طوال 72 عامًا عاشت القضيّةُ الفلسطينيّة في قلب كلّ فلسطينيّ في الوطن المحتلّ والشتات، وقدّمتْ على محرابها أكثرَ من 100 ألف شهيد وملايين الجرحى والأسرى، فضلًا عن معاناةٍ عميقةٍ متجذّرةٍ في كل زاروبٍ ومخيّمٍ ومدينة. وتحوّلت العودةُ إلى أيقوناتٍ على الصدور وفي القلوب.
قبل الإعلان عن "صفقة القرن،" انشغل معظمُ المتابعين والسياسيين والمترقّبين لهذه المؤامرة "الكبرى" بوضع تصوّراتٍ لها، لكنْ من دون وضع آليّاتٍ واقعيّةٍ وعمليّةٍ لمواجهتها. وبعد طول انتظار، كُشف عن "خطّة السلام،" فإذا هي قد كرّست الأمرَ الواقع، وجرّدت الفلسطينيين من المزيد من الحقوق - - على مستوى قضم الأراضي، والسيطرةِ على القدس بأكملها، والتخلّصِ من اللاجئين، وغيرِ ذلك. ودفعتْنا متأخّرين إلى البحث عن خطواتٍ وآليّاتٍ للمواجهة.
في ما يخصّ اللاجئين تحديدًا، ذكرت خطّةُ ترامب ما يأتي: "يجب أن ينصّ اتفاقُ السلام الإسرائيليّ - الفلسطينيّ على إنهاء جميع المطالبات المتعلّقة بوضع اللاجئين أو المهاجرين، ولن يكون هناك حقٌّ في العودة أو استيعابٌ لأيّ لاجئٍ فلسطينيٍّ في دولة إسرائيل." كذلك تضمّنت الخطّةُ "ثلاثةَ خياراتٍ" للّاجئين الفلسطينيين الذين يبحثون عن مكان إقامةٍ دائم: الاستيعاب في دولة فلسطين (المحدَّدة في الخطّة) وفقًا لشروطٍ محدّدة، أو الاندماج المحلّيّ في البلدان المضيفة الحاليّة، أو إعادة التوطين في إحدى الدول الأعضاء في منظّمة التعاون الإسلاميّ. وجاء أيضًا أنّه على الرغم من أنّ تعويضَ اللاجئين أمر مهمّ ومرغوب فيه، فإنّ الولايات المتحدة ترى أنّ تأثيرَ الأموال سيكون أكبرَ بكثيرٍ في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لدولة فلسطين، وفي اللاجئين أنفسهم، إذا ما استُخدمتْ لتنفيذ الخطّة الاقتصاديّة. وأشارت إلى أنّ دولة فلسطين ستتلقّى مساعدةً كبيرةً لتطوير جميع المجالات الاقتصاديّة وقطاعات البنية التحتيّة، وأنّ المملكة الأردنيّة الهاشميّة "التي دعمتْ بشكلٍ رائعٍ اللاجئين الفلسطينيين ستحصل كذلك على فوائد" من الخطّة الاقتصاديّة. أما اللاجئون الفلسطينيون "المقيمون بالفعل في دولة فلسطين، وأولئك الذين سينتقلون إليها، فسيكونون مستفيدين بشكلٍ مباشرٍ من حزمة المساعدات والاستثمار الواسعة النطاق."[1]
وبذلك، تكون "إسرائيل" قد تخلصتْ نهائيًّا من اللاجئين الفلسطينيين، ومن حقّ العودة، ومن وكالة غوث اللاجئين وتشغيلهم (الأونروا)، من دون أدنى اعتبار لـ 6 ملايين لاجئ فلسطينيّ في غزّة والضفّة ولبنان والأردن وسوريا ومصر والعراق وغيرها، ولا لمصيرهم أو مستقبلهم. بل أكثر من ذلك: تضمنّت الخطّة التعويضَ "لليهود اللاجئين" من الدول العربيّة، وكأنهم أتوْا عنوةً إلى فلسطين، لا وفقًا لمخطّط صهيونيّ استعماريّ خبيث!
أوّلًا: على المستوى السياسيّ
لا يختلف اثنان على أنّ من أهمّ أهداف التدخّلات الغربيّة في الشرق الأوسط خلال سبعة عقود "حلَّ" المعضلة الكبرى في القضيّة الفلسطينيّة، ألا وهي: ضمانُ التخلّص من مسألة اللاجئين بإلغاء حقّ العودة، وذلك عبر سيناريوهاتٍ تبدّلتْ وتنوّعتْ عدّة مرّات بتبدّل الحالة السياسيّة.
ولا شكّ في أنّ "الحلول" التي كانت مطروحةً نظريًّا جاءت من دولٍ تريد تكريسَ الاحتلال الصهيونيّ لفلسطين - - كالولايات المتحدة، بإدارتيْها الديمقراطيّة والجمهوريّة (بدءًا من مبادرة رودجرز عام 1970 وصولًا إلى "صفقة ترامب" اليوم)، والاتحاد الأوروبيّ (الذي لم يتوقّفْ عن إطلاق إشاراتِ تأييدٍ ومساندةٍ للسياسات الأمريكيّة وإداراتها المختلفة).
أمّا بالنسبة إلى الجانب الفلسطينيّ الرسميّ، المُصابِ بـ"فيروس استئناف المفاوضات،" فإنّ حقَّ العودة بات يقع في أسفل القضايا التي يطرحها للنقاش والتفاوض، وذلك بعد أن نجح المفاوضون الصهاينة في الوصول إلى هذا الأمر خلال عقديْن من المفاوضات العبثيّة. وبدلًا من حقّ العودة أحلّت العمليّةُ "التفاوضيّةُ" وقفَ الاستيطان؛ لكنّ بؤرَ الاستيطان زادت أضعافَ ما كانت عليه عند انطلاق هذه العمليّة سنة 1990! واللافت أنّ التنازل عن حقّ العودة بدأ مقابل موافقة الغرب على إنشاء دويْلة فلسطينيّة في القطاع والضفّة من دون القدس، لكنّ هذه الدويْلة نفسَها لم ترَ النور!
لقد أدركتْ قيادةُ العدوّ الصهيونيّ أنّ إسقاطَ حقّ العودة مرتبطٌ بالاعتراف بالكيان الصهيونيّ دولةً يهوديّةً. وعلى الخلفيّة ذاتها، وجدتْ بعضُ الدول العربيّة أنّ الفرصة متاحةٌ لإغلاق الملفّ الفلسطينيّ، وإقامةِ سلامٍ مع الكيان الصهيونيّ عبر التطبيع السرّيّ والعلنيّ معه. وقد بدأتْ بوادرُ ذلك مع الأحداث التي شهدتها المنطقةُ في العقديْن الأخيريْن بشكلٍ خاصّ، ولا سيّما مع تأجيج النعرات الطائفيّة في العراق ولبنان، وصولًا إلى الأحداث الدمويّة في سوريا، والسعي الدائم إلى "ترتيب الأمور" على أساس هذه التغييرات، خدمةً للكيان الصهيونيّ، وتكريسًا لسياسة القطب الواحد الذي تقوده الولاياتُ المتحدة وحلفاؤها في أوروبا والعالم العربيّ.
أهمّ الإجراءات التي طبّقتها الولاياتُ المتحدة في هذا الصدد كان وقفَ مساهمتها في وكالة الغوث (الأونروا)، وهذه المساهمة تتجاوز 50% من ميزانيّة الوكالة؛ الأمرُ الذي ترك أثرًا بالغًا في مختلف البرامج، خصوصًا برامج التعليم والصحّة والأغاثة، وأدخل الأونروا في نفقٍ مظلمٍ لغاية اليوم.
أمّا عند الحديث عن "الدولة الفلسطينيّة،" فإنّ الصفقة لا تشير من قريبٍ ولا من بعيدٍ إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم (ولا إلى مدينة القدس التاريخيّة). وأصلًا، فإنّ قيام هذه الدولة كما ورد في "الخطة" يَحْكم بالموت على قضيّة اللاجئين.
صفقة القرن لا تشير إلى عودة اللاجئين إلى ديارهم
كذلك يجب الاعتراف بأنّ الانقسام الفلسطينيّ المستمرّ منذ نحو 16 عامًا، وتراجُعَ الاهتمام العربيّ بالقضيّة الفلسطينيّة لمصلحة "قضايا محلّيّة،" والإصرارَ الرسميّ والفصائليّ الفلسطينيّ على التفكير السياسيّ التقليديّ، وعدمَ القيام بتقويم حقيقيّ وواقعيّ للسياسات والعلاقات الفلسطينيّة الداخليّة والعربيّة – الفلسطينيّة؛ كلّ ذلك أوصلنا إلى تدهورٍ مريعٍ في أسس القضيّة الفلسطينيّة وروافعِها، وبخاصّةٍ حقّ العودة.
ثانيًا: على المستوى القانونيّ
نشأتْ قضيّةُ اللاجئين الفلسطينيين مع الإعلان عن القرار الدوليّ رقم 181 في 29/11/1947، وقضى بتقسيم فلسطين إلى دولتيْن، عربيّة ويهوديّة. نفّذتْ بريطانيا وعدَ بلفور لليهود بمنحهم فلسطينَ لإقامة دولتهم عليها، ولعبت الولاياتُ المتحدة دورًا محوريًّا في الضغط على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لتمرير قرار التقسيم، إذ استثمرتْ نتائجَ الحرب العالميّة الثانية لثبيت فكرة قيام كيان صهيونيّ في فلسطين.
تراوح عددُ اللاجئين الذين طردتهم "إسرائيل" بعد قيامها في 15/5/1948 ما بين 700 إلى 800 ألف فلسطينيّ، أصبحوا اليوم أكثرَ من 5 ملايين. وقد سيطرت المملكةُ الأردنيّة الهاشميّة على الضفّة الفلسطينيّة، كما هو معروف، وشكّلتْ مصرُ إدارةً عسكريّةً أشرفتْ على قطاع غزّة المكتظّ باللاجئين الفلسطينيين، وأعيدَ "تنظيُم" مَن لجأوا إلى الدول العربيّة المجاورة في مخيّماتٍ وتجمّعاتٍ سكنيّةٍ خاصّةٍ بهم.
بعد ذلك صدرتْ قراراتٌ دوليّةٌ كثيرة، أهمُّها القرار 194 (كانون الثاني 1948) الذي نشأتْ على أساسه وكالةُ الأونروا. وتحوّل القرار 194 إلى الأساس القانونيّ لحقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم؛ فهو يستند إلى مبادئ القانون الدوليّ، ويشكّل اعترافًا من المجتمع الدوليّ بذلك الحقّ. كذلك الأمر بالنسبة إلى القرار 237 (الصادر عن مجلس الأمن الدوليّ في 4/6/1967)، القاضي بعودة الذين هُجّروا ونزحوا أثناء حرب 1967.
تعاطت "إسرائيل" مع موضوع اللاجئين الفلسطينيين على قاعدة عدم الاعتراف بمسؤوليّتها عن مأساتهم، والتهرّبِ من تنفيذ حقّ العودة إلى ديارهم وفقًا للقوانين الدوليّة المذكورة آنفًا. وراحت تطرح "مخاوفَ" على أمنها قد تنشأ جرّاء عودةِ مَن هُجّروا من فلسطين، بل مخاوفَ أيضًا ممّن بقوا ومُنحوا الجنسيّةَ الإسرائيليّةَ، ومنهم سكّانُ قريتيْ اقرث وكفر برعم. كما أبدت مخاوفَها من تزايد السكّان العرب الفلسطينيين الواقعين تحت سيادتها. لذلك كان الهمُّ الصهيونيّ دائمًا هو التخلّصَ نهائيًّا من قضيّة اللاجئين الفلسطينيين من أجل الإعلان عن يهوديّة الدولة.
ما العمل؟
انّ حماية اللاجئين الفلسطينيين يجب أن تكون خطَّ الدفاع الأوّل عن القضيّة الفلسطينيّة، وذلك من خلال:
أوّلًا، الحفاظ على الأونروا باعتبارها الشاهدَ على مأساة اللاجئين، ووضع خطّة عمل استراتيجيّة لضمان استمرارها، خصوصًا لجهة إيجاد مصادر تمويل طويلة الأجل لبرامجها ونشاطاتها في قطاع غزّة والضفّة ولبنان وسوريا والأردن، ولاسيّما برامج التعليم والصحّة والإغاثة؛ على أن تؤدّي المؤسَّسات والهيئاتُ الدبلوماسيّة الفلسطينيّة دورًا بارزًا في ذلك.
ثانيًا، إعادة تأكيد حقّ العودة في كلّ المحافل الدوليّة، وإجبار جميع الأطراف على طرحه بندًا على جدول أعمال حلّ المسألة الفلسطينيّة، وتكريس الرفض الشعبيّ الفلسطينيّ والعربيّ لمحاولات إلغائه أو تناسيه أو تجاوزه.
ثالثًا، دعم المؤسّسات والهيئات والمبادرات التي تهدف إلى مناصرة حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين، سياسيًّا وقانونيًّا واجتماعيًّا، وتفعيل حركة اللاجئين على كلّ المستويات.
رابعًا، دعم حقوق اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، خصوصًا في لبنان، عبر "الإفراج" عن جميع الحقوق الإنسانيّة الآيلة إلى تعزيز صمودهم، ووقف جميع الأسباب الطاردة لهم، على قاعدة أنّ "الحفاظ على حقّ العودة" إنّما يكون بصيانة كرامة الإنسان الفلسطينيّ اللاجئ قسرًا إلى لبنان منذ سبعة عقود ونيّف.
خامسًا، إعادة "زجّ" اللاجئين الفلسطينيين في الآليّات النضاليّة المتوفّرة من خلال تعبئةٍ وطنيّةٍ شاملة، من علاماتها البارزة: تفعيلُ الحياة الثقافيّة في المخيّمات والتجمّعات الفلسطينيّة، وبثُّ ثقافة مقاطعة الشركات الداعمة لـ"إسرائيل" بحيث يكون المجتمعُ الفلسطينيُّ محطّةً رئيسةً فيها.
وأخيرًا، المقاومة ثمّ المقاومة ثمّ المقاومة.
بيروت