كنتُ في العاشرة من عمري عندما صدح صوتُ فيروز في قلبي للمرّة الأولى من مذياعِ والدي: "ضوّي يا هالقنديل عـَ بيوت كلّ الناس." كانت فيروز بالنسبة إليّ تعني كلَّ لبنان؛ تعني الحبَّ، الوطنَ، الإنسانيّة. وكانت لجبران، حينها، مكانةٌ عميقةٌ في ذاكرتي ووعيي، ما تزال حاضرةً إلى اليوم. وأكثرُ ما يخطر في بالي، هذه الأيّام، حديثُه في كتاب النبيّ عن العمل، وذلك حين يتساءل:
"مَن منكم يودُّ أن يكون قصبةً خرساءَ صمّاءَ وجميعُ ما حولَها يترنّمُ معًا بأنغامٍ متّفقة؟"
***
شكّلت الإجراءاتُ والقراراتُ التي اتّخذها وزيرُ العمل اللبنانيّ، كميل أبو سليمان، بملاحقة العمّال الأجانب (ومن ضمنهم الفلسطينيون) "المخالفين" لقانون العمل اللبنانيّ، نقطةَ تحوّلٍ في مسار صمت اللاجئين الفلسطينيين عن الحرمان الذي يعيشونه. فهي لم تحترمْ خصوصيّتَهم الاجتماعيّة والسياسيّة والقانونيّة باعتبارهم يَحْملون صفةَ "لاجئين" قسرًا منذ 71 عامًا. وقد تداول العديدُ من الباحثين والإعلاميين والمحلِّلين أسبابَ التحرّكات الشعبيّة الوازنة التي نفّذها فلسطينيّو لبنان احتجاجًا، وتساءلوا بشكلٍ خاصٍّ عن توقيتها: لماذا الآن؟
سنة 2012، انطلقتْ في لبنان حملةُ "الملْكيّة العقاريّة للاجئين الفلسطينيين." وقبلها بثلاث سنوات، كانت قد انطلقتْ حملةٌ أخرى للفلسطينيين الذين فقدوا "الأوراقَ الثبوتيّة." كان التحشيدُ الشعبيّ للحملتيْن ضعيفًا، لأسبابٍ عديدة، أهمُّها أنّ القضيتيْن لم تشكّلا أولويّةً لكافّة المعنيّين على مختلف المستويات. وعلى الرغم من تعرّض اللاجئ الفلسطينيّ للعديد من الإجراءات السلبيّة والعنصريّة - - ومنها إجراءُ "الخروج بلا عودة" منتصفَ التسعينيّات (وقد ألغاه الرئيس سليم الحصّ فورَ تولّيه رئاسةَ الحكومة)، وحرمانُ الفلسطينيين (دون غيرهم) الملكيّةَ العقاريّةَ في العام 2001 - - فإنّ ذلك لم يدفع الفلسطينيين إلى الانتفاض. لكن، اليوم، اختلفت الظروف؛ فإجراءاتُ وزير العمل اللبنانيّ الجديد تطول آخرَ مقوّمات الصمود: حقَّ العمل!
(لوحة للفنّانة البولنديّة دومينيكا روجانسكا من وحي مخيّمات لبنان)
بشكلٍ سلميّ وعفويّ غير مسبوق، امتلأتْ زواريبُ المخيّمات بالمنتفضين. الجوار اللبنانيّ، الذي يَعتبر الفلسطينيين جزءًا أصيلًا من يوميّاته، تعاطفَ وساند، لاسيّما في صيدا وطربلس. لكنْ، ماذا يعني أنّ الفلسطينيين "جزءٌ أصيلٌ من يوميّات الشعب اللبنانيّ"؟
معناه وجودُ علاقات قربى ومصاهرةٍ وجيرة، ومشاركةُ أفراحٍ وأحزانٍ وأزماتٍ وحروب، ومواجهةُ أوضاعٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّة، جنبًا إلى جنب، على مدار سبعة عقود، وأربعة أجيال!
معناه، على سبيل المثال، أنّه حين يحتاج أحدُ المرضى اللبنانيين في صيدا إلى متبرِّعٍ بالدم، فهناك خزّانٌ من الشباب في مخيّم عين الحلوة، وفي غيره من المخيّمات، وسيتسابقون إلى التبرّع من دون تمييزٍ على أساسٍ دينيّ أو مذهبيّ، بل من دون أن يعرفوا لمن يتبرّعون. ثمّة مجموعاتٌ على مواقع التواصل الاجتماعيّ تنشأ فجأةً، وتدعو إلى التبرّع بالدم أو المال، لمريضٍ هنا أو لمحتاجٍ هناك، على االرغم من محدوديّة الإمكانات. ومن المواقف الطريفة التي شهدتُها مؤخّرًا في هذا المجال ما يأتي:
- في خضمّ التحرّكات الجديدة، أُنشئتْ مجموعاتُ واتسآب للتنسيق والتشبيك وتنظيم الحَراك، فانضممتُ إلى إحداها بهدف مواكبة التحرّكات. بعد ثلاثة أيّام، تحوّل عملُ المجموعة إلى حملة للتبرّع بالدم.
- موقفٌ طريفٌ آخر. زفّة تراثيّة لعريس (من مخيّم البص) تحوّلتْ إلى تظاهرةٍ مطلبيّة جالت مختلفَ الأزقة، وطالب المدعوّون خلالها وزيرَ العمل اللبنانيّ بالتراجع عن قراراته وفتحِ السوق أمام العمّال الفلسطينيين. واختلطتْ أغاني العرس بالأناشيد الوطنيّة والشعاراتِ المطلبيّة. وكان العريس على رأس التظاهرة.
***
اتسمت التحرّكات بعفويّة التنفيذ في الميدان. وتفاوتتْ كثافةُ المشاركة بين مخيّمٍ وآخر، نظرًا إلى خصوصيّة كلّ مخيّم. فكان الثقلُ الأبرزُ في مخيّم عين الحلوة (الذي يُعتبر الأشدّ حرمانًا على مختلف المستويات)، إذ تجاوز عددُ المشاركين في أحد التحرّكات 25 ألفًا.
تنوّعتْ أساليبُ التعبير، ولكنّها اتّفقتْ على تبنّي مبدأ السلْميّة. وأبرزُ هذه الأساليب:
- قطعُ طرق المداخل، وعدمُ السماح للتجّار بإدخال المواد الاستهلاكيّة إلى الأسواق، وبخاصّةٍ في مخيّم عين الحلوة لمدّة أسبوعين، والتظاهر بشكلٍ يوميّ.
- القيام بحملة لمقاطعة البضائع اللبنانيّة، أو المطاعم والمقاهي اللبنانيّة. ثم اقتصرت الدعوةُ على مقاطعة المراكز التجاريّة والسياحيّة التي طردتْ فلسطينيين من العمل، أو التي لا تشغّل فلسطينيين. وكان واضحًا أنّ استجابةَ الناس لمثل هذه الدعوات ضعيفة، لاسيّما أنّ نحو نصف الفلسطينيين يقيمون خارج المخيّمات، وهناك تداخلٌ واندماجٌ لبنانيّ - فلسطينيّ، ولا بدائلَ داخل المخيّمات من تلك البضائع؛ إضافةً إلى عدم قناعة الكثير من الناس بواقعيّة هذه الدعوات. وحاليًّا، هناك دعوات إلى مقاطعة شركات تجاريّة أو إعلاميّة تعود ملْكيّتُها إلى أحزابٍ معيّنة، يعتقد الناسُ أنّ لديها دورًا مباشرًا في وصولهم إلى حالة الحرمان.
- مظاهرات ومسيرات سلميّة فلسطينيّة - لبنانيّة حاشدة خارج المخيّمات، كان لها أثرٌ في توطيد العلاقات الأخويّة بين الشعبيْن.
***
إنّ عدم وجود قيادة واضحة للحَراك، على الرغم من بروز عدد من الناشطين المنظّمين أو المستقلّين، يُعتبر سمةً بارزةً فيه. وهذا يعني أنّ حالة الحرمان هي التي تقود، وهي التي تَدفع الناس إلى المشاركة في النشاطات أو إلى التفاعل الكبير على مواقع التواصل الاجتماعيّ.
(لوحة للفنّانة البولنديّة دومينيكا روجانسكا من وحي مخيّمات لبنان)
وفي المقابل، فإنّ إصرارَ وزير العمل اللبنانيّ في تصريحاته على المضيّ في إجراءاته، وخروجَ بعض السياسيين والإعلاميين بخطابات عنصرية تجاه الفلسطينيين، قد شَحَنا الشارعَ الفلسطينيَّ بشكلٍ كبير. لكنّ التضامن السياسيّ والاجتماعيّ الذي أبداه كثيرٌ من اللبنانيين أدّى دورًا في "توازن" الموضوع.
***
يبدو أنّ التحرّكات الفلسطينيّة ستستمرّ، خصوصًا أنّ الفلسطينيين يستثمرون حالةَ التعبئة والتحشيد الموجودة بالشكل المناسب على الأرض. لكنْ يجب العملُ على ما يأتي:
- الحفاظ على سلْميّة التحرّكات.
- تطوير التحرّكات، وتنويعها بأشكالٍ أكثر فعّاليّة، وعلى المستويات كافّةً: كالندوات واللقاءات الحواريّة والمؤتمرات.
- رفع وتيرة التحرّكات في سائر المخيّمات والتجمّعات، خصوصًا تلك التي شهدتْ تفاعلًا خجولًا.
- الحفاظ على وحدة الشارع الفلسطينيّ وانسجامه، وعدم الانجرار الى منكافات داخليّة قد تَحْرف الموضوعَ عن أهدافه الرئيسة.
- تحديد المطالب بشكلٍ مباشر، وتحديد الجهات المعنيّة بكل مطلب. أ) فهناك مطالبُ تشريعيّة، كالحقّ في العمل والمِهن الحرّة والتملّك؛ وهذه من اختصاص مجلس النوّاب والنقابات والاتحادات. ب) وهناك مطالبُ إجرائيّة ، كتسهيل التنقّل وتحسين البنى التحتيّة وتيسير إدخال موادّ البناء؛ وهذه من اختصاص البلديّات، وبعض القوى الأمنيّة، ويجب أن يكون هناك أيضًا دورٌ فاعل لـ"لجنة الحوار اللبنانيّ - الفلسطينيّ" ينسجم مع مطالب الناس وسعيهم الى تأمين حياة كريمة.
- استثمار المشاركة الكثيفة للنساء والشباب في التحرّكات، وتفعيل دورهم في النشاطات كافّةً.
- بناء جسور متينة مع اللبنانيين المتضامنين، وتوسيع إطار التضامن بهدف تحشيدِ رأيٍ عامّ لبنانيّ وازن يطغى على جميع الأبواق العنصريّة والطائفيّة.
إنّ تطوير التعبئة الشعبيّة فرصة ذهبيّة للتصدي لكلّ محاولات النيل من حقوق الشعب الفلسطينيّ في الصمود إلى حين تحقيق العودة إلى فلسطين.
***
ختامًا، أقول للسيّدة فيروز إنّ في لبنان مَن يرفض أن "يضوّي القنديل عَـ بيوت كلّ الناس." وأقول لجبران إنّ في لبنان مَن يريد أن يكون اللاجئُ الفلسطينيّ، المنهَكُ منذ واحدٍ وسبعين عامًا، "قصبةً خرساءَ صمّاءَ" ممنوعةً من العمل والحياة.
بيروت