دَخَل الغرفةَ كريحٍ أفقدتِ النافذةُ عُذريّتَها. رفع المسدّسَ بهدوءٍ وثقة. أفرغه في جسدِ أيهم، الذي غَرِق في الكنبة التي تشرّبتْ دمَه كإسفنجةٍ أصليّة. تجمّدنا كلُّنا، وكأنّنا في فيلمٍ أوقِفَ من أجل صنع وعاء بوشارٍ جديد.
لكنّنا تجمّدنا بلا وعينا... بلا جهاز تحكّم!
قبل دقائق...
رفعَ أيهم نخبَ حرّيته، نخبَ انتصارهِ على الموت لعشرات المرّات في سجنهِ الذي يَجهل ــــ هو نفسُه ــــ أين يكون. سبعَ سنين، وثلاثةَ أشهر، وأحدَ عشر يومًا، قضاها في سجنٍ تحت الأرض. لم يكن يتوقّع أن يجلس ثانيةً بيننا، ويَرفع نخبَ الحياة؛ ذاك النخبَ، ذاك الاحتفالَ، الذي لم يدم سوى دقائق؛ فقد أنهاه موتٌ كان في انتظاره خارج جدران سجنه.
قبل نصف ساعة...
كُنتُ أُعدّ التبّولة. سألني: "ما عطُوك جائزة على إبداعك بالتبّولة؟"
ضَحِكَ يامن الذي أنهى شيَّ آخرِ ثلاثةِ أسياخٍ من اللحم المزركش بحبّات الدهن. صاح بأيهم: "لَك عطوه جائزة على قصصو السخيفة."
ردّ أيهم: "لَهْ... له... كيف بيعملوا هيك! الله يسامحن."
ضحكنا جميعًا. غابت الضحكةُ عنّا منذ غياب أيهم. أخذ ضحكاتِنا معه، وها هو يعيدُها إلينا اليومَ، مع كلّ كأس عرقٍ يصبُّها لنا. وهذه كانت مهمّتَه الأزليّة: يمزج العرقَ بالماء في إبريق زجاجيّ كبير، ثم يملأ الأقداحَ، ويبدأ بتوزيعها علينا مع ابتسامته الساحرة. يبدأ من عند يامن، أخيه الروحيّ. باع يامن حصّتَه من الأرض وأعطاه إيّاه كي يُكمل اختصاصَه ــــ حُلمَ حياته ــــ في الطبّ النفسيّ في فرنسا. يومها، كنّا في بيت يامن حين أعطاه المبلغَ قائلًا:
ــــ روح دروسْ ورجاعْ. لسببين: أولًا لتعالجنا من جنوننا، وتانيًا لتردّلّي المبلغ!
لم نفهمْ، يومَها، سببَ بيع يامن حصّتَه لأجل أيهم. حتّى علِمتُ، في ما بعد، أنّ أيهم هو مَن شجّع يامن على إكمال دراسته حتّى تخرّجَ وصار مهندسًا معماريًّا مميّزًا.
قبل ساعتين...
كنّا قد وصلنا إلى بيتي في أعلى التلّ. بيتٌ ريفيّ صغير، يختبئ كسنجابٍ بين الأشجار. اشتريناه ــــ أنا وأيهم ــــ وقام بهندسة حديقته صديقُنا أسامة. وأسامة فنّان شكيليّ مهووسٌ بالزراعة، لم يخُن رغبةَ والده في أن يكون "ابن أرض" أمينًا، على الرغم من قراره دراسةَ النحت في كلّيّة الفنون الجميلة. إنّها مزارع تشكيليّة! جعل من المساحة الصغيرة المحيطة ببيتي ــــ بصومعتي ــــ لوحةً فنيّةً بالفعل: من تناسق الألوان، إلى أنواع الأزهار وأشكالها وتموضعها المتجاور.
أيهم، بالنسبة إلى أسامة، هو التمثال المقدّس! لولا أيهم لما تزوّج أسامة زميلتَه في الكلّية، راما. حارب أيهم، إلى جانب أسامة، لإقناع أهله وأهِل راما بأن يتكلّل حبُّهما بالزواج. راما وأسامة كانا من طائفتين مختلفتين. في النهاية، وقف أبو راما ليلة العرس، قائلًا:
ــــ لولا أيهم ما كان صار هالعرس من أساسو!
طوال الطريق إلى بيتي، كان أسامة يحدّث أيهم عن أولاده الثلاثة. ابنه البكر اسمُه أيهم، وأسامة الآن يُدعى أبا أيهم!
قبل أربع ساعات...
كنّا أمام أحد الأفرع الأمنيّة ننتظر خروجَ أيهم، بعد أن اتّصلوا بي صباحًا ليُخبروني أنّهم سيُطْلقون سراحَه اليوم. أخبرتُ يامن وأسامة. وقبلهما أخبرتُ زوجتَه ياسمين، التي كانت قد سافرتْ خارج البلاد بعد شهرٍ من اختفاء زوجها. كانت حاملًا في شهرها السادس. قمنا بإرسالها إلى أهلها، في بلدٍ مجاور، كي تنال الرعايةَ المطلوبة لإنجاب طفلتها في ظروف صحّيّة ونفسيّة سليمة. حين أخبرتُها على الهاتف، تجمّدتْ لدقائق. بقيتُ صامتًا خاشعًا أمام دموعها التي كانت تنسكب بصمتٍ تامّ. حتّى سألتني: "يعني رح يطلع أكيد؟ يعني أيهم عايش؟!"
أجبتُها ودموعي تُكسِّر كلماتي:
ــــ أيهم عايش إي... عايش... رايحين هلّأ أنا ويامن وأسامة...
قاطعتني: "اليوم... هلّأ... رح آخُد طيّارة وإجي. رح إجي مع صوفيا... رح يشوف صوفيا..."
قبل ثماني ساعات...
كنتُ في غرفتي. النوافذ مغلقة. الباب موصد. الصمت شبهُ تامّ لولا ثرثرةُ بعض العصافير. أجلس أمام مكتبي أتأمّل الكأس التي أمامي، كأسَ الزرنيخ! قرار الانتحار الذي أجّلتُه طويلًا، اليوم حان وقتُ تنفيذه. طال اختفاءُ أيهم. عجز المحامون عن إيجاده. وعجزتُ أنا من وحدتي، من عجزي... من كلّ شيء.
الكأس أمامي منذ منتصف الليل. أتأملّها منذ أكثر من ستّ ساعات. لا أملك شجاعة سقراط. شيء ما يمنعني. قوّة خفيّة تجعلني ألهو مع الموت بحبل الزمن. أسير كراعي البقر في صحاري تكساس، ظهري إلى ظهر الموت، كلٌّ في اتّجاه! حتّى توقّفتُ.
رنّ الهاتف. أخبروني بالقدوم إلى الفرع (...) من أجل إطلاق سراح أيهم!
أيهم... أخي التوأم!
دَخَل الغرفة كريحٍ أفقدت النافذةُ عُذريتَها. رفع المسدّسَ بهدوءٍ وثقة. أفرغه في جسد أيهم الذي غَرِق في الكنبة التي تشرّبتْ دمَه كإسفنجة أصليّة. تجمّدنا كلّنا.
صاح ذاك الوحشُ ذو الأنف المشوّه واللحية التي تغطّي رقبتَه:
ــــ اكتب هلّأ قصصك يا كلب.
خرجتْ منّي الكلماتُ كسلحفاةٍ تسير فوق العدم:
ــــ أنا... أنا هو... أنا هو الكاتب الكلب!
لبنان