أنتَ هنا. لم ترحل.
منذ ذلك اليوم الكئيب الذي ذرفْنا فيه ذكرياتِنا وإيمانَنا وقيمَنا ونضالَنا دموعًا، وأنا مُتعَبة، خائفةٌ على ماضٍ تَرْحل رموزُه من دون أنْ يأتيَ من يملأ فراغَ الغياب. ربّما هذا الخوفُ أرجعَكَ، فأحَطْتَنا، كما كنتَ تفعلُ دائمًا، بدائرةٍ من الدفء. بقيتَ تسهرُ على يقظتنا لكي لا نستغرقَ في نوم الاستسلام. ابتسامتُك الساخرة والمحبّة ما زالت هنا. هي نفسُها التي كنتَ تواجه بها مشاكلَنا وتساؤلاتِنا.
في لقاءاتنا العاصفة التي كنّا نناقش خلالها أزماتِنا وخياراتِنا الحزبيّةَ والنضاليّة، كنتَ الهادئَ الوحيد. تفْهم، تتفهّم، تشجِّع، تروي ذكرى مرتبطةً بما نتداوله، تعيدُنا إلى حيّز الهدوء الضروريّ لجلاء الأفكار، وتقدِّم النصحَ، حاثًّا إيّانا على المضيّ قدمًا، بوعي القائد الذي يدرك أنّ الخوفَ من الإقدام هو الخطرُ الأكبر، وأنّ الخطأ - أيَّ خطأ - لا يشكّل خطرًا على المؤمنين الحقيقيين.
ما أكثرَ الدروسَ التي تلقّيتَها فأصبحتَ على ما أنتَ عليه، وما أصعبَها! كنتُ أسألكَ عنها كثيرًا، فلا ألقى إلّا القليلَ من الأجوبة. أمازحُكَ متسائلةً عن جدوى السرّيّة بعد مرور كلّ تلك السنين، فتبتسم، وأدركُ أنّكَ مناضلٌ لا يقبع في ماضي البطولات، بل يعرف كيف يكونُ ابنَ اليوم والغد، ويبقى بطلَ الأزمنة التالية.
أبحثُ عن كلمةٍ تقول تواضُعَكَ أكثرَ من التواضع، فلا أجدُ إلّا الكِبَرَ الذي يغدو طبيعةً. وحده الكبيرُ يعرف كيف يحثّ مَن حولَه على ألّا يكونوا إلّا كبارًا. هكذا كنتَ مع زينب الزوجة والحبيبة، وهكذا شجّعتَها على نبذ كلِّ خشيةٍ والتحليقِ نحو الأعلى، مرّةً بعد أخرى. وهكذا ساعدْتَني، أنا الصديقة الروائيّة المُتعَبة في وطنٍ نَبَذَ القراءةَ واستَبعد الكتّابَ المتمسّكين بالكتابة عن الظلم اللاحق ببلادهم. اتصلتَ بي لتخبرني عن مدى إعجابك برواية الخطايا الشائعة، فاستغللتُ الفرصةَ لأخبرَكَ عن رغبتي في زيارة المخيّمات الفلسطينيّة تحضيرًا لكتابة رواية عنها، تلك التي ستَحمل عنوان: مفتاحٌ لنجوى. تبعتُكَ في الأزقّة الضيّقة، واستمعتُ إلى شروحِكَ المقتضبة وتحليلاتِكَ الواقعيّة. دخلتُ وراءك إلى المنازل، فرُحتَ تُحيّي الواحدَ، وتسأل عن صحّة الآخر أو دروسِه، ناشرًا طاقتَكَ الإيجابيّةَ حيث تحلّ.
بيتُكَ المفتوحُ لأصدقائك يفوح منه عطرُ المحبّة التي كنتَ تستقبلُنا بها، مساهمًا في تحضير الطعام، معلّمًا الأولادَ صيدَ السمك. كيف سنسمعُ بعد اليوم أيَّ أغنيةٍ من التراث الفلسطينيّ من دون أن نبكي؟ أنتَ مَن فتحتَ أمامنا الأبوابَ المؤدّيةَ إلى كلّ تلك الكنوز.
***
في زيارتنا الأخيرة، كنتَ، وقد أنهككَ المرض، تخبرنا عن الكبّة التي تحمل نكهةَ قريتك الفلسطينيّة، سحماتا، فختمتَ حديثَكَ ببساطةٍ رائعة: "رح نرجع."
وغدًا، عندما نرجع، سنحملُ صورتَكَ ونجولُ في الشوارع التي لم تغادرْكَ يومًا. إبقَ هنا يا ماهر. سنرجعُ معًا.
الهرمل