قال لي: "طيّبُ الأشياءِ مثلُ سيّئها حين يصيران اعتيادًا." سألتُه: "وما الضيرُ في محبّة الأشياء الطيّبة ثمّ اعتيادِها؟" لا يردّ، يكتفي بالإشارة إلى براحٍ كبير يمتدّ فضاءً، لا يحيط به سور. أمّا لماذا هذا الحديث، فلذلك حكاية قصيرة.
لي خمسة أصدقاء، جميعُنا أحببنا الكتب. اجتمعنا بعد اجتياز الامتحان الجامعيّ، واتّفقنا على أن نلتقي بعد خمسة عشر عامًا. حدّدنا الموعدَ في الاثنين الأوّل من شهر مارس، الساعة الثامنة. كنّا جادّين تمامًا، وواثقين من وفائنا ومجيئنا إلى المكان المحدّد: بيتِ صديقنا الذي تظلّل مدخلَه الأشجار، وتصعد نخلةٌ تُثمر بلحًا صغيرًا على طول ارتفاع بلكونات البيت، ذي الطابقين، فى نهاية الشارع الصغير المسدود.
***
أطولُنا أحبّ الإسكندريّة، فذهب ليعيش فيها سنواتٍ طويلة، وحينما هاجر أوصانا جميعًا بها. معه، عرفنا كيف نحبّ الإسكندريّة، ومن حينها كرهتُ المدنَ التي لا شاطئ لها. حين غادرَنا ذات مساء مسافرًا وودّعناه، كان يستودع نسماتِها طيفًا وتصاويرَ تتهادى فى خيالنا، فاحتفظنا بها كما منحَنا إيّاها. رويدًا، ظهرتْ مساحاتُ الصلع فى رأسه، وهي اليوم في صوره الجديدة قد استدارت كبقعة مضيئةٍ كبيرة. نذكّره بصورته على شاطئ ميامي فى الواحدة والنصف من بعد منتصف الليل، ذاتَ صيفٍ بعيد، وشعرُه طويلٌ تنثره الرياح. يقول له أحدُنا إنّه كان يطيل شعره كثيرًا ـــــــ وهو مدرك ـــــــ ربّما ليحتفظ بتلك الصور، فيضحك.
القصيرُ صار تاجرًا، وفتح خمسة فروع لمتاجره. يطلق على كلّ منها، ساخرًا، اسمًا لواحدٍ منّا. يبيع أشياءَ كثيرةً، ومن بينها الكتب. ويقول لنا: "أعرضُها هنا وفاءً لمحبّتكم." وأسأله عنها، يقول: "لا أقرأها." ويضيف:"أنا الرأسماليّ أيّها البلهاء. سأذكّركم بتلك الجملة التى قرأناها معا: ‘المدينة لم تعرف رأسماليًّا يهوى قراءة الكتب!’" لكنّه، حين تصدر كتبٌ جديدة، يجمعها فى صندوق أنيق ويهدينا إيّاها، مع رسالة قصيرة: "أقرأوا ولا تدعوا أولادَكم يقرأون."
***
الأشقر كان مغرمًا بفتاة، يكتب فيها القصائد مساءً، وينتظرها فى الصباح. نقول له متى تُشفى؟ فيغضب ويسبّنا. يطلب من أحدنا التوسّطَ لديها. كان لها سحرٌ لا يشبهُ مَن حولها، فصار كلّما ذهب واحد إليها رجع مسحورًا بها. صارحناه: "أيّها الصديق، هى أبهى من أن يتّسع لها خيالُكَ وحدك." مضى يعتزم قطيعتنا، بحثنا عنه ووجدناه هناك فى المقهى. استقبلَنا ضاحكًا، وانتهى كلّ شيء من دون دراما زاعقة. من يومها صارت صديقتَنا الطيّبة.
***
ذو النظّارة، الطبيب، مستشارُنا على الهاتف، ذهب ليدرسَ فى أرض الإنجليز. أرسل رسالةً موحّدة لنا جميعًا: "سأبقى هنا!" أَيقنَ أنّ موعدًا قد حان ليتصالح مع المستعمِر القديم، فشغل وظيفة، وبنى منزلًا، في حديقته زهورٌ جميلة، وتزوّج من إنجليزيّة أجدادُها من الفايكنج المهاجرين. هو صاحبُ تلك الجملة الأشهر فى كتاب صداقتنا: "عن لون ملابس خاصّة سيجعلها رايةَ تغييرٍ يأتي." لا شيء كبيرًا جاء، وظلّت تلك الملابسُ تصنع الذكرى، متبوعةً بسؤال: "كيف اهتدى عرّافُنا الخاسرُ إلى تلك الجملة؟!"
***
الضاحك، تركْنا له أن يختار ما يريد من ملابسنا ليكون متأنّقًا على طريقته، ويزور مَن يحبّ، ويلحّ في طلب يدها. انتظرَها مساءً حتّى اليوم الثاني على الشاطئ، ونام هناك. عاد وقد أكل الناموسُ وجهه. صرنا نلحّ عليه فى دفع إيجار ما أخذ من ملابس، فيقدّمها لنا مهترئةً متربة، صائحًا: "إنّها بضاعتكم الملعونة... هي السبب." ممثّلًا صار، وتمنحه الدراما أدوارًا كبيرةً تزدحم فيها حركةُ النساء من حوله.
***
لم يلتزم أحدٌ بالموعد الذي حدّدناه؛ فتلك أفكار ربّما استوحاها صديقُنا من فيلم أجنبيّ، وكانت عاطفتُنا تميل إلى تصديق أمور كهذه. لا سبب محدّدًا لذلك، ربّما لأنّ أحدنا، بعد مضيّ سنوات، مرّ على البيت ذي الأشجار،ورأى موضعَ جلستنا وقد صار امتدادًا خارجيًّا لمحلّ تصليح سيارات، وشاهد النخلة يجلس في ظلّها زبائنُ المكان، وعاين الطابقين القديمين وقد صارا الآن طوابقَ لايحصيها النظر.
لم يذكّر أحدُنا الآخرين بذلك الموعد، ولا بما حدث، سوى مؤخّرًا. فقد أقسم هذا الأشقرُ بمن نحبّ في الحياة أن نأتي. اجتمعنا فى خطبة ابنته. وقف يخلي دائرةً منتصف المكان، وينادي علينا فنذهب إليه. بدأ يغنّي شيئًا عرفناه قديمًا وأحببناه معًا. يغنّي بقوّة، وصرنا نغنّي معه، ونبكي كثيرًا.
القاهرة