيسة؛ فهي أقصرُنا نحن الثلاثَ، ونحيلةٌ جدًّا. أولاندا نحيلةٌ هي أيضًا، وأنا لم أزنْ يومًا أكثرَ من خمسين كيلوغرامًا، لكنّ لاتيشا كانت أنحفَنا نحن الثلاث، والأسوأ أنّ هزالَها كان يَظْهر من بعيد، وخصوصًا في منطقة الرقبة والأذنين. ربما كان تصلّبُ ظهرها يجعلها تبدو أكثرَ هزالًا؛ فهي مثلًا تكاد لا تقدر على تحريك رأسها من جانبٍ إلى آخر، ما جعلها تشبه طاولةَ كيّ مغطّاةً بقماشٍ مبطّنٍ أبيض، كتلك الموجودة في بيت اللوزا؛ طاولةَ كيّ، طرفُها العريض في الأعلى، متّكئة على الحائط. وكانت تترأّسنا.

المتعة الكبرى كانت حين نتخيّل الماما والخالة رُوث وقد اكتشفَتا اللعبةَ ذاتَ يوم. فإنْ توصّلتا إلى اكتشاف اللعبة، فستقع كارثةٌ كبرى: السي بيمول، والإغماءات، واحتجاجاتُ الورع، والتضحيات غير المقدَّرة، واستحضارُ سلسلة العقوبات المحتفى بها، انتهاءً بإعلان التنبّؤ بمصيرنا البائس، وقوامُه: انتهاؤنا نحن الثلاث في الشارع. وكان الأمرُ الأخيرُ دائمًا ما يوقعنا في حيرة، لأنّ الانتهاءَ في الشارع كان يبدو لنا شيئًا عاديًّا جدًّا.

تبدأ لاتيشا بإجراء القرعة. نستعمل حصًى مخبّأةً في أيدينا، ونعدّ حتى الواحد والعشرين، أو أيّ نظام قرعةٍ كان. كنّا إذا استعملنا نظامَ العدّ إلى الواحد والعشرين، نتتخيّل وجودَ لاعبتين أو ثلاثٍ أخريات نضيفهنّ إلى اللعبة كي نصعّبَ حصولَ الغشّ. فإذا رسا رقمُ الواحد والعشرين على إحداهنّ، استثنياها من اللعبة، وبدأنا العدَّ من جديد، إلى أن تقع القرعةُ على إحدانا. حينها، نرفع - أنا وأولاندا - الصخرةَ ونفتح صندوقَ الحِلى.

وللعبة شكلان: تقمّصُ تماثيل، أو تقمّصُ مواقف. والمواقف لا تحتاج إلى الحِلى، بل إلى الكثير من التعابير الدقيقة:

فالحسد يتطلّب إظهارَ الأسنان، وتكويرَ اليد وإظهارَها كما لو كنتَ مصابًا بالهواء الأصفر. أمّا الإحسان، فالتعبيرُ الأمثلُ عنه هو وجهٌ ملائكيٌّ، العينان تنظران نحو السماء، واليدان منبسطتان تقدّمان شيئًا - خرقةً، كرةً، غصنَ صفصاف - إلى يتيمٍ مسكينٍ غيرِ مرئيّ. الخجل والخوف يَسْهل القيامُ بهما. أمّا الضغينة والغيرة فتتطلّبان دراسةً وتعمقًا.

الحِلى والزينة تُستعمل كلُّها تقريبًا في حالات التماثيل، وحريّةُ الاختيارات مطلقة. وكي يكتمل التمثال، يجب التفكيرُ مليًّا بكلّ تفاصيل الزيّ. تنصّ قواعدُ اللعبة على أنّ اللاعبة التي تقع عليها القرعةُ لا تستطيع المشاركةَ في اختيار الحِلى. تناقش اللاعبتان الأُخريان تفاصيلَ الموضوع وتقومان بوضع الحِلى. على الفائزة بالقرعة أن تخترعَ التمثالَ، مستفيدةً من الزيّ الذي أعدّتْه الأخريان. ولهذا تصبح اللعبةُ شديدةَ التعقيد والإثارة، إذ كثيرًا ما تكون الخططُ متضاربةً، بحيث تجد الضحيّةُ نفسَها مثقلةً بالحِلى العديمةِ الجدوى، ويصبح نجاحُها متوقّفًا على مهارتها في اختراع تمثالٍ جيّد. أمّا عندما تقوم اللعبةُ على تقمّص المواقف، فإنّ صاحبةَ القرعة تخرج بمظهرٍ مثير، عمومًا. لكنْ، في أحيان كثيرة، تكون لعبةُ التماثيل ذاتَ نتائج كارثيّة.

 لا أحد يدري متى بدأتْ هذه الحكايةُ التي أخبرُكم إيّاها، لكنّ الأمور تغيّرتْ في اليوم الذي أُلقيتْ فيه ورقةٌ من القطار. بالطبع، لم تكن لعبةُ التماثيل والمواقف من أجل تسليتنا فقط، وإلّا لكنّا أُصبنا بالملل منذ زمن. بحسب قوانين اللعبة، على الرابحة أن تقف عند حافّة المنحدر الصغير، مخلّفةً وراءها ظلالَ الصفصاف، وأن تنتظرَ قطارَ الثانية وثماني دقائق، القادمَ من التيغري. على ذلك الارتفاع فوق باليرمو، تمرّ القطاراتُ بسرعةٍ كبيرة، لذا لم نكن نخجل من تقمّص التماثيل والمواقف؛ فنحن نكاد لا نرى الناسَ من خلف النوافذ. لكنْ، مع الوقت، اكتسبنا خبرةً، وعرفنا أنّ بعضَ المسافرين أصبحوا يتوقّعون رؤيتَنا. أحدُ الرجال، بشعره الأبيض وإطار نظّارتيْه المصنوع من صدف السلحفاة، كان يمدّ رأسَه من النافذة، ويلوِّح للتمثال أو للموقف بمنديل. الأولاد العائدون من الثانويّة، الجالسون على عتبات العربة، يصيحون بأشياءَ حين يَعْبرون، لكنّ البعض كان يراقبنا بجدّيّة. أمّا صاحبة التمثال أو الموقف فلم تكن ترى شيئًا في الحقيقة، إذ كانت تركّز بشدّةٍ على توازنها وعدمِ الحركة. لكنّ الأُخريَيْن كانتا تُحلّلان، بكثيرٍ من التفاصيل، انبهارَ المسافرين أو لامبالاتَهم.

 

 

كان يومَ ثلاثاء عندما أُلقيتْ تلك الورقةُ، مع مرور العربة الثانية. سقطت الورقةُ قريبًا جدًّا من أولاندا - التي كانت في ذلك اليوم أكثرَنا تذمّرًا - لكنّها تدحرجتْ لترسو إلى جانبي. كانت الورقة الصغيرة مطويّةً بعناية، ومحشوّةً داخل حلقةٍ معدنيّة. وقد كُتب عليها، بخطّ يدٍ رجوليّ وسيّئ أيضًا:

"التماثيل حلوة جدًّا. أسافر بجوار النافذة الثالثة من العربة الثانية. آرييل ب."

وجدنا الرسالةَ جافّةً بعضَ الشيء، نسبةً إلى العناء الذي تَكلّفَه طيُّها وحشوُها وقذفُها. لكنّنا كنّا سعيداتٍ بها. أجرينا قرعةً لنرى مَن سيحتفظ بها، وفزتُ أنا. في اليوم التالي لم تكن أيٌّ منّا راغبةً في اللعب، وذلك لكيْ نستطيع مراقبةَ المسافرين لنرى كيف يبدو آرييل ب. هذا. لكنْ خشينا أن يسيء تفسيرَ انقطاعنا عن اللعب، فأجرينا قرعةً وفازت لاتيشا. فرحنا أنا وأولاندا كثيرًا لأنّ لاتيشا، المخلوقةَ المسكينة، تجيد أدوارَ التماثيل. لم يكن الشللُ ظاهرًا في وضعيّة الوقوف بثبات. ثمّ إنّه كان في مقدورها التعبيرُ عن الايماءات بكثيرٍ من النبل. في تقمّص المواقف، لطالما فضّلتْ ليتشا تقمّصَ الكرم، والورع، والتضحية، والزهد. أمّا في تقمّص التماثيل، فكانت تسعى إلى تقليد أسلوب فينوس، الموجودةِ لوحتُها في الصالون، وكانت الخالة رُوث تطلق عليها فينوس النيل. لهذا اخترنا زينةً خاصّةً لنقدّم إلى آرييل انطباعًا جيّدًا. ألبسناها قطعةً مخمليّةً خضراء على شكل غلالةٍ يونانيّة، ووضعنا تاجًا مصنوعًا من وريْقات الصفصاف على شعرها. ولمّا كنّا نرتدي أكمامًا قصيرة، فقد اكتسب المشهدُ طابعًا إغريقيًّا باهرًا. تدرّبتْ لاتيشا في الظلّ لبعض الوقت، وقرّرنا أن نَظْهر [أنا وأولاندا] أيضًا، ونحيّي آرييل بخفر، لكنْ بودّ.

كانت لاتيشا مذهلةً. لم تتحرّكْ قيد أنملة عندما مرّ القطار. ولمّا كانت لا تستطيع تحريكَ رأسها جانبيًّا، فقد ألقت به إلى الخلف، وفي الوقت نفسه ضمّت ذراعيْها إلى جسدها، كما لو أنْ لا ذراعيْن لها، فبدت - باستثناءِ لون الرداء الاخضر - مثلَ فينوس النيل تمامًا.

عبْر النافذة الثالثة، رأينا شابًّا بخصلاتٍ شقراء وعينين صافيتين يرسم ابتسامةً مشعّةً عندما لاحظ أولاندا وأنا نلوِّح له. عَبَرَ القطارُ في ثانية، لكنْ ها إنّها الرابعة والنصف وما زلنا نناقش إنْ كان يرتدي بذلةً غامقة، أو إنْ كانت ربطةُ عنقه حمراءَ، أو كان شكلُه شنيعًا أمْ ظريفًا! يومَ الخميس، قمتُ بإداء موقف "اليائسة." تلقّيْنا ورقةً أخرى تقول: "أحبّكم أنتم الثلاث كثيرًا. آرييل." وهذه المرّة أخرج رأسَه وذراعَه من النافذة ليحيّينا ضاحكًا. قرّرنا أنّه يبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا (كنّا متأكّدات أنّه لم يتجاوز السادسة عشرة)، وأقنعنا أنفسَنا أنّه يعود يوميًّا من مدرسةٍ إنكليزيّةٍ ما. أكثر ما كنّا متأكداتٍ منه أنّها مدرسةٌ إنكليزيّة، إذ لم نتقبّلْ أن تكون أيَّ مدرسة عاديّة. يمكنكم أن تروا أنّ آرييل كان خارقًا.

صودف أنّ أولاندا كانت محظوظةً جدًّا، وفازت لثلاثة أيّام متتالية. لقد تفوّقتْ على نفسها حين أدّت موقفَي "المؤنَّبَة" و"اللصّة،" وحين جسّدتْ تمثالَ راقصة باليه (الصعبَ جدًّا)، متوازنةً على قدمٍ واحدة، منذ أن ظهر القطارُ عند بداية المنعطف. في اليوم التالي ربحتُ أنا، وربحتُ مجدّدًا في اليوم الذي تلاه. وإذ تقمّصتُ موقفَ "الرّعب،" تلقّيتُ وريْقةً من آرييل، عبَرتْ أمام أنفي ولم نفهمْ فحواها في البداية. "أجملُكُنّ هي أكسلُكنّ." كانت لاتيشا آخرَ مَن استوعب. لاحظْنا احمرارَ وجنتيْها. انزوتْ جانبًا، بينما رحنا أنا وأولاندا نتبادل النظرات بقليلٍ من الغيظ. كان حُكمُنا الأوليّ أنّ آرييل أحمق، لكنّنا لم نستطع التصريحَ بذلك أمام لاتيشا - الملاكِ المسكين - نظرًا إلى كلّ النواقص [الجسديّة] التي كان عليها تحمّلُها. لم تقل شيئًا، لكنْ كان مفهومًا أنّ الورقة تخصّها، فاحتفظَتْ بها.

في ذلك اليوم عُدنا إلى البيت وقد اعترانا الصمت. في المساء لم نلعبْ معًا. على مائدة العشاء كانت لاتيشا سعيدةً جدًّا، وكانت عيناها تلتمعان. وتبادلت الماما نظرةً أو نظرتين مع الخالة رُوث تعبيرًا عن معنويّاتها المرتفعة هي نفسها. في تلك الأيّام كانوا يجرّبون طريقة جديدة لتقوية لاتيشا؛ وبالحكم على مظهرها فقد كان شعورُها بالارتياح نوعًا من المعجزة.

قبل أن نخلد إلى النوم، تحدّثنا انا وأولاندا في الأمر. لم تزعجْنا ورقةُ آرييل، ملقاةً من قطار، وكان لها أن تذهبَ في أيّ اتجاه. لكنْ بدا لنا أنّ لاتيشا كانت تستغلّ كثيرًا وضعَها التفضيليّ هذا، ضدّنا. كانت تدرك أنّنا لن نستطيع قولَ أيّ شيء. وفي بيتٍ يعاني أحدٌ فيه علّةً جسديّةً ما والكثيرَ من المكابرة، كان الجميع يتظاهر بعدم وجود تلك العلّة، وبأنّ أحدًا لا يعْلم ما يعْلمه الآخرون. لكنْ لا داعي للمبالغة؛ والطريقة التي كانت لاتيشا تتصرّف بها حول المائدة، وأسلوبُها في التحفّظ عن الوريْقة، كانا أكبرَ من أن يطاقا.

في تلك الليلة عاودتني الكوابيسُ المتعلّقةُ بالقطارات. كان الوقت فجرًا، وكنتُ أسير على شاطئ شاسع، حيث شبكاتُ سككٍ كثيفة وتقاطعاتٌ تبديليّةٌ محوطةٌ بالسياجات. من بعيد، رأيتُ أضواءً حمراء، لقطاراتٍ آتية، وانهمكتُ بتقدير إنْ كانت ستصدمني إذا انحرف القطارُ قليلًا إلى اليسار. وفي الوقت نفسه كنتُ مهدَّدةً باحتمال أن يدهسَني قطارٌ سريع من الخلف، أو بما هو أسوأ: أن ينحرفَ أحدُ القطارات عن مساره في اللحظة الأخيرة، فيتجاوز الرصيفَ ويعبرَ فوقي. لكنّني نسيتُ كلَّ ذلك في الصباح، إذ كانت لاتيشا تعاني آلامًا في كافّة أنحاء جسدها، وكان علينا مساعدتُها في ارتداء ملابسها.  بدا لنا أنّها كانت نادمةً بعض الشيء على ما حصل البارحة. وكنّا لطيفاتٍ معها، وقلنا لها إنّ تعبها ناجمٌ عن كثرة المشي، وإنّ من الأفضل لها أن تبقى في غرفتها تطالع. لم تقل شيئًا، بل جلستْ إلى مائدة الغداء. وحين سألتْها أمّي، أجابتها أنّها في حالةٍ جيّدة، وأنْ لا أوجاعَ البتّةَ في ظهرها. قالت ذلك وهي تنظر إلينا.

في تلك الظهيرة فزتُ أنا. لكنْ، في تلك اللحظة، لا أدري ما الذي جعلني أطلبُ من لاتيشا أن  تأخذ دوري، وطبعًا، من دون أن أشرح السّبب. وهو أنه يفضّل النظر إليها حتى تجهدَ عيناه. كانت القرعة من نصيب التماثيل، فاقترحنا شيئًا سهلًا كي لا نعقّد الحياة، فاخترعتْ لاتيشا تمثالَ أميرة صينيّة، يلفُّها الخجلُ، تنظر إلى الأرض وتعقد ذراعيها كما تفعل الأميراتُ الصينيّات. عندما مرّ القطار كانت أولاندا مُستلقيةً على ظهرها تحت شجيْرات الصفصاف، وكنتُ أراقب وأرى أنّ آرييل لا يملك عينين سوى لمشاهدة لاتيشا. بقي يحدِّق إليها حتى اختفى القطار خلف المنعطف، وبقيتْ لاتيشا من دون حراك، ولم تنتبهْ إلى الطريقة التي كان يتأمّلها بها. لكنْ حين جلسنا للاستراحة تحت الصفصافات اكتشفنا أنّها كانت تدرك ذلك، وأنّها سعيدةٌ بالزيّ بكامل جماله، طوال فترة الظهيرة وطوال الليل.

يومَ الأربعاء أجرينا القرعةَ بيني وبين أولاندا، لأنّ لاتيشا أخبرتنا أنّ من العدل أن تبقى خارج المنافسة. فازت أولاندا - ويا لحظّها العاثر. لكنّ بطاقةَ آرييل استقرّت إلى جانبي. حين التقطتُها خطر لي أن أقدّمَها إلى لاتيشا، التي لم تقل شيئًا.عير أنني فكّرتُ أنْ ليس من واجبي فعلُ كلّ شيء من أجل إرضاء الآخرين. فضضتُ البطاقةَ على مهل. كتب آرييل أنّه في اليوم التالي سوف ينزل في المحطّة المجاورة وسيأتي إلى الساتر الترابيّ للتحدّث قليلًا. كان خطّ الكتابة مروّعًا، لكنّ الجملة الأخيرة صيغت بشكلٍ أنيق: "خالص التحيّات إلى التماثيل الثلاثة." بدا التوقيع أشبهَ بخربشة، لكنّنا علّقنا على شخصيّة صاحب خطّ كهذا.

بينما كنّا ننزع الزينةَ عن أولاندا، رمقتني لاتيشا بنظرةٍ أو نظرتين. قرأتُ لهما الرسالة ولم يعلّقْ أحد، وذلك شيء مزعج لأنّ آرييل سيأتي أخيرًا ومن المتوقَّع أن يُثير هذا التطوّرُ الجديدُ نقاشًا ويتطلّب اتخاذَ قرارٍ ما. فإنْ اكتشف مَن في المنزل الأمرَ، ويا لَلفضيحة؛ إنْ تجسّستْ إحدى بنات عائلة لوزا - أولئك القزمات الحاسدات - فسنكون بالتأكيد في ورطة كبيرة. كان من النادر أن يخيّم الصمتُ المطبق على أمر كهذا. ومن دون أن ننظرَ بعضنا إلى البعض، قمنا بتوضيب الزينة، وعُدنا إلى البوّابة البيضاء.

أوكلَتِ الخالةُ رُوث إليّ وإلى أولاندا مهمّةَ غسل خوزيه، وأخذتْ لاتيشا إلى جلسة العلاج، فصار في وسعنا أخيرًا أن نفضفض على راحتنا. بدا لنا أنّ حضورَ آرييل شيءٌ مذهل. لم يسبق أن كان لنا صديقٌ كهذا؛ إذ لا يمْكننا تصنيفُ ابن عمّنا تيتو صديقًا مثله - - فهذا الغبيّ يتلهّى بقصقصة الألعاب من الورق وما زال يؤمن بالعمادة الأولى. كان الانتظار يوتّرنا، وخوزيه - ذلك الملاك المسكين - يدفع الثمن. كانت أولاندا أشجعَنا، وفاتحتْ لاتيشا بالموضوع. كنتُ مشتّتة ولا أدري كيف أفكّر. فمن ناحية، أجد من المروِّع أن يكتشف آرييل كلّ شيء، لكنني أيضًا أعتقد أنّ من العدل أن تتكشّف الأمورُ على حقيقتها وأن لا تُعرِّض إحدانا نفسَها للضرر دفاعًا عن أخرى. ما أريده حقًّا هو أن لا تُصابَ لاتيشا بالأذى؛ فلديها ما يكفيها من آلامٍ الآن مع العلاج الجديد والأشياء الأخرى.

في تلك الليلة كانت الماما مُنذهلةً لرؤيتنا هادئات، وقالت: "يا للمعجزة، هل أكلَت الفأرةُ ألسنتكنّ؟" ثم تبادلت النظراتِ مع الخالة رُوث وفكّرت الاثنتان أنّنا قد اقترفنا ذنْبًا كبيرًا بالتأكيد، ولا بدّ من أنّ ضمائرنا تؤنّبنا. لم تأكل لاتيشا سوى القليل وقالت إنّها موجَعة، واستأذنتْ بالذهاب إلى غرفتها لتقرأ روكامبولي. أعطتها أولاندا ذراعَها - وإنْ لم تكن راغبة كثيرًا في ذلك - وبدأتُ أنا بالتطريز؛ فذلك ما أفعله حين أكون متوتّرةً. خطر لي مرّتيْن أن أذهب إلى غرفة لاتيشا؛ لا أفهم ماذا تفعل هاتان الاثنتان وحدهما هناك، لكنّ أولاندا عادت وعلى محيّاها نفحةٌ من الجدّيّة البالغة وجلستْ إلى جانبي من دون أن تقول شيئًا. إلى أن قامت الماما والخالة رُوث لتنظيف المائدة. "لن تذهبَ في الغد. لقد كتبتْ رسالة وقالت إذا سأل الكثير من الأسئلة، فعلينا إعطاؤه إيّاها." أفرجتْ قليلًا عن جيب قميصها لتريني مظروفًا بنفسجيًّا. ثم نودينا لتنشيف الصحون. في تلك الليلة نمنا في الحال، متعبتيْن من كلّ ما جرى، ومن غسل خوزيه.

في اليوم التالي، كان عليّ الذهاب للتبضّع في السوق، ولم أشاهدْ لاتيشا طوال الصباح حيث كانت في غرفتها. قبل دعوتنا إلى تناول الغداء، ذهبتُ إلى غرفتها للحظة، فوجدتُها إلى جانب النافذة، مع كثير من المخدّات، وروايةٍ جديدةٍ عن روكامبول. كان واضحًا أنّها لم تكن تشعر بالارتياح، لكنّها بدأتْ بالضحك وأخبرتني عن نحلةٍ لم تستطع إيجادَ طريقها للخروج، وعن حلم ظريف حلمتْ به. أخبرتها أنّه سيكون أمرًا محزنًا جدًّا ألّا تستطيع الذهابَ إلى الصفصافات، لكنّني لم أجد طريقةً لطيفةً لقول ذلك. "إنْ ترغبين، نستطيع أن نخبرَ آرييل بأنّكِ تشعرين بالدوار،" اقترحتُ ذلك عليها، لكنّها قالتْ "لا" وصمتتْ. ألححْتُ قليلًا بأن تأتي، ثمّ تصنّعتُ بعضَ الابتهاج وطلبتُ إليها ألّا تخافَ، مستخدمةً الحكمةَ التي تقول إنّ الحبّ الحقيقيّ لا يعرف العوائق، وأضفتُ حِكَمًا دسمةً أخرى تعلّمناها من كتاب كنوز الصّبا. لكنْ بدا من الصعب قولُ المزيد لأنّها كانت تسرح بنظرها خارج النافذة، وبدت كأنّها تهمّ بالبكاء. أخيرًا قلتُ إنّ الماما تحتاجني.

بدت فترةُ الغداء كأنّها أيّام. تلقّتْ أولاندا صفعةً من الخالة رُوث لتلطيخها شرشفَ الطاولة بصلصة المعكرونة. أكاد لا أذكر كيف قمنا بتنشيف الصحون. وسرعان ما صرنا تحت الصفصافات. وفجأةً بدأنا العناقَ فرحًا، ولم تغر إحدانا من الأخرى. شرحتْ لي أولاندا كلَّ ما يتوجّب قولُه عن دراستنا لنعطي آرييل انطباعًا جيّدًا، لأنّ طلّابَ الثانويّة يزدرون الفتيات اللواتي لم يتخطّين الصفوفَ الابتدائيّة ولم يدرسن سوى التدبير المنزليّ وحياكةِ الصوف وإتقانِ القطَب النافرة. عندما عبَر القطارُ في تمام الثانية وثماني دقائق لوّح آرييل بذراعيه بحماسة، وبمناديلنا المطرّزة رسمنا علاماتِ الترحيب. بعد عشرين دقيقةً رأيناه يصل المنحدر. كان أطولَ ممّا تخيّلناه، ويرتدي بذلة رماديّة كاملة.

حسنًا، لا أذكر عمّا تحدّثنا في البداية. كان خجولًا جدًّا، على الرغم من أنّه بادر بالمجيء، ورمى القصاصات الورقيّة، وقال أشياء متعقّلة. في الحال، امتدح كثيرًا تماثيلَنا ومواقفَنا، وسأل عن أسمائنا ولماذا تغيّبت الثالثة. شرحتْ أولاندا أنّ لاتيشا لم تتمكّن من الحضور، فقال يا لها من خسارة، وأضاف أنّ لاتيشا اسمٌ فتّان. ثم حدّثَنا عن الثانويّة المهنيّة، التي للأسف لم تكن إنكليزيّة، وطلب أن نريه أدواتِ الزينة. أزاحت أولاندا الصخرةَ ودعوْناه إلى رؤية الأشياء. بدا مهتمًّا جدًّا، وأكثرَ من مرّة تناول إحدى الأدوات وعلّق: "إنّ لاتيشا استخدمتْ هذا يومًا ما،" أو "هذا كان جزءًا من تمثال الآسيويّة" - وكان يقصد الأميرةَ الصينيّة. جلسْنا في ظلّ صفصافة، وبدا سعيدًا لكنْ مشتّتًا، وبإمكانكم أن تروْا أنّه كان يُظهر حسنَ تربيته وتهذيبه. نظرتْ أولاندا إليّ مرّتين أو ثلاثًا حين سقطت المحادثةُ في لجّة الصمت؛ وهذا ما أوقعنا في الحرج، وجعلنا نرغب في الخروج من هذا الوضع، وتمنّينا لو لم يأتِ آرييل قطّ. سأل مرّةً أخرى إن كانتْ لاتيشا مريضة، ونظرتْ أولاندا إليّ وظننْتُ أنّها ستخبره، لكنّها غيّرتْ جوابَها إلى أنّها "لم تتمكّن من المجيء." رسم آرييل بغصنٍ صغيرٍ أشكالًا هندسيّةً على الأرض، بينما كان ينظر بين الفينة والأخرى إلى البوّابة البيضاء. أدركنا ما كان يدور في رأسه، ولهذا كانت أولاندا على صواب حين سحبت المظروفَ البنفسجيّ وناولتْه إيّاه. وقف مندهشًا والمظروفُ في يده؛ ثم احمرّتْ وجنتاه حين شرحنا له أنّ هذا مرسلٌ من لاتيشا. وضع المظروفَ في جيب سترته الداخليّ من دون أن يرغب في قراءة محتواه أمامنا. وعلى الفور تقريبًا قال إنّ من دواعي سروره أن يكون اللقاءُ قد تمّ، وإنّه سعيد لأنّه أتى. لكنّ يده كانت رخوةً وغيرَ ودودة، بما يشي بأنّه سيكون من الأفضل إنهاءُ اللقاء. لكنّنا لاحقًا لم نفكّر سوى بعينيه الرماديّتين وبطريقة ابتسامته الحزينة. وتوافقنا أيضًا على أنّ الطريقة التي أطلق فيها عبارةَ الوداع، "إلى الابد،" وهي طريقة لم نسمع بها في منزلنا من قبل، قد بدت لنا ملائكيّةً وشاعريّة.

أخبرْنا لاتيشا كلَّ ذلك. كانت تنتظرنا تحت شجرة الليمون عند المصطبة. تردّدتُ في سؤالها عمّا كتبتْه في بطاقتها، لكنّني قرّرتُ أن لا أفعل لأنها كانت قد ختمت المظروفَ قبل تسليمه إلى أولاندا، لذلك لم أقل شيئًا، وتحدّثنا عن آرييل فقط، وكم مرّةً سأل عنها. لم يكن ذلك شيئًا سهلًا لأنّ ما حصل كان جميلًا وسيّئًا في الوقت ذاته. ولاحظنا كيف أنّ لاتيشا كانت سعيدةً جدًّا، وفي  الوقت ذاته تكاد تبكي. إلى أن قرّرنا أنّ الخالة رُوث تستدعينا، وتركنا لاتيشا تتأمّل الدبابيرَ في شجرة الليمون.

عندما خلدنا إلى النوم في تلك الليلة قالت لي أولاندا: "سوف تريْن أنّ اللعبة قد انتهت بدءًا من صباح الغد." لكنّها كانت مخطئة، وإنْ لم يكن بالمطلق. وفي اليوم التالي أعطتْنا لاتيشا الإشارةَ المعتادة عندما حان وقتُ تناول الحلوى. خرجنا لغسل الصحون، يعترينا الكثيرُ من الذهول وبعضُ الغيظ، لأنّ في تصرّف لاتيشا شيئًا من الاستهتار وما كان يجب أن يحصل. كانت تنتظرنا عند البوّابة، وكدنا نموت من الهلع حين بلغْنا شجراتِ الصفصاف وسحبتْ من جيبها عقدَ ماما اللؤلؤيّ وجميعَ خواتمها، بما في ذلك خاتمُ الخالة رُوث الكبير المرصّعُ بالياقوت. لو رأتْنا إحدى بنات اللوزا - أولئك المقْرفات الصغيرات - مع كلّ تلك المجوهرات، لعلمت الماما في الحال ولقتلتنا. لكنّ لاتيشا لم تكن خائفةً وقالت إنّها ستتحمّل كاملَ المسؤوليّة لو اكتُشف الأمر. "أريدكما أن تتركا الأمور لي هذا اليوم،" أضافت من دون النظر إلينا. أخرجنا المجوهراتِ في الحال، وتغيّرنا فجأةً وأردنا أن نكون لطيفتين جدًّا مع لاتيشا، وأن نفعل كلَّ ما يسعدها مع أنّنا في أعماقنا كنّا ما نزال نشعر بالضغينة. وقعتْ قرعةُ اللعبة على التماثيل، واخترنا أشياءَ فاتنةً تناسب المجوهرات: الكثيرَ من ريش الطاووس لتزيين الشعر، كساءً من الفرو الذي يبدو من بعيد وكأنّه ثعلبٌ فضّي، ووشاحًا ورديًّا ارتدتْه على شكل عمامة. رأيناها تسهب في التفكير وهي تتدرّب على وضعيّة التمثال من دون الإتيان بأيّ حركة. وعندما أطلّ القطار عند أول المنعطف كانت تثبّت قدَمَها على حافّة المنحدر، وكلُّ المجوهرات تلتمع تحت أشعّة الشمس. رفعتْ ذراعيها كأنّها تستعدّ لأداء موقفٍ ما، بدلًا من تقمّص تمثال. وبيديها أشارت نحو السماء، وهي تلقي برأسها إلى الخلف؛ وهذه هي الحركة الوحيدة التي يمكنها الإتيانُ بها، المسكينة. ثنت ظهرَها إلى الخلف كثيرًا حتى أصابنا الذّعرُ. بدا لنا ذلك مدهشًا، وبدا التمثالُ أكثرَ جلالًا من أيّ عملٍ آخر قامت به. ثم رأينا آرييل ينظر إليها، يطلّ من النافذة وينظر إليها فقط، يدير رأسَه لينظر إليها، من دون أن يرانا. إلى أن حمله القطار فجأةً بعيدًا عن رؤيتنا خلف المنعطف.

لا أدري لماذا ركضنا، كلتانا، في اللحظة نفسها، لنُسند لاتيشا، التي كانت لا تزال تغلق عينيْها، ودمعاتٌ كبيرةٌ تغطّي كامل وجهها. دفعتنا عنها، لكنْ من دون غضب. لكنّنا ساعدناها في إعادة المجوهرات إلى جيبها. دخلت المنزل، بينما رحنا نجمع أدواتِ الزينة في الصندوق. كنّا نعلم تقريبًا ما سوف يحدث، ومع ذلك توجّهنا في اليوم التالي إلى شجرات الصفصاف، بعد أن فرضت الخالة رُوث صمتًا تامًّا كي لا نزعج لاتيشا التي كانت متعَبةً وأرادت أن تنام. عندما وصل القطار رأينا، من دون أيّ استغراب، أنّ العربة الثانية كانت خالية. وإذ تبادلنا الابتساماتِ بين الشعور بالارتياح والشعور بالغضب، كنّا نتخيل آرييل مسافرًا على الجانب الآخر من عربة القطار، ساكنًا في مقعده، ينظر إلى النهر بعينيه الرماديّتين.

* خوليو فلورينثيو كورتاثر ديسكوتي: مفكر أرجنتينيّ وكاتبٌ ومترجم، ولد في مقاطعة إكسيل، بروكسل، عاصمة بلجيكا في 26 آب/أغسطس سنة 1914. يعدُّ أحد أكثر كتّاب القرن العشرين تجديدًا وأصالة، كما يُعتبر أحد روّاد القصة القصيرة والنثر الشعري والسرد القصير. كتب مجموعة من الروايات التي بدأت أسلوبًا جديدًا لصناعة الأدب المكتوب باللغة الإسبانيّة. فنجدُ أنّ محتوى أعماله يمحو كل الفواصل بين عالم الحقيقة والخيال وذلك عادة ما يرتبط بالسريالية. توفي في باريس في 12 شباط/فبراير سنة 1984.

[1] أعلى نوتة في السلّم الموسيقيّ.

محمد منصور

كاتب ومترجم فلسطينيّ، يقيم في لبنان.