تنفتح الستارةُ البنفسجيّة حين يَعْبر الهواءُ الشبّاك. يتكرّر مشهدُ تنفّسها البطيء. يسرح قليلًا، ثمّ يُعدّل وضعَ نظّارتيْه فوق عينيْه العسليّتين، ويغرق من جديد بين الأسطر والكلمات. يرنّ هاتفُه. ينظر إلى الشاشة. يرى رقمًا. يضع الهاتفَ جانبًا، ويعود إلى أوراقه.
ينتصف النهار. يشعر بثقلٍ فوق كتفيْه. يتمطّى في كرسيّه ويتثاءب. تسمع قطّتُه تثاؤبَه الغليظ، فتجفل. يتكوّر جسدُها الليّن وتتدحرج عن طاولة المكتب. تَحْدِجه عاتبةً. تموء، وتتكوّر من جديد فوق الأريكة. يَنهض ليلتقطَ ما وقع عن المكتب بسبب فزع لوسي. يرنّ هاتفه مجدّدًا. يتأفّف. يطفئ الشاشة. يرفع المغلّفَ عن الأرض، ويعيده إلى مكانه. يدخل الحمام. يفتح حنفيّة الماء. يعدّل حرارتَه. يقف ساكنًا، وينساب الماءُ فوق جسده.
يخرج، فيندفع البخارُ وراءه إلى غرفة النوم. يُشعل سيجارَه ويضعه على المنضدة. يفتح الخزانةَ ويشعل الضوءَ الخافت في اللمبادير الجانبيّ. يختار قميصًا أبيضَ وسروالَ جينز. يأخذ نفَسًا من سيجاره، وهو يدندن أغنيةً لصباح. يقف أمام مرآته المكسور طرفُها. يرنّ جرسُ الباب. يضع المشطَ جانبًا. يُسلِّم على أمين، ويطلب إليه أن يعتني بالحديقة الخلفيّة أكثر. يعود إلى غرفته. يقف وراء الشبّاك للمرّة الألف اليوم:
لم تظهر منذ ثلاثة أيّام!
يفصلها عنه شارعٌ ضيّق، ودرجٌ، وباب. غرفةُ مكتبه تقابل غرفةَ نومها. يعرف ذلك مصادفةً، منذ تلك الليلة التي لاح له فيها طيفُها عاريًا من خلف الشبّاك. يتخيّلها ليلةً وراء ليلة وهي تضع نظارتيها الطبيّتيْن بين شفتيها، تمرّرهما فوق عنقها ببطء، تتوقّف قليلًا عند منتصف العنق، ثمّ تُثبّتهما فوق حلمتيْها، وتستلقي تاركة شقًّا صغيرًا يعبره نحو عتمتها.
لن ينزل اليومَ إلى الجريدة. سينتظر. يعود إلى مكتبه. يكتب فقرةً. يمحوها. يمشي نحو الستارة. يرنو إلى الشبّاك الأخضر المقفل. يعود إلى محاولات الكتابة.
يدقّ جرسُ الهاتف. صوتٌ نسائيّ يدعوه إلى ملاقاته في مقهًى على البحر، ويقفل بسرعة. يتردّد في الذهاب، لكنه يُزرِّر قميصه ويخرج. يجلس في المقهى متلفّتًا حوله. يرنّ هاتفُه من جديد. يقول الصوتُ الرقيق: "سأترك على الطاولة خلفك ورقةً عليها عنوان. لاقِني هناك." يمشي الى الطاولة. يطوي الورقة، وينطلق إلى المكان. يترجّل من سيّارة الأجرة، ويدلف إلى الشارع الضيّق.
شارعٌ فارغ، فيه بناية متهالكة من طابقين، ودرجٌ متداعٍ، وشجرتان بعيدتان يلمحهما خلف السياج في بيتٍ مقابل.
يوصله الدرَجُ إلى بابٍ حديديٍّ أسود. ينفتح البابُ ما إنْ يحاذيه. يتراجع ويَهمّ بالعودة. لكنّ الدرج يختفي، فلا يجد مناصًا من ولوج البيت. يُصيخ سمعَه علّه يلتقط أيّ نأمة. يمشي بتؤدة. يناديه صوتٌ من غرفةٍ جانبيّة. يمشي نحوه. يرى طرفَ عباءةٍ حريريّة أبيض. يقف عند باب الغرفة. يرى شبّاكًا مواربًا. يتقدّم. يصل حافّة الشبّاك. يرى شجرتين كثيفتي الظّلّ في جنب حديقة، على بعد شارعٍ ضيّق وباب صغير. بينهما تقف امرأةٌ بثوبٍ أبيض حريريّ. تلوِّح له.
تبدو المرأةُ مألوفةً. يتفرّس في وجهها. لِمَ تقف بين الشجرتين في حديقته؟ أين كانت منذ ثلاثة أيّام؟ وكيف دخلت البيت؟
يتراجع. يريد أن يغادر، قاصدًا البيتَ. ترتطم قدمُه بالكرسيّ الأسود، فيقع على الأرض. يمسك قدمَه متأوّهًا. حين يختفي الألمُ قليلًا، يلمع زجاجٌ مكسّر. يلتقط إحدى القطع الكبيرة. يجرحه طرفُها المكسور. يقوم باحثًا عن ضمادةٍ لجرحه، فيرتطم بالكرسيّ من جديد. يركله مترنّحًا. يشتم ويهرول. لا يجد محارمَ. يتناول بعضَ الأوراق الموجودة على المكتب ويلفّ بها الجرح.
يعود إلى الشبّاك. تنفتح الستارة. يرى الشجرتين والشارعَ الضيّق. يتراجع وهو يضمّد يده. يزيح ما تبقّى من زجاجٍ بطرف قدمه. يتهاوى فوق الكرسيّ. ينظر إلى الأوراق البيضاء وقد لوّنت الدماءُ حبرَها الأسود. عليه أن يعيد طباعتها، لكنْ من أين يبدأ؟
يعيد قراءةَ السطور الأخيرة الواضحة. تموء لوسي حين يرنّ الجرس. تتبعه إلى الباب. يطلب إليها أن تبقى مكانها. يتكلّم مع أمين الذي عاد كي يحدّد موعدًا لتنظيف الحديقة. يرجع إلى غرفة المكتب. لوسي تجلس غاضبةً أمام المرآة. يجد المحارمَ الورقيّة، فيلفّ واحدةً حول أصابعه، ويحملها مُراضيًا ويحضنها. يواجه المرآة ممسكًا القطّة، لكنّه لا يراها. يذهل. يتهالك أمام آخر ما تبقّى من كلمات على الأوراق: "...بين الشجرتين، وبعد ثلاث ليالٍ من التخطيط، دَفن معين حمّود جارتَه عبيرَ السيّد. لكنّ أحدًا لم يعرف كيف وصل إلى شبّاك غرفتها ووقع من هناك..."
صيدا