إلى اليوم، أخفقتْ مدارسُ الغرب السائدة في فهم طبيعة ارتباط الشيعة الإماميّة بمراجعهم. ولأنّ إيران – عدوّ الغرب الاستعماريّ اللدود - هي المركزُ الأساسُ للتشيّع، فقد جرى تغييبُ قضيّة العلم الفقهيّ و"الأعلميّة" الدينيّة في معظم دراسات مراكز الأبحاث والنشر الغربيّة التي تتناول الثورةَ الإسلاميّةَ في إيران وامتداداتِها (مثل المقاومة الإسلامية في لبنان). حتى الدراسات التي ذُكر فيها شيءٌ عن علاقة الشيعة بمراجعهم، وعن طبيعةِ الطاعة التي يقدّمها المُقلِّدُ إلى المجتهد، فقد جاء ذلك بشكلٍ عابر، مع أنّ هذه العلاقة أساسيّة في البناء الاجتماعيّ الشيعيّ.
لا يغفل الباحثُ في هذا المجال، مثلًا، أنّ حصيلةَ أربعة عقودٍ من عمر الدراسات التي تناولت المجتمعَ الإيرانيّ، قبل الثورة وبعدها، لم تُقدِّم شخصيّةَ مؤسِّس الجمهورية الإسلاميّة وقائدَ ثورتها، الإمامَ الخميني، على أنّه المرجعُ الفقهيُّ الأعلى، وزعيمُ الحوزة الدينيّة في قم، وصاحبُ "الأعلميّة" في أمور الدين بين جميع المراجع وعلماء الدين الشيعة الباقين. فلقد أنتج الباحثون الغربيون الأوائل نَفَسًا عامًّا في المقاربة والتحليل، ما لبث أن تبنّاه اللاحقون، جُعِلَ فيه "الوليُّ الفقيهُ" منصبًا سياسيًّا ذا صبغةٍ دينيّة، أو بمعنًى آخر إمبراطورًا فارسيًّا جديدًا بحُلّةٍ دينيّةٍ تناسب الثقافةَ الشيعيّةَ للشعب الإيرانيّ في هذا العصر. وذلك فهمٌ، إذا لم نَحْملْه على خلفيّة تهجُّمِ "الديمقراطيّات" الغربيّة الدائم على أنظمة الحكم الشرقيّة "المتخلّفة" (إلّا حين تكون في خدمة الغرب)، فلا يبعُد أن يكون إسقاطًا للتاريخ الأوروبيّ القديم، وبالتحديد فكرة الإمبراطور/ الإله الرومانيّ، على قضية الحاكم ذي الخلفيّة الدينيّة. وهذا الإسقاط يتناغمُ مع اعتبار الحكم الإسلاميّ من بين أنظمة الحكم القروسطيّة، التي تجمع الدينَ والسحرَ والأساطيرَ الشعبية والعصبيةَ القبليّة في خدمة الطبقة الحاكمة. كما يبدو أنّ "طعْوَجَة" الثورة الاسلاميّة ومنطلقاتها لتَرْكبَ على سكّة التحليل "الماركسيّ" المزعوم أظهرتْ عوراتِ بعض الماكينات الفكريّة الغربيّة في فهم عقليّة "المجتمع الشيعيّ" من زاوية ثقافته الدينيّة، وعجزَها عن استيعاب روافد صناعة الرأي العامّ لدى شعوبنا، وضمنهم الشيعة.
***
ينقسم تاريخُ الحركة الاجتماعيّة الشيعيّة، حسبما يفهمه علماءُ الشيعة، إلى مرحلتيْن كُبرييْن:
- مرحلة القيادة المعصومة، وهي المرحلة التي كان الأئمّةُ الإثنا عشر من ذريّة النبيّ محمّد حاضرين وقادرين على التواصل مع قاعدتهم الشعبيّة.
- مرحلة القيادة غير المعصومة، وهي المرحلة التي بدأ فيها علماءُ الدين الشيعة بقيادة الشيعة على جميع المستويات، بعد غياب القادة المعصومين.
وتُعتبر الموادُّ التاريخيّة، الشيعيّة وغير الشيعيّة، المصدرَ الأساسَ أمام طُلاّب الحوزات الدينيّة لفهم المرحلة الأولى وحيثيّاتها، حيث يُمضون ما لا يقلّ عن عقديْن من الزمن قبل أن يصلوا إلى أولى درجات الاجتهاد في فهم التشيّع. والفقيه المجتهد لدى الشيعة هو الفقيه القادر على إعطاء رأيه في قضايا المجتمع الإسلامي، بما يُعتبر متناغمًا مع آراء المعصومين ومنسجمًا مع تاريخ المرحلة الأولى.
تُعتبر الموادُّ التاريخيّة المصدرَ الأساسَ أمام طُلاّب الحوزات
يسعى الشيعة المتديّنون، إذًا، في تقليدهم للمرجع الدينيّ في الآراء الفقهيّة، إلى العمل الذي يكونون أقربَ فيه إلى مرضاةِ الله، عبر الاقتراب ما أمكن من حكم المعصوم. ومن هنا تنبثق قيمةُ "الأعلميّة الفقهيّة" كقيمةٍ رئيسةٍ لدى الشيعة الإماميّة بشكلٍ خاصّ، وتَحْكم كلَّ منظومة قيمهم الدينيّة.
فلو أخذنا مثالَ الإمام الخمينيّ، في وصفه أحدَ أبرز مراجع الشيعة في تاريخهم، سنجد أنّه كان، قبل كلّ شيء، الفقيهَ الأعلمَ عند الشيعة، وعلى مستوًى عالميّ، لا في إيران وحدها، إذ إنّ قضيّة "الأعلميّة" بالنسبة إليهم لا تقف عند حدود سايكس - بيكو والجغرافيّات الاعتباريّة. من هنا يجب أن تُفهم قدرةُ الإمام العجيبة على تحريك جماهيره لا في ايران وحدها، بل في البلاد العربيّة مثل لبنان أيضًا، وفي العديد من البلدان الإسلاميّة غير العربيّة، على الرغم من كلّ التضييق الذي عاناه هو وأتباعُه. ولئن تفاوت هذا التفاعلُ بين بلدٍ وآخر، فذلك نتيجةٌ طبيعيّةٌ لتفاوت القدرة على الاتصال والتأثير بسبب البعد الجغرافيّ، والاختلاف اللغويّ، وقمعِ أنظمة الحكم في هذه البلاد وتحكّمها في توجيه الرأي العامّ، وغير ذلك.
***
أسّس الخميني لقطاف الثورة على امتداد أكثر من أربعين سنةً، وذلك من خلال دروسه في الحوزة، وإعدادِه للمبلّغين المؤمنين بالولاية المطلقة للفقيه. وساهم هؤلاء في انتشار هذه الفكرة لدى فئات الشعب المختلفة، مثل مطهّري وباهنار وبهشتي.
هذه العقليّة في العمل الدينيّ ــــ أي العمل المستمرّ ضمن إطارٍ يمتدّ على مدى حياة الفقيه، ونحو أهداف ثابتة ينشد الوصولَ إليها ــــ يمكن الاصطلاحُ على تسميتها بـ"العقليّة القيميّة في التشريع الدينيّ." والمقصود هو استنادُ تشريع الفقيه إلى مجموعةٍ من القيم الأساسيّة، يُوليها أولويّةً خاصّةً، ويسعى إلى تثبيتها في المجتمع الخاضع لتأثيره ضمن الأطر المتاحة له؛ ما يشكّل في حدّ ذاته منهجًا سياسيًّا خاصًّا بهذا الفقيه: فلا يعود تشريعُه مرتبطًا بالموروث الدينيّ فقط، بل يبني على النّص المقدّس، ويقيسه بالظرف الزمانيّ والمكانيّ وطبيعة الفرص والتحديّات كذلك، ليَخرج مشروعًا كبيرًا ينفق الفقيهُ عمرَه وجميعَ المقدّرات التي تصل إليه في سبيل تحقيقه وإعدادِ مَن يُكْمله بعد وفاته.
ويمكن القول إنّ هذه العقليّة القيميّة هي التي أنتجتْ فقهاءَ مثلَ الشيخ شمس الدين المكّي الجزّيني، المعروف بالشهيد الأوّل (1384م)، وهو الذي ثبّت أركانَ الفقه الشيعيّ الإثنيْ عشريّ من خلال: تخريجِه عشراتِ الفقهاء اللامعين على مدى حياته، وإنشائه حوزةَ جزّين، وتحويلِ بيته في دمشق إلى مدرسةٍ دينيّة (سرّية ثمّ علنية)، وإنشائه شبكةَ علاقاتٍ واسعةً مع علماء السنّة والشيعة في البلاد العربية وإيران. كما كان لكتبه التي بلغت العشرات ــــ لا سيّما كتابُ اللمعة الدمشقيّة، الذي كتبه في سجن الشام، وصار في ما بعدُ المتنَ التدريسيَّ الأوّل لطلّاب العلوم الدينيّة في الحوزات الشيعيّة إلى يومنا هذا ــــ الأثرُ البالغُ في حفظ التراث العلميّ الشيعيّ. وأدّت حركتُه الاجتماعيّة والسياسيّة المتنامية إلى توجّس الحاكم المملوكيّ في الشام منه، ثم سجنِه، وإعدامِه.
كذلك كان الشيخ زين الدين الجبعي العاملي، المعروف بالشهيد الثاني (1558م). فقد تحرّك بين بعلبكّ والجنوب، وأنشأ الحوزات، ودوّن العديدَ من الكتب المهمّة في مجال الفقه، قبل أن يقتلَه الحاكمُ الموالي للعثمانيين.
كتب الشهيد الأوّل "اللمعة الدمشقيّة" في سجن الشام قبل إعدامه
ولا شكّ في الدور الذي لعبه علماءُ جبل عامل على مستوى البلاد الإسلاميّة، بدءًا من الدولة الصفويّة، من خلال الشيخ محمد الحرّ العاملي (1693م)، صاحب كتاب وسائل الشيعة، وقاضي قضاة خراسان؛ إلى الشيخ ناصيف النصّار، الذي شكّل مجموعاتٍ مقاتلةً في جبل عامل، تحوّلتْ إلى شبه جيشٍ هَزم جيشَ الشهابيين القادم من جبل لبنان لاحتلال المنطقة في معركة كفر رمّان (1771م)؛ إلى جمال الدين الأفغاني والسيّد محسن الأمين والسيّد عبد الحسين شرف الدين وغيرهم من الذين تركوا بصمتهم المؤثِّرة في تاريخ التشيّع. وكان هذا الدور ضمن مجموعة قيم أساسيّة انطلقوا منها. وعلى رأس هذه القيم: حفظُ التراث العلميّ الشيعيّ، وحفظُ الجماعة الشيعيّة، وحفظُ اندماجها بمحيطها الإسلاميّ، وعدمُ الغرق في فِتنٍ داخليّة، ونشرُ العلم بين أبناء المذهب حول الفهم الشيعيّ للدين والقرآن. لقد تمكّن هؤلاء العلماء من إظهار الاتّحاد التام بين الدعوة الدينية ورئاسة المذهب وبين العمل السياسي الاجتماعي، ونقلوا الدين من الكتب والحوزات والجلسات الخاصّة إلى واقع حياة المسلمين الشيعة.
***
على أنّ هذه "الأعلميّة الفقهيّة" لا تأتي مجرّدةً بالكامل عن محيطها الطبيعيّ. فلا بدّ في نهاية المطاف من أن تؤثّر شخصيّةُ الفقيه المجتهد وصفاتُه النفسيّة في طبيعة الأحكام التي يُصدرها. وحيث إنّ هذه الشخصية تدخل في صناعتها مكوّناتٌ شتّى، فلا بدّ من أن تترك أثرًا مختلفًا باختلافها بين فقيهٍ وآخر. إلّا أنّ هذا الاختلاف الطبيعيّ في صناعة الشخصيّة الإنسانيّة للفقيه، ليس السبب الأساس في اختلاف الفقهاء الشيعة، خصوصًا في الأحكام المتعلّقة بالقضايا الكبرى، كالبتّ في قضايا السلم والحرب وكل ما يمسّ الدماءَ والأعراض.
ففي مقابلِ ما ذكرنا، تكثُر الأمثلةُ في التاريخ الشيعيّ البعيد والقريب على فقهاءَ لم يتصدّوْا للقضايا السياسيّة في مجتمعاتهم. ويكفي النظرُ إلى أمثلة الأمس القريب لفهم جوهر هذا الاختلاف، الذي يصل إلى حدّ التناقض، في إصدار الأحكام الشرعيّة.
فعشيّةَ الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، كان تيّارٌ كبيرٌ من علماء الشيعة يتبنّوْن خيارَ عدم قتال "إسرائيل،" وذلك بحجج عديدة، مثل "عدم القدرة على إحداث فرْق" و"أولويّة حفط وجود الطائفة" و"كون الشيعة غيرَ مضطرّين للقتال بالنيابة عن الآخرين"...وغير ذلك ممّا يمكن الاصطلاحُ على تسميته بـ"الفقه التبريريّ،" أيْ حين يكون الفقيهُ قادرًا على تبرير عدم تصدّيه لقضية معينة من باب صعوبة الظرف المادّي.
أمّا في المقلب الآخر، فعندما توجّه السيّد عبّاس الموسوي ومجموعةٌ من الفقهاء اللبنانيين إلى إيران، في بدايات اجتياح 1982، للسؤال عن طبيعة التكليف الدينيّ في مقابل العدوان الصهيونيّ، كان جوابُ الخميني حاسمًا: "أصمدوا وقاتلوا إسرائيلَ ونحن سنساعدكم بما أمكن!" هذا على الرغم من الضعف الشديد في إمكانات المقاومة في لبنان آنذاك، وصعوبة وضع إيران في مواجهة حرب صدّام حسين. ومن قبل السيّد الموسوي، كان الإمام موسى الصدر يقول: "سأقاتل الصهاينةَ بأظافري إذا دخلوا لبنان!" وحين توسّل بعضُ المراجع لدى الخميني أيّامَ احتدام الثورة ضدّ النظام أن يتوقّف عن الطلب من الشعب النزولَ إلى الشوارع حتى لا يسقط المزيدُ من الشهداء، رفض الإمام ذلك وقال لهم: "أنا سأتحمّل مسؤوليّة دماء هؤلاء الشهداء يوم القيامة."
القيمة الأساسيّة التي جعلت الإمامَ الخميني والإمامَ الصدر يُفْتيان بالجهاد، على الرغم من قلّة الإمكانات ووجودِ ما يكفي من التبريرات، هي أولويّةُ قيمة مواجهة القوى الاستكباريّة، وضرورة الجهاد ضدّ أمريكا و"إسرائيل" وقوى الاستعمار الجديد حيث أمكن، وبما توفّر، ولو أدّى ذلك إلى خسائر.
هذا الاختلاف بين المدرستيْن، القيميّة والتبريريّة، لا يزال اليوم منطلَقًا لاختلافاتٍ كبرى بين الفقهاء الشيعة حول القضايا المصيريّة. وقد عادت وبرزتْ في الفترة الأخيرة، على إثر الحرب السوريّة، وهجمات "داعش" على العراق ولبنان؛ إذ لا زالت بعضُ الآراء تجد مبرِّراتٍ وتشكيكاتٍ في صحّةِ ما قام به المَراجعُ الكبارُ في إيران والعراق من ملاقاةٍ لدعوة "الوليّ الفقيه" في "الجهاد الابتدائيّ" ضدّ الغزاة - - أي الهجوم عليهم من أجل منعِهم من الهجوم على البلاد المحيطة. وإذ يبدو اليوم الفقهُ القيميُّ في موقعِ مَن أثبت قدرتَه على قلب الواقع، وفعاليّتَه في مواجهة التحدّيات الكبرى وصدّ الهجمات؛ فإنّه يبقى على مَن لا زال يتبنّى التبريرَ منطلقًا لآرائه وأحكامه أن يقدِّم تصوّرَه لمستقبل "الجماعة الشيعيّة" وخطّتَه لتحقيقه.
خلدة - جبل لبنان