الإيمان المسيحي والمقاطعة وفلسطين
05-07-2019

 

منذ انطلاق حركة المقاطعة الفلسطينيّة من فلسطين إلى العالم، تبنّتها جمعيّاتٌ ومنظّماتٌ شبابيّةٌ وطلّابيّةٌ ونقابيّة، بل تبنّتها حكوماتٌ محلّيّةٌ في العالم أيضًا. انطلقتْ "حركةُ مقاطعة إسرائيل وسحبِ الاستثمارات منها وفرضِ العقوبات عليها" (BDS) من فلسطين المحتلّة في 9/7/2005، من قِبَل أكثر من 170 منظّمةً أهليّةً وسياسيّةً فلسطينيّة، واتّخذتْ من شرعة حقوق الإنسان العالميّة والنضال الجنوبأفريقيّ إلهامَها. وقد جاءت حركةُ  BDS بعد انطلاق "الحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل" (PACBI) في 9/7/2004، وبعد إعلان محكمة العدل الدوليّة أنّ الجدارَ العازل الذي بناه نظامُ الفصل العنصريّ الإسرائيليّ غيرُ قانونيّ (9/4/2004)، وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية (2000)، وتوقيعِ اتفاق أوسلو الذي وُلد ميتًا (1993)، ونشوبِ الانتفاضة الأولى (1987). وللتذكير، فإنّه عند انطلاق حركة BDS سنة 2005 كان عددُ المستوطنين في الضفّة الغربيّة وغزّة قد تضاعف بنسبة 270% منذ اتفاق أوسلو، إذ وصل عددُهم إلى أكثر من نصف مليون (ازداد العدد من 199,900 في العام 1989 إلى 460,838 في العام 2005).[1]

 

مجالات التقدّم

استطاعت حركة BDS أن تنتشرَ انتشارًا واسعًا في بلاد العالم. فهي اليوم موجودةٌ في 40 بلدًا، كما تبيّن الخارطةُ المرفقة. وقد حقّقتْ تقدّمًا على صعُد المقاطعة الثقافيّة والاقتصاديّة والأكاديميّة والرياضيّة والسياحيّة، وعلى مستوى الكنائس وصناديقِ التقاعد وغيرِ ذلك.

أ- المقاطعة الثقافيّة. ففي العام 2015، مثلًا، وقّعتْ حوالي ألف شخصيّة ثقافيّة وفنّيّة في المملكة المتحدة تعهّدًا بالمقاطعة الثقافيّة لإسرائيل.[2] وقامت نشاطاتُ مقاطعةٍ ثقافيّة في كلّ من كندا وجمهوريّة إيرلندا وجنوب أفريقيا وسويسرا ولبنان وتونس ومصر والأردن وقطر والولايات المتّحدة، وغيرها من البلدان. كما دعمتْ حركةَ المقاطعة شخصيّاتٌ ثقافيّةٌ عالميّةٌ وازنة مثل الراحل شالك دي (أحد المساهمين في شرعة حقوق الإنسان وأحد الناجين من المحرقة النازيّة)، والمغنّي الشهير رودجر ووترز، والصحفيّة الكنديّة المرموقة ناومي كلايْن، والكاتبة والأكاديميّة الأميركيّة أنجيلا دايفِس، ومنتجة الأفلام الهنديّة - الأميركيّة ميرا ناير. وقد قاطع حفلاتٍ ومهرجاناتٍ ومؤتمراتٍ وورشَ عملٍ أقيمت في الكيان الصهيونيّ مشاهيرُ كثيرون من الفنّانين والرياضيّين والمثقّفين.[3]

ب - المقاطعة الاقتصاديّة. وعلى الصعيد الاقتصاديّ حقّقت المقاطعة تقدّمًا ملموسًا. فمثلًا، يشير تقريرُ الأمم المتّحدة الصادر سنة 2014 إلى أنّ حركة BDS، التي تقودها المنظمّاتُ المدنيّةُ الفلسطينيّة ويتبنّاها عشراتُ الألوف من الناشطين فيها حول العالم، مسؤولةٌ جزئيًّا عن 46% من الانخفاض في الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة في "إسرائيل"؛ أمّا المسؤول الآخر عن هذا الانخفاض فمردُّه إلى الامتعاض العالميّ من العدوان الإجراميّ الإسرائيليّ على غزّة في ذلك العام.[4]

وأدّى ضغطُ حركة المقاطعة، وحملاتها المثابرة والمُقْنعة، إلى وقف شركات متعدّدة لأعمالها في الكيان الإسرائيليّ، وإلى خسارتها فُرصَ عملٍ تقدَّر بمليارات الدولارات. من هذه الشركات فيوليا (Veolia) وأورانج (Orange). ففيوليا مثلًا خسرتْ عقودًا تقدَّر بـ 20 مليار دولار في أنحاء مختلفة من العالم بعد الضغط عليها لمنعها من المشاركة في مشاريع تدعم الاستيطانَ في الضفّة الغربيّة.

كما تقود نقاباتٌ عمّاليّةٌ في أنحاء متفرّقة من العالم حملاتِ مقاطعةٍ فعّالةً. فعلى سبيل المثال، في كندا، صوّتتْ نقابةُ عمّال البريد لصالح المقاطعة سنة 2008، ودعمتْ نقابةَ عمّال البريد الفلسطينيّة سنة 2015، وهي تدعم منذ العام 2016 منظّمةَ "أوقِفوا الجدار" وغيرَها من المشاريع الفلسطينيّة.[5] وفي النروج تقود نقابةُ Fagforbundet حملاتٍ نشطةً ضدّ شركتيْ G4S وSodaStream. وفي المملكة المتّحدة تضغط نقاباتٌ كبرى على شركة الأمن البريطانيّة G4S بسبب دورها في السجون الإسرائيليّة وفي مركزٍ لتدريب الشرطة الإسرائيليّة. أمّا في فرنسا فقد حشدتْ نقابةُ المزارعين الفرنسيّة آلافَ الناس لدعم حملة ناجحة ضدّ بناء ميناء في جنوب فرنسا كان يمكن استخدامُه لاستيراد الفواكه والخضروات الإسرائيليّة. وفي جنوب أفريقيا ردَّ عمالُ الرصيف في مدينة ديربان على عدوان غزّة في الفترة 2008 - 2009 برفض تفريغ المنتجات الإسرائيليّة. وفي السويد حاصر اتّحادُ عمّال السفن السويديين سنة 2010 أكثرَ من 500 طنّ من البضائع الآتية من "دولة الاستيطان العنصريّة،" أو الذاهبة إليها، احتجاجًا على هجومها على أسطول مساعدات إنسانيّة متّجهٍ إلى قطاع غزّة في محاولة لإنهاء الحصار المفروض عليه. وفي الولايات المتّحدة، رفض عمّالُ الرصيف، مرارًا وتكرارًا، تفريغَ السفن الإسرائيليّة.

ج - المقاطعة الأكاديميّة. وعلى الصعيد الأكاديميّ، صوّت أكثرُ من 30 جمعيّة طلّابيّة في الولايات المتّحدة، وجمعيّات طلّابيّة في 9 جامعات كنديّة مختلفة، لصالح الضغط على جامعاتهم من أجل سحب الاستثمارات من الشركات التي تساعد على انتهاك "إسرائيل" للقانون الدوليّ. وصادقتْ نقاباتُ الطلّاب الوطنيّة والمحلّيّة في جنوب إفريقيا والبرازيل وشيلي وقطر على حركة المقاطعة. أمّا في المملكة المتّحدة، فقد صوّت الاتحادُ الوطنيُّ للطلّاب، الذي يمثّل 7 ملايين طالب، وحملةُ الطلّاب السود، وأكثرُ من 25 نقابةً طلّابيّةً فرديّة، لصالح تأييد المقاطعة. وفي أيّار 2015، انضمّ أكثرُ من عشرة آلاف طالب وطالبة من جنوب إفريقيا إلى مظاهرة للمطالبة بدراسة المقاطعة. وفي العام 2019 انطلقتْ حملةٌ لرفض الاعتراف بالشهادات الصادرة عن جامعة آرييل المبنيّة على مستوطنة في الضفّة الغربيّة.[6]

 

إلى جانب المقاطعة الاقتصاديّة، تتصاعد المطالبة بالمقاطعة الأكاديميّة

 

الإيمان والمقاطعة

لربّما كان المرشدُ الأكبرُ للإنسان المسيحيّ في فعله الإنسانيّ (الاجتماع، السياسة، الثقافة،...) جملتيْن قالهما يسوعُ المسيح في حديثه إلى تلاميذه عن الملكوت، وفيهما يوضح الأسسَ التي عليها سيَحْكم اللهُ: بين مَن يحبُّ يسوعَ ويستحقُّ دخولَ الملكوت، ومَن أهملَ هذه المحبّةَ ولا يستحقُّ ذلك الدخول.

يُخبر يسوعُ تلاميذَه أنّ مَن يدخل الملكوتَ هم مَن أطعموه وسقوْه وزاروه أثناء المرض والأسْر. ويُردف: "كلُّ ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار [الضعفاء، المظلومين،...] فبي فعلتموه!" في هذه الجملة، يتماهى يسوعُ بالضعفاء والهامشيّين والمظلومين، ويَعتبر أنّ إنهاءَ جوع الآخر، وعطشِه، وعزلتِه في المرض، ويأسِه في السجن، فعلٌ يقدِّمه الإنسانُ إلى يسوع مباشرةً. هكذا يجعل يسوعُ من التعاضد الإنسانيّ، الفاعلِ والخادمِ للآخر المظلوم، طريقًا إلى ملكوت الله.

ثمّ يتابع يسوعُ بأنّ الذين لا يدخلون الملكوتَ هم الذين رأوْا يسوعَ جائعًا ولم يطعموه، وعطشانَ ولم يسقوه، ومريضًا وسجينًا ولم يعودوه. ويوضح: "كلُّ ما لم تفعلوه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فبي لم تفعلوه." إنّ كلامَ يسوع هذا أخطرُ من الأوّل؛ ففيه يقول إنّه لا يكفي لمَن يتّبعوه أن يكونوا جيّدين و"أوادم،" مكتفين بعدم فعل الشرّ، وإنّما هم مُطالَبون بالتعاضد الفاعل المسؤول عن الآخر. التعاضد يُلزمنا بالعمل من أجل العدالة وإنهاءِ الظلم في حقّ الآخرين، ولا يقتصر على الانطواء على "أخلاقيّاتٍ" فاترةٍ تكتفي بالامتناع عن العمل الشرّير. إنّ عدمَ الاهتمام بالآخرين، والإحجامَ عن العمل على دفع الظلم عنهم، تواطؤٌ مع الشرّ، ومساهمةُ في استفحاله.

وهكذا، فإنّ يسوع جعل من الإيمان به، ومِن طلبِ ملكوت الله، إلهامًا للالتزام بابتكار مشاريع تعاضديّةٍ بين البشر، تسعى إلى إنهاء الظلم في غير مجال (الجوع، العطش، العزلة، إلخ.). وهذا ما جعل تلميذَه الرسولَ يوحنّا يكتب أنّ مَن لا يحبُّ الإنسانَ الذي لا يراه لا يمكن أن يحبَّ اللهَ الذي لا يراه ( 1يوحنّا 4 :20)؛ فالمحبّة ليست مجرّدَ شعور، وإنّما هي عملٌ خلاّقٌ أيضًا لحماية الكرامة الإنسانيّة ورفعِ الظلمِ عن الآخر والذات. من وجهة نظرٍ مسيحيّة، إذًا، كلُّ روحانيّةٍ لا تُشْعل هذا العالمَ بمزيدٍ من الإنسانيّة هي روحانيّةٌ كاذبة.

أ - الدور الكنسيّ في فلسطين. من هذه الزاوية نفهم اجتماعَ ممثّلي ثلاث عشرة كنيسةً رسميّةً ومؤسّسةً فلسطينيّةً من أجل إطلاق "وقفة حقّ - فلسطين" (Kairos Palestine) عام 2009.[7] وقّع المجتمعون على البيان التأسيسيّ، الذي قالوا فيه بشكلٍ لا لبسَ فيه:

"نعلن، نحن الفلسطينيين المسيحيين، في هذه الوثيقة التاريخيّة، أنّ الاحتلالَ العسكريّ لأرضنا هو خطيئةٌ ضدّ الله والإنسان، وأنّ اللاهوت الذي يبرِّر هذا الاحتلالَ هو لاهوتٌ تحريفيٌّ بعيدٌ جدًّا عن التعاليم المسيحيّة؛ حيث إنّ اللاهوت المسيحيّ الحقَّ هو لاهوتُ محبّةٍ وتضامنٍ مع المظلوم، ودعوةٌ إلى إحقاق العدل والمساواة بين الشعوب... إنّ استخدامَ الكتاب المقدّس لتبرير (أو تأييد) تيّاراتٍ ومواقفَ سياسيّةٍ فيها ظلمٌ يفرضه إنسانٌ على إنسان، وشعبٌ على شعبٍ آخر، يحوِّل الدينَ إلى إيديولوجيا بشريّة، ويجرِّد ’كلمةَ الله‘ من قداستها وشموليّتِها وحقيقتها."

وتطرح الوثيقة "الحلَّ الذي سيؤدّي إلى السلام العادل والدائم، ألا وهو إنهاءُ الاحتلال الإسرائيليّ للأرض الفلسطينيّة، بالإضافة إلى إنهاء كلّ أنواع التمييز العنصريّ..." وتضيف أنّ المحبّة هي رؤيةُ "وجه الله" في كلّ إنسان؛ فـ"كلُّ إنسانٍ أخي وأختي." غير أنّها تستدرك:

"لكنّ رؤيةَ ’وجه الله‘ في كلّ إنسان لا تعني قبولَ الشرّ، أو الاعتداءِ من قبَله، بل تقوم المحبّةُ بإصلاح الشرّ ووقفِ الاعتداء. والظلمُ الواقعُ على الشعب الفلسطينيّ هو شرٌّ تجب مقاومتُه... تقع هذه المسؤوليّة أوّلًا على عاتق الفلسطينيين أنفسِهم، الواقعين تحت الاحتلال. فالمحبّة المسيحيّة تدعو إلى المقاومة، إلّا أنّ المحبّة تضع حدًّا للشرّ بسلوك طرق العدل. إنّنا نرى في المقاطعة وسحبِ الاستثمارات [من الكيان الصهيونيّ] وسائلَ لاعنفيّةً لتحقيق العدل والسلام والأمن للجميع."[8]

 

إنّ الاحتلالَ العسكريّ لأرضنا هو خطيئةٌ ضدّ الله والإنسان

 

وفي كانون الأوّل 2018، التقى 300 من ممثّلي الكنائس المسيحيّة الفلسطينيّة في "وقفة حقّ،" وحركة "وقفة حقّ من أجل العدالة" (Global Kairos for Justice Movement) العالميّة، وممثّلون من المنظّمات الفلسطينيّة المدنيّة، في بيت لحم، في الذكرى التاسعة لتأسيس "وقفة حقّ - فلسطين."[9] وتبنّى اللقاءُ آنذاك موقفَ "التجمّع الوطنيّ للمنظّمات المسيحيّة في فلسطين" (National Coalition for Christian Organizations in Palestine - NCOPP) الصادر في رسالتها المفتوحة، في 12/6/2017، إلى مجلس الكنائس العالميّ،[10] وقد حيّته حركةُ المقاطعة الفلسطينيّة.[11] وأجمعت المطالبُ على الآتي: 1) اعتبار "إسرائيل" دولةَ فصلٍ عنصريّ من حيث القانون الدوليّ، والتصرّف معها وفقًا لذلك. 2) اتخاذ موقفٍ لاهوتيّ واضح ضدّ أيّ جماعة مسيحيّة تبرِّر هذا الفصلَ العنصريّ. 3) اتخاذ موقف ضدّ التطرّف الدينيّ، وضدّ أيّ محاولة لإنشاء دولةٍ دينيّةٍ في أرضنا أو منطقتنا. 4) الدفاع عن حقّنا وواجبنا في مقاومة الاحتلال بشكل خلّاقٍ وغير عنيف. 5) تأييد التدابير الاقتصاديّة التي تضغط على إسرائيل لتبنّي طريق العدالة والسلام ووقف الاحتلال. 6) تكثيف المقاطعة والوقوف إلى جانب أولئك الذين يدافعون عن حقّ الفلسطينيين ردًّا على الهجمات الإسرائيليّة على حركة المقاطعة العالمية. 7) إنشاء جماعات ضغط دفاعًا عن المسيحيين الفلسطينيين، والطعن علنًا وقانونيًّا بالمنظّمات المسيحيّة التي تشوّه سمعةَ "التجمّع الوطنيّ للمنظّمات المسيحيّة في فلسطين" وشرعيّته.

ب - الكنائس في أميركا الشماليّة. صوّتتْ لصالح المقاطعة أيضًا كنائسُ متعدّدةٌ في أميركا الشماليّة، وسحبت استثماراتِها من الكيان الصهيونيّ. من هذه الكنائس [12, 14,13, 15, 16]: Mennonite Central Committee, Quakers, United Methodist Church, United Church of Christ, The Catholic Conference of Major Superiors of Men The Alliance of Baptists 

ج - الكنيسة الكاثوليكيّة: موقف الفاتيكان. شاركت النيابةُ البطريركيّةُ المارونيّة في القدس والأراضي الفلسطينيّة في "وقفة حقّ" كما ذكرنا، واعترف الفاتيكان رسميًّا بالدولة الفلسطينيّة سنة 2015. لكنّ الفاتيكان ما يزال يتّخذ موقفًا باهتًا ولاواقعيًّا من القضيّة الفلسطينيّة، مكتفيًا بخطابٍ تجترّه الكثيرُ من الدول، داعيًا أطرافَ "النزاع" إلى "الحوار،" ومؤكّدًا حقَّ إسرائيل في الوجود. حتّى البابا الفذّ الحاليّ، نصيرُ الضعفاء، يردِّد الكلامَ الديبلوماسيَّ عن "الحوار" و"المفاوضات" و"تطلّعات الشعبيْن،" من دون أيّ ذكرٍ للاحتلال، والتنكيلِ الممنهج بالفلسطينيين، وسياسات الاغتيالات بلا محاكمة، وسجنِ الأطفال، والسجنِ الإداريّ، والتمييزِ العنصريّ ضدّ الفلسطينيّين الذين يحملون الجنسيّةَ الإسرائيليّة، وتدميرِ المنازل، ومصادرةِ الأراضي، وتدميرِ الوضع الصحّيّ، وإلى ما هنالك من سياساتٍ تدعمها الحكوماتُ الإسرائيليّة والكنيست، ومن دعواتٍ إلى إبادة شعبٍ كامل. وقد استدعى موقفُ البابا ردًّا قاسيًا من الكنائس الفلسطينيّة من خلال "وقفة حقّ،" التي أعلن أعضاؤها ما يأتي:

"بينما نشكر قداستَه على اهتمامه بالشعب الفلسطينيّ، نودّ في المبادرة المسيحيّة الفلسطينيّة" / كايروس فلسطين إصدارَ تذكيرٍ بأنّ الفلسطينيين يموتون بالفعل، ولا يعيشون فقط في حالةٍ من العداء أو الصراع. أصبحتْ حياتُنا لا تطاق. إنّنا نموت كلَّ يوم، ونُضطَهد كلَّ يوم، ونُلقى في السجون كلَّ يوم، وتُصادَر أرضُنا وبيوتُنا كلَّ يوم، ونُطرَد من القدس مع أطفالنا كلَّ يوم. وهذا بسبب الاحتلال العسكريّ الإسرائيليّ، الذي خنق الفلسطينيين لعقودٍ عديدة، إلى جانب انتهاكه المستمر لحقوق الإنسان." [17]

لكنْ يبدو أنّ الفاتيكان ما يزال يحتاج إلى الكثير من العمل لكي يتمكّنَ من الوقوف موقفَ حقّ في هذا المجال. ولئن كان ما يزال يؤكّد أنّه "لا يمكنه أنْ يبقى صامتًا" عن اقتراح نقل السفارات إلى القدس،[18] فإنّه يصمت عن الجرائم الإسرائيليّة اليوميّة ضد الفلسطينيّين.

أمّا بطريركيّةُ اللاتين في فلسطين، وهي تابعة للفاتيكان، فقد انتقدتْ بشكل حادّ القانونَ الذي صادق الكنيستُ عليه في 19/7/2018، وادّعى أنّ إسرائيل هي "دولةُ الشعب اليهوديّ" حصرًا، مهمِّشًا السكّانَ الفلسطينيّين الأصليّين داخل فلسطين المحتلّة عام 1948.

د - الدور الكنسيّ في المشرق العربيّ.  تتنوّع المواقفُ الكنسيّة حيال فلسطين في العالم العربيّ. ففي مصر وقف البابا شنودة، بابا الكنيسة المرقسيّة،[19] موقفًا مناهضًا لـ"إسرائيل،" مانعًا حجَّ الأقباط إلى فلسطين ما دامت تحت الاحتلال، وأطلق كلماته: "لا للاحتلال، لا للتهويد، لا للتدويل، لن نتنازل عن عروبة القدس." لكنّ البابا الحاليّ تواضروس تراجع عن هذا الموقف المقاطِع، وزار القدس في العام 2015، مخالفًا موقفَ الكنيسة التاريخيَّ.[20] ومع ذلك، بقي الموقف اللاهوتيّ الرسميّ معاديًا للاستيطان في المناطق المحتلّة عام 67، وهو ما برز في الوقفة الاحتجاجيّة للرهبان الأقباط ضدّ سلطة الاستيطان الرسميّة في ساحة كنيسة القيامة في القدس، ما أدّى إلى قمع السلطات الغاصبة.[21]

 

شنودة: ننادي بفلسطينيّة القدس ولا نكتفي بحماية الأماكن المقدّسة 

 

 أمّا في منطقة أنطاكية وسائر المشرق (سوريا، لبنان، العراق، الخليج العربيّ)، فقد زار البطريركُ المارونيّ الكاردينال بشارة بطرس الراعي الكيانَ الصهيونيّ (فلسطين المحتلّة) سنة 2014، مُتذرّعًا بالضرورات الرعائيّة، وبرغبته في مرافقة البابا الحاليّ في زيارته إلى فلسطين (وهو ما لم يكن مطلوبًا). وبقي موقفُ الراعي غيرَ مبرَّرٍ منطقيًّا؛ فالبطريرك المارونيّ الراحل الكاردينال نصرالله بطرس صفير لم يُردْ أن يرافق البابا السابقَ في زيارته إلى سوريا لأسباب سياسيّة معروفة، وكان الأحرى بالبطريرك الحاليّ أنْ يقف الموقفَ نفسَه من الاحتلال العنصريّ، الذي يستدعي مواقفَ أكثر حزمًا من الموقف إزاء أيّ سلطةٍ في العالم العربيّ. فنظرةُ شعوبنا إلى الكيان الصهيونيّ تختلف نوعيًّا عن نظرتها إلى أيّ نظامٍ آخر لكون الكيان المذكور كتلةً استيطانيّةً غريبةً، معاديةً للوجود الفلسطينيّ ذاته، ولمطامع شعوبنا العربيّة في الوحدة والتحرّر من الاستعمار، وتعيث خرابًا في فلسطين ولبنان، ولا تزال تحتلّ أجزاءً عزيزةً من لبنان وسوريا.

وفي المقابل، فإنّ الكنائس الكاثوليكيّة[22] في المشرق تقف مجتمعةً موقفًا رافضًا للكيان الاستيطانيّ. ففي المؤتمر السادس والعشرين لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك الذي عُقد في تشرين الثاني 2018 في البطريركيّة الكلدانيّة في بغداد، أعلن هؤلاء البطاركة تضامنهم "مع الشعب الفلسطينيّ الذي لا يزال يئنّ تحت وطأة الاحتلال،" وطالبوا "بإقرار الدولة الفلسطينيّة ضمن حلّ الدولتين، وعودةِ اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم،" وجدّدوا رفضَهم "الكامل لقرار إعلان القدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأميركيّة إليها وجعلِ إسرائيل دولةً قوميّةً لليهود." وأكّدوا أنّ "سياسة الدمار الغربيّة في الشرق هي نفسها التي تسبَّبتْ بقتل وتهجير الملايين من بلداننا، بمَنْ فيهم المسيحيّون. وبهذه السياسة نفسها ظهر الإرهابُ واستقرّ في بلداننا وارتدّ على الغرب نفسه الذي ولَّده..."

وهذا يتناغم جزئيًّا مع مواقف الأساقفة الكاثوليك في فلسطين، ولكنّه يبقى دونها حدّةً ونوعيّة. فالأساقفة الفلسطينيّون، بواسطة "لجنة العدل والسلام،" أعلنوا رفضَهم لأيّ مظهر من مظاهر التطبيع، جازمين أنّ حياةَ الفلسطينيين، "في كلا المجتمعين الإسرائيليّ والفلسطينيّ، بعيدةٌ كلَّ البعد عن أن تكون حياةً طبيعيّة. ومن ثمّ [فإنّ] التصرّف كأنّ الأمور في حالة طبيعيّة هو تجاهلٌ لامتهان حقوق الإنسان الأساسيّة." ومع أنّ الكنيسة "مُلزَمة...، من أجل ضمان إدارة رعاياها ومدارسها ومؤسّساتها العديدة، بأن تتعامل مع السلطات المسؤولة في المناطق التي تعمل الكنيسة فيها...،" فإنّ عليها "ألّا تنسى حقيقةَ الواقع، فتعتِّم على الظلم الموجود." وقالت لجنة العدل والسلام:

"إنّ موقف الكنيسة هو التزامُ العدل والتنديد بكلّ ظلم. [فهي] تميِّز بصورة مستمرّة بين ما هو ضروريّ ولا بدّ منه في هذه العلاقات مع سلطات الاحتلال، لضمانِ ما يَلزم للمعيشة اليوميّة؛ وبين ما يجب تجنُّبُه، أيْ إقامة علاقات ونشاطات توحي وكأنّ الوضعَ طبيعيّ،... بل هي مُجبرة على رفع صوتها، وعلى مقاومة الشرّ، وعلى العمل من غير كللٍ من أجل التغيير. مثلَ الأنبياء في القديم، الكنيسةُ هيئة نبويّة تدلُّ على الظلم وتندِّد به... علاوةً على ذلك، الكنيسة المحلّيّة في إسرائيل وفلسطين تتحمَّل مسؤوليةَ تذكير الكنيسة الجامعة بأنّ قضيّة إسرائيل وفلسطين ما زالت جرحًا مفتوحًا مزمنًا، وأنّه لا يمكن اعتبارُ الوضع طبيعيًّا."[23]

أمّا الكنيسة الأرثوذكسيّة فتقف، رسميًّا، بشكلٍ صارمٍ ضدّ وجود الكيان الصهيونيّ ولا تراه سوى كيانٍ استيطانيّ. في الستينيّات والسبعينيّات كانت مواقفُ "المجمع الأرثوذكسيّ" شديدةَ الوضوح وعاليةَ النبرة، وأبرزُها: بيانُ المجمع الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ عام 1975، وخطابُ البطريرك إلياس الرابع إلى مؤتمر القمّة الإسلاميّ المنعقد في لاهور والداعم لحقّ الفلسطينيين،[24] وخطابُ البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم في مؤتمر القمّة الإسلاميّ المنعقد في الرياض سنة 1981.[25] وفي ذلك البيان يعلن المجمعُ بوضوح دعوتَه إلى نبذ العمل السياسيّ الطائفيّ وأيّ كيان مسيحيّ في لبنان. ويشدّد على ما يأتي:

"لقد أوضحنا في لاهور، وفي المحافل الكنسيّة في الخارج، أنّنا ننادي بفلسطينيّة القدس، ولا نكتفي بحمايات للأماكن المقدّسة كان واضعو المعاهدات الدولية يذكرونها لمّا كان الأجنبيُّ مسيطرًا على فلسطين. لكنّ النضال الفلسطينيّ أثبت للعالم أنّ القدس قلبُ فلسطين الحديثة الناهضة. وإذا تبنّينا فلسطينَ العظيمة تبنّيًا صادقًا، تهون التضحياتُ في سبيلها. ولعلّ أعظمَ ما في لبنان من رساليّة اليوم يقوم على أن يتجنّدَ بكامل طاقاته في سبيل قضيّةٍ هي مفتاحُ قضايانا. وإيمانُنا راسخ بأنّ فلسطين مستعادةً لسكّانها الأصليّين قدرةٌ للعرب."[26]

ومن يعرف أجواءَ العام 1975 في لبنان يفهم جرأةَ رسالةٍ كهذه، وعمقَها، ومدى قناعة مَن كتبوها بضرورة الالتزام برفع الظلم عن الفلسطينيّين.

لكنّ هذه النبرة خفتتْ مع خفوت مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة. وهذا الخفوت تَسبّب به، من بين أمورٍ أخرى، اتّفاقُ أوسلو الذي لم يخدع المفاوضين الفلسطينيّين فحسب، وإنّما الوعيَ العربيَّ نفسَه أيضًا. فحاليًّا، لا يأتي المجمعُ الأرثوذكسيُّ الأنطاكيّ على ذكر فلسطين في بياناته إلّا بشقّ النفس. لكنْ يبقى "المزاجُ" الأرثوذكسيُّ العامّ مناهضًا لدولة الاحتلال،[27] مدعومًا من مواقف تاريخيّةٍ بارزةٍ لوجوهٍ رسميّةٍ ولاهوتيّة تركتْ بصمتَها في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة طوال القرن العشرين، أبرزُها المطران جورج خضر (أحدُ مؤسِّسي "حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة")، والدكتور كوستي بندلي (أحدُ أبرز قادة الحركة نفسها)؛ وقد رفضا معًا أيَّ تسويغ لاهوتيّ مسيحيّ لقيام دولة الاستيطان، وما يزال هذا هو موقفَ الكنيسة الأرثوذكسيّة حتّى اليوم.

 

خضر وبندلي رفضا أيّ تسويغ لاهوتي لقيام دولة الاستيطان

 

- فالمطران جورج خضر، الذي تنحّى مؤخّرًا عن مطرانيّة جبل لبنان لبلوغه سنًّا متقدّمةً، تطرّق مرارًا إلى القضيّة الفلسطينيّة، وجُمعتْ مقالاتٌ له في كتاب بعنوان فلسطين المستعادة (1969)، يرفض فيها وجودَ الكيان الصهيونيّ تحت أيّة ذريعة لأنّ دولة الاستيطان "حُبِلَ بها بالإثم ووُلِدَتْ في الخطيئة" كما قال غيرَ مرّة. وبقيتْ تلك الدولةُ مرفوضةً لديه أخلاقيًّا وروحيًّا لأنّها كيانٌ قائم على الظلم، ولا مصالحة مع الظلم. وللمطران خضر صورةٌ صافيةٌ عن حقيقة المطامع الصهيونيّة؛ فهو يرى أنّ شعبَ دولة الاستيطان:

"يتكلّم على التطبيع، أيْ على التداخل في ما بيننا، غير أنّ فلسفتَه كلَّها هي ألّا يعيشَ بالمساواة في الكرامة بيننا وبينه. ولذلك كان مضمونُ التطبيع عنده أن يبقى مسيطِرًا؛ أي إنّ رغبتَه الحقيقيّة الظاهرة في كلّ النصوص الصهيونيّة أن يسخِّرَنا لمجده، لتفوّقِه، لاستغلالِه إيّانا. ويستعمل كلمةً حضاريّةً، ’التطبيع،‘ وهي كلمةُ حقٍّ عنده يُراد بها باطل. هناك حالةٌ يمكن التطبيعُ معها، هي حالةُ سقوط الفلسفة الصهيونيّة... فإنْ لم تسقط الصهيونيّة، تكون الدولةُ العبريّةُ على موقفها الإقصائيّ الصميميّ للعرب، وتكون العلاقاتُ بيننا وبينها حلولًا ترقيعيّةً، هي نهايتُنا نحن على المستوى الحضاريّ والإنسانيّ، ولو بقيتْ على الخريطة رقعةٌ تسمّى فلسطين. والهزالة التي تكون عليها فلسطينُ هذه ستنتشر سرطانًا في كلّ الجسم العربيّ."[28]

ويرفض خضر تصنيفَ دول الغرب للمقاومين بالـ"إرهابيين." لذلك يكتب أنّ "الأكذوبة الكبرى تقضي بأنْ يصنَّفَ الفلسطينيُّ، الفقيرُ، المقهورُ وحده في هذه البقعة من العالم، إرهابيًّا."[29] ويرى أنّ القداسة "ليست للأماكن الدينيّة ولكنْ لشعب فلسطين."[30] وعلى الرغم من إيمانه بالوسائل اللاعنفيّة، فإنّه يقترب من الإقرار بضرورة النضال العنفيّ، وذلك عندما يشيد بالمناضلين الفلسطينيّين: "من يحاسب هذا ’الوحش الطالع من الهاوية‘ الذي انقضّ على أهل نابلس ورام الله وبيت لحم وسواها؟ أيُّ جاورجيوس ينقذ فلسطينَ العذراءَ من التنّين؟ ستقوم فلسطين ليس فقط بمقادسها، ولكنْ بمجاهديها الميامين."[31]

هذا، ويرفض المطران خضر "حلَّ" الدولتين، إلّا إنْ لم يكن من بديلٍ حاليًّا، على أن يتمّ السعيُ لاحقًا إلى تحرير فلسطين: "أنا لستُ مع الدولتين إلى الأبد. لستُ مع الثنائيّة. مشتهى قلبي أنْ أرى فلسطينَ مُستعادةً، ولكنْ قد يتطلّبُ هذا مراحلَ وجهودًا شاقّةً وكلمةً واحدةً للعرب." [32] ويجزم: "لا تنتهي القضيّةُ بترتيب البيت العربيّ في فلسطينَ مصغّرةٍ خجولةٍ هزيلة. المسألة ليست في إنشاء هذا الكيان، ولكنْ في اعتراف الفلسطينيين أو عدم اعترافهم بالدولة اليهوديّة.... إذا تضمّن إنشاءُ الدولتين تبادلًا ديبلوماسيًّا بينهما، انتهت القضيّةُ الفلسطينيّة. لإسرائيل أنْ تبقى على مستوى الواقع، لا على المستوى الحقوقيّ (de jure) ليس فقط لأنّنا نتمنّى أنْ تتوحّدَ كلُّ أرض فلسطين التاريخيّة، ولكنْ لأنّنا نُنْكر الإيديولوجيا الصهيونيّة."[33]

- أمّا اللاهوتي الدكتور كوستي بندلي، فقد قام بجهدٍ فكريٍّ كبير لنسفِ أيِّ أساسٍ لاهوتيٍّ يدعم وجودَ دولة اسرائيل. يوضح بندلي استنادًا إلى قراءة لاهوتيّة مسيحيّة أنّ عبارة "شعب الله" تعني أنّ على هذا الشعب أن يستمدَّ من الله معنى وجوده وغايته؛[34] فـ"الاختيار" ليس المقصودُ به إعطاءَ صكّ استعلاءٍ على باقي الشعوب، وإنّما هو اختيارٌ من الله لمجموعةٍ يريدُها أن تَخدمَ مقاصدَه، التي هي جمعُ الإنسانيّة في عائلةٍ واحدةٍ لله.

إلاّ أنّ الأمور بعد المسيح ليست كما قبله. فالمسيح أسّس شعبًا جديدًا لله، هو الكنيسةُ العاملةُ على توحيد البشر. الكنيسة، بحسب بندلي، "هي شعبُ الله المختار الجديد، المدعوُّ إلى تتميم الدور الذي أخفق إسرائيلُ القديمُ [العبرانيّون] في الاضطلاع به..."[35] الكنيسة، شعبُ الله الجديد، هي الجماعة العاملة على تحويل الأرض إلى عالمٍ يتجسّد فيه العدلُ وينتفي عنه الظلم، ويتجّسد فيه التعاضدُ والمساواةُ وتنتفي عنه العنصريّةُ والسلب ــ سلبُ الأرض وسلبُ الكرامة الإنسانيّة.

ويوضح بندلي أنّ "أرضَ الميعاد الحقيقيّة... إنّما هي الأرضُ بكاملها، المدعوّةُ أنْ تتحوّل إلى ملكوت الله، أيْ إلى عائلةٍ واحدة... يمْلك فيها اللهُ."[36] هي الملكوت الآتي والمتجسّد بشكل غير كاملٍ، اليومَ، وكلَّ يوم. وبهذا يسحب بندلي الذرائعَ اللاهوتيّةَ ممّن يودّ أن يستخدم كتابَ المسيحيين المقدّس (الذي يتضمّن كتابَ العهد القديم اليهوديّ)، من أجل التنظير للاستيطان القائم في فلسطين.

- هذا، ولا تزال الكنيسةُ الأنطاكيّةُ الأرثوذكسيّة تُنتِج لاهوتيين وكتّابًا في خطّ خضر وبندلي تجاه فلسطين. من هؤلاء الأب الدكتور جورج مسّوح، المعروف في الوسط الثقافيّ والكنسيّ في لبنان وسوريا؛[37] والدكتور أسعد قطّان؛[38] والدكتور نقولا أبو مراد؛[39] وكاتبُ هذه السطور.[40] ويشتركون جميعُهم في كونهم ينتمون إلى "حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة" التي أسّسها خضر مع مجموعة من الشباب السوريين واللبنانيين سنة 1943.[41]

 

جورج خضر: مشتهى قلبي أنْ أرى فلسطينَ مُستعادةً

 

ملاحظات على الواقع السياسيّ

برزتْ مؤخّرًا مواقفُ لبعض السياسيين المسيحيين في لبنان "دفاعًا" عن القضيّة الفلسطينيّة. إلّا أنّ أصالةَ هذا الدفاع يشوبها الكثيرُ من الشكّ؛ فمن يتكلّم دعمًا للقضيّة الفلسطينيّة، ولكنّه يتكلّم بعنصريّةٍ عن غيرهم (السوريين مثلًا)، لا يمكن الوثوقُ بثبات مواقفه العميقة.

ومن جهةٍ أخرى، هناك انغماسٌ لدى بعض السياسيّين المنتمين إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة في العربدة الطائفيّة. فقد تعالت أصواتٌ سياسيّةٌ عديدة في السنوات الأخيرة تطالب بـ"حقوق الطائفة،" وهي عبارةٌ مخادعةٌ تسعى في الواقع إلى الدفاع عن مصالح بعض المتنفّذين في الطائفة، وإذا بهم يشتركون "في رقصة الطوائف على أشلاء لبنان،" بتعبير إلياس خوري.[42] وبعد أن نبذ كثيرون منهم هذه الرقصةَ الطائفيّةَ خلال الحرب اللبنانيّة، ها هم يخوضونها اليوم مع بقيّة الطوائف. وفي قلب حمّى الرقصة الطائفيّة المناهضة للآخر "الغريب،" نسي كثيرٌ من المسيحيين أنّ المسيح يتجلّى في كلّ غريب، وأنّهم مدعوّون أن يعانقوا يسوعَ ويحبّوه في كلّ غريب. ونسُوا أنّ المسيح طلب إليهم أن يكونوا ملحَ العالم، أن يغيّروا نكهتَه: فإنْ كانت نكهةُ العالم اليوم طائفيّةً، فهم مُطالبون بأن يكونوا لاطائفيّين؛ وإن كانت نكهةُ العالم اليوم كراهيةَ الغريب، فهم مُطالبون بأن يكونوا حماةً للغريب ومدافعين عنه، لأنّه - كيسوع - "لا يَجد مكانًا يُلقي فيه رأسَه."

 

خاتمة: الفقر والحرّية والمساواة

إنّ أوطاننا تحتاج إلى أناسٍ يقاومون سياساتِ الموت العنصريّةَ والقمعيّةَ، خارجيّة كانت أو داخليّة، وذلك من أجل حياة الإنسان وكرامته وفرحه في هذا العالم بالذات. إنّها تحتاج إلى "تأوين" الإيمان (أي جعله آنيًّا) برؤًى سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ تسعى إلى إرساء بُنى العدالة عوضًا من الظلم، وبُنى المساواة بدلًا من الانقضاض على المغانم القبليّة الطائفيّة، وبُنى المشاركة مكانَ الاستئثار، وبُنى الحرّية والفرح محلَّ العبوديّة للتمييز العنصريّ أو للبطش الداخليّ.

إنّ تحدّي شعوبنا، اليوم وغدًا، هو أن تجمعَ الخبزَ بالحريّة. فقضيّةُ الفقر لا تتطلّب البذلَ والعطاءَ فقط، وإنّما تتطلّب كذلك تغييرَ البُنى الجائرة (الخارجيّة والداخليّة) في المجتمعات. وبالنسبة إلى الموقف من الكيان الاستيطانيّ الصهيونيّ تحديدًا، فإنّ المبتغى بعد التحرّر منه هو تحقيقُ الحريّة بين أبناء الوطن الواحد. فالحرّية من العدوّ المستوطِن لا تكتمل إلاّ بالحرّية من أيّ قامعٍ داخليّ، والخلاصُ من الظلم الصهيونيّ والغربيّ لا يكتمل إلاّ بالخلاص من أيّ ظلمٍ داخليّ، والأمنُ من الاعتداء لا يمكن أن يكون على حساب الحرّية. فـ"من واجب الحاكم أن يثبّت الحكمَ ويوفِّر الأمنَ والاطمئنان للجميع. ولكنْ لا يجوز له، أيًّا كان نوعُ الحكم، أن يستبدّ، فيُذِلَّ إنسانًا أو يقتلَه بسبب حرّيّته،" كما أعلن مجلسُ البطاركة الكاثوليك بجرأةٍ نبويّة.[43]

أمّا اليوم، فإنّ إيمانَ المسيحيين بنزول المسيح إلى الجحيم، ليقيمَ أسرى الموت من الموت، يحتِّم عليهم النزولَ إلى جحيم هذا العالم وإلى الجحيم الفلسطينيّ بالتحديد. هناك سيجدون مسيحَهم، وسيشاركونه القيامةَ إلى النور والحياة. هذا النزول والقيامة متاحان لكلّ إنسان، وذلك بالالتزام بحركة المقاطعة (BDS)، من أجل القيام بالشعب الفلسطينيّ إلى الحرّية والكرامة، والسلام القائم على العدل، والتحرّر من ظلم نظام التمييز العنصريّ الصهيونيّ وأدواته القضائيّة والثقافيّة والماليّة والأكاديميّة؛ هذا النظام الذي يقتل الفلسطينيّين ويقمعهم، ويسبي أيضًا إنسانيّةَ من التزموا به فجعلهم جزءًا في آلة قمعه الوحشي؛ وصولًا إلى وطن فلسطينيّ يجمع بين الخبز والحرّية، ويساوي بين بناته وأبنائه.[44]

بيروت


[1] Foundation for Middle East Peace, Comprehensive Settlement Population 1972-2011 (2012, January 13, 2012).  Retrieved from https://fmep.org/resource/comprehensive-settlement-population-1972-2010/

[7]وهي الآتية: بطريركيّة الروم الأرثوذكس (البطريرك ثيوفيلس الثالث)، البطريركيّة اللاتينيّة (البطريرك فؤاد طوال)، بطريركيّة الأرمن الأرثوذكس (البطريرك توركوم مانوجيان)، بطريركيّة الأقباط الأرثوذكس في القدس (المطران الأنبا أبراھام)، بطريركيّة السريان الأرثوذكس (المطران سويريوس ملكي مراد)، بطريركيّة الأحباش الأرثوذكس (المطران أبونا ماتياس)، النيابة البطريركيّة المارونيّة في القدس والأراضي الفلسطينيّة (المطران بولس صيّاح)، بطريركيّة الروم الملكيين الكاثوليك (المطران يوسف زريعي)، الكنيسة الإنجيليّة اللوثريّة في الأردن والأراضي المقدّسة (المطران منيب يونان)، الكنيسة الأسقفيّة في القدس والشرق الأوسط (المطران سھيل دواني)، النيابة البطريركيّة للسريان الكاثوليك (المطران بيتر مالكي)، النيابة البطريركيّة للأرمن الكاثوليك (المطران رفائيل ميناسيان)، حراسة الأراضي المقدّسة (الأب بيير باتيستا بيتسابا).

[19] نسبةً إلى القدّيس الرسول مرقس، مؤسّسِ الكنيسة.

[22] الكنيسة المارونيّة جزء من هذا التجمّع.

[24] ممّا جاء في كلمة البطريرك إلياس الرابع في لاهور: "وإنّ ترابها، إذا انعتق بالعدل وللعدل بعد مجاهدةٍ موصولة، إنّما هو مصدرُ بركاتٍ للإنسان الجديد الذي سيظهر في عالمنا، لرفع الظلم عن أرضه ونفسه... إنّ هذا الشعب لا يزال حيًّا نابضًا مكافحًا بغية الرجوع. وإنْ كان من عودة حقّ فهي له، لأنّه بذلك يكون قد التحق بمَنشإه واستقرّ في بيته." نشرة بطريركية الروم الأرثوذكس الصادرة في آذار 1974، متوفّر على الفايسبوك:

https://www.facebook.com/Patriarch.Elias.IV/posts/612416992127341/

[25]  ممّا جاء في كلمة البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم: "القدس لأهلها لا للعنصريّة. فالعنصريّة في القدس - كما هي في كلّ مكان - لطخةٌ في جبين الحق والعدالة."

"البطريرك اغناطيوس الرابع زار المملكة أيضًا وشارك في أعمال القمّة الإسلاميّة منتصرًا للبنان،" النهار، 3/11/2017.

[26] "بيان المجمع الأنطاكيّ المقدّس 1975،" مجلة النور، 1، 1984، ص 19.

[27] لا نستند إلى استبيان علميّ في الموضوع، لكنّ هذا ما نلاحظه في الكنيسة الأرثوذكسيّة.

[28] المطران جورج خضر، "العرب،" النهار، 30/3/2002.

[29] خضر، "الميلاد والإرهاب،" النهـار، 22/1/2001.

[30] خضر، "غزّة،" النهار، 3/1/2009.

[31] خضر، "دخول يسوع إلى أورشليم،" النهار، 27/4/2002.

[32] خضر، "غزّة،" مصدر سبق ذكره.

[33] خضر، "ماذا بعد غزّة؟،" النهار، 24/1/2009.

[34] كوستي بندلي، إسرائيل بين الدعوة والرفض (لبنان: منشورات النور، 1985)، ص 21.

[35] المصدر السابق، ص 71.

[36] المصدر السابق، ص 73.

[41] "حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة" هي حركة روحيّة تسعى إلى نشر تلك التعاليم، وتقوية ِالإيمان المسيحيّ، وإيجادِ ثقافةٍ تستوحي عناصرَها من روح الكنيسة الأرثوذكسيّة. وهي تعالج المشاكل الاجتماعيّة التي تتعلق بالمبادئ المسيحيّة العامّة، وترفض التعصّب الأعمى والطائفيّة السياسيّة.

http://www.mjoa.org/

[42] إلياس خوري، "حطام السفينة،" السفير، 18/10/1986، ص 9.

[44] يقول المطران خضر: "ولكنْ ماذا بعد التحرير؟ أيُّ شكل للدولة هو مسيحيّ حقًّا؟" ويقول: "يبدو لي أنّ الدولة العلمانيّة التي تحترم كلَّ دين، وترحِّب بكلّ مواطنٍ كفؤ في المنزلة اللائقة بخدمته، هي الأقربُ إلى قلب الله… ولا ننسينّ أنّ دولةً للمسيحيّين أو دولةً للمسلمين يمكن أن تكون أبعدَ الكيانات عن الحرّيّة والعدل، وأنّ لها باسم الدين أن تُبطلَ كلَّ قيمةٍ إنسانيّة، وأن تجعل مجتمعَها سجنًا رهيبًا. الدولة الدينيّة رهيبة جدًّا لأنّنا لا نعرف في التاريخ دولةً كانت حقًّا حكْمَ الله في الأرض، ولكنّنا نعرف دولًا ثيوقراطيّةً يتحكّم بها رجالُ دين، كائنةً ما كانت التسميات..." المطران جورج خضر، الكنيسة والدولة (لبنان: منشورات النور، 1982)، ص 39-40.

خريستو المر

حائز دكتوراه في المعلوماتيّة الصحّيّة (1997)، وإجازةً في اللاهوت (2013). باحث في علوم تطبيقات الكومبيوتر في مجال الصحّة. يغطّي بحثُه مجالَ الصحّة النفسيّة، وحقوق الإنسان، وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. نشرَ عدّة كتب في اللاهوت. صدر له ديوانٌ شعريّ بعنوان: كلماتٌ للضياع، حبيبةٌ للمنفى (2018). مُساهم في مجلّة النور(تصدرها حركةُ الشبيبة الأرثوذكسيّة)، وفي الصحف اللبنانيّة، وفي مجلّة الآداب. عضو في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وفي حركة "أساتذة من أجل فلسطين - كندا."