أستاذ باحث، مراسِل مجلّة الآداب في المغرب.
حوار مع البروفيسور عبد القادر الفاسي الفهري: الفصحى، اللهجات، الفرنسيّة، الأمازيغيّة
ندوة أدارها: عبد الحق لبيض
شارك فيها (ألفبائيًّا): جعفر سعيد، جمال بندحمان، عبد الغني عارف، عزّ الدين العلام*
عبد الحقّ لبيض: في السنوات القليلة الأخيرة ازداد سؤالُ الحرّيّات الفرديّة حدّةً في الطرح، وجدّيّةً في النقاش. وترافعتْ جهاتٌ حقوقيّةٌ ومدنيّةٌ انتصارًا لهذه الحريّات، مؤكّدةً أنّ الوقت قد حان لإطلاق مسلسل الاعتراف بها وبأهمّيّتها في منظومة حقوق الإنسان، في أفق بناء "المجتمع الديمقراطيّ الحداثيّ" الذي رفعت الدولةُ المغربيّةُ شعارَه منذ اعتلاء الملك محمد السادس عرشَ المملكة.
غير أنّ مسألة الحريّات الفرديّة تقع على تخوم المرجعيّات القانونيّة الكونيّة التي تسعى إلى إضفاء مبدإ الكلّيّة على منظومة حقوق الإنسان. ومثلُ هذا الوضع يضعنا أمام تجاذبٍ بين ما هو محلّيّ، وما هو كونيّ، في دائرة التدافع المجتمعيّ لتكريس القيم.
لقد استفاد المغرب من منظومة حقوق الإنسان بشكلٍ كبير، نظرًا إلى انخراطه في المواثيق العالميّة، وصياغة دستور 2011. وحاول أنْ يكيّف العديدَ من تشريعاته المحلّيّة مع الاتفاقيّات العالميّة، بما في ذلك الحريّات الفرديّة، مثل تحديد الزواج بـ 18 سنة، وإعطاء المرأة الحقَّ في نقل جنسيّتها المغربيّة إلى أبنائها، ومنح الرجل حقَّ نقل الجنسيّة المغربيّة إلى زوجته الأجنبيّة. والمتتبِّع يلاحِظ، في هذا الصدد، ذلك "الارتجافَ الحقوقيّ" الذي أكّد عليه المجلسُ الوطنيّ لحقوق الإنسان، وقد ردَّه إلى "سيْر المغرب بسرعتين: الأولى حقوقيّة مسرعة، والثانية ثقافيّة كابحة."
ومن القضايا الحقوقيّة الشائكة التي تتطلّب من الدولة موقفًا حاسمًا: رفعُ تجريم "الشذوذ الجنسيّ،" وإلغاءُ تجريم العلاقات الجنسيّة خارج مؤسّسة الزواج، ورفعُ الحظر عن الإجهاض، والإفطار العلنيّ في رمضان، وحريّة الاعتقاد، ومسألة الإرث، وغيرها من القضايا التي تشكّل اليوم مثارَ نقاش العديد من الفعاليّات في مسألة تدبير منظومة حقوق الإنسان.
في هذه الندوة الحواريّة نطرح للنقاش الأسئلة الآتية: هل مطلبُ الحريّات الفرديّة، اليوم، ضرورةٌ يفرضها سياقُ التغيّرات البنيويّة في المجتمع المغربيّ، أمْ هو مجرّدُ انسياقٍ وراء متغيّرات منظومة حقوق الإنسان الكونيّة؟ ما حجم التناقضات بين مطالب الحرّيّات الفرديّة، كما جاءت بها هذه المنظومةُ، وإكراهاتِ النسق القيميّ المجتمعيّ في المغرب؟ هل الحاجة اليوم إلى الترافع من أجل الحقوق الفرديّة تؤشّر على إكمال المغرب مسيرتَه في بناء منظومة الحقوق الجماعيّة واستيفاء شروط وضع قطار الدولة على سكّة المدنيّة الديمقراطيّة؟ ما الغائب الأكبر في نقاش الحريّات الفرديّة: الترسانة القانونيّة، أم التمثّلات التي يحملها الشعبُ لمفهوم الفرد والذات؟ أيُّ معنًى للترافع من أجل الحقوق الفرديّة في ظلّ تردّي الأوضاع الاقتصاديّة والتربويّة والاجتماعيّة في مغرب اليوم؟ أيُّ دور لطبيعة النظام السياسيّ المغربيّ التقليديّ في تأجيل الاستجابة لتطلّعات المناضلات والمناضلين من أجل ترسيخ قانون الحريّات الفرديّة؟ أيُّ تصوّرٍ للدولة، بمؤسّساتها ونخبها، في مسألة الحقوق الفرديّة؟ أيُّ دور لتطوّر الوعي الحقوقيّ بمسألة الحقوق الفرديّة في المحيط الإقليميّ وانعكاساته على التعاطي مع أسئلة التحوّل القيميّ في المجتمع المغربيّ؟
***
عبد الغني عارف: هذا الموضوع لا يمكن تناولُه إلّا من زاوية الرؤية إلى طبيعة التحوّلات التي يعرفها المجتمعُ المغربيّ كجزءٍ من مجموعةٍ كونيّة. والمجتمع المغربيّ يشهد تحوّلاتٍ عميقةً على مستوى البنية القيميّة المتحكّمة لدى الأفراد أو الجماعات. ولا بدّ لهذه الحركيّة القيميّة أن تتركَ آثارًا، سواء في مستوى تصوّرات الأفراد لحياتهم وتصرّفاتهم، أو لطبيعة المرجعيّة التي يُحتكم إليها لإصدار حكمٍ على هذا السلوك أو ذاك.
عندما نتحدّث عن الحريّات الفرديّة في علاقتها بحركيّة القيم في المجتمع المغربيّ، علينا أن نسأل إنْ كنّا بصدد سؤالٍ حقوقيّ أمْ ثقافيّ؟ ففي اعتقادي أنّ الأمر لا ينحصر في التشريعات التي تؤطِّر المجتمع، وإنّما تتجاوزها إلى الجانب الحقوقيّ الملتحم بالعمق الثقافيّ؛ أيْ ثمّة أبعادٌ وتراكماتٌ تاريخيّة لا بدّ من استحضارها أثناء مناقشة مسألة هذه الحريّات.
عزّ الدين العلام: موضوع الحريّات والحقوق موضوعٌ جديد في الفكر العربيّ عمومًا، إذ يكاد لا يتجاوز عمرُه خمسة عقود. وقد سبق لعبد الله العروي، في كتابه مفهوم الحريّة، أنْ أشار إلى غياب كلمة"الحريّة" في الثقافة العربيّة؛ وهو ما تبيّن لي شخصيًّا من خلال اشتغالي على التراث المغربيّ الممتدِّ قرونًا. ولكنّ هذا لا يعني غيابًا تامًّا للمفهوم، أو للرموز التي كانت تتهرّب من قيود الدولة السلطانيّة، مثل البداوة والعشيرة والتصوّف. وقد ذكر الناصري في كتابه الاستقصا أنّ الحرّيّة هي من "أمور الزندقة." أمّا في كتابات أعلام الحركة الوطنيّة، فيكاد حضورُ مفهوم "الحريّة" أن ينعدم، وكانت تُحلّ محلَّه مفهومَ "الاستقلال" في بعده السياسيّ، لأنّ هدفها كان الحصول على الاستقلال.
ثمّة عواملُ كثيرة أدّت إلى المطالبة بالحقوق الفرديّة والجماعيّة، وأهمُّها تطوّرُ النسيج المجتمعيّ في المغرب. فالأسرة المغربيّة، اليوم، ليست الأسرةَ نفسَها قبل عشرين سنة. ويبدو أنّ السؤال الحقيقيّ، في رأيي، ليس الحرّيّات الفرديّة، وإنّما الإمكانيّات المتوفّرة لتحقيق هذه الحرّيّات وسط العوائق. والعوائق كثيرة.
فالعوائق السياسيّة تتمثّل في الاستبداد وتكبيل الحريّات. والعوائق المجتمعيّة تتمثّل في سيطرة القيم الجماعيّة على حساب الحرّيّات الفرديّة، وثمة نظرة سلبيّة إلى كلّ ما هو فرديّ باعتباره إفرازًا للأنانيّة (ومن الأمثال الشعبيّة قولُهم: "لا يخرجُ من الجماعة إلّا الشيطان"). وهناك عوائق ثقافيّة تَحُول دون تحقيق الحرّيّات الفرديّة، وعلى رأس هذه العوائق الدينُ، وتحديدًا الأحكامُ الشرعيّة. والمسألة هنا مرتبطة، أساسًا، بالبعد الحقوقيّ والقانونيّ؛ فإذا كانت أغلبُ القوانين في المغرب (القانون الدستوريّ، والقانون العقاريّ، وقانون الالتزامات والعقود،...) وضعيّةً، فلماذا أصر المشرِّعُ على جعل مجال الأحوال الشخصيّة منتظمةً وفق آليّات الأحكام الشرعيّة الجامدة؟!
إنّ الأسئلة المجتمعيّة الكبرى التي تُطرح اليوم - - كالمساواة، والمناصفة في الإرث، وتحرير الجسد، وإباحةِ الإجهاض، والحريّات الجنسيّة، وحريّة الإفطار العلنيّ في رمضان - - لا يمكنها أن تتساوقَ مع وضعيّة القوانين المتكلّسة. وأتذكّر في هذا السياق سؤالًا كان العروي قد طرحه في ديوان السياسة إذ يقول ما معناه: لنفترضْ أنّ الحمايةَ الفرنسيّة أخذتْ قرارًا بمنع تعدّد الزيجات في المغرب، وأنّ المغاربة عاشوا ستّةَ عقود أو سبعة في ظلّ هذا القرار، فهل سيظلّون متشبّثين بقوانين الشريعة في هذا الخصوص؟ يجيب العروي نفسُه عن هذا السؤال، مؤكّدًا أنّ المغاربة لن يتمكّنوا من العودة إلى قوانين الشريعة ما قبل تلك الحماية. ويَستنتج أنّه يمكننا إلغاءُ حكم شرعيّ من دون أن يمسَّ ذلك بجوهر الدين، إذا كان ذلك الحكمُ يتناقض مع الحريّات، وإذا تبيّن أنّه لم يعد ملائمًا لنا.
عبد الحقّ لبيض: هل سؤالُ "الحريّة الفرديّة" اليوم في المغرب تفرضه ديناميّةُ التحوّل المجتمعيّ، أمْ هو مرتبط بالتحوّلات الكونيّة الكبرى التي تنحو نحو الاحتفاء بالحقوق الفرديّة إلى حدّ القداسة أحيانًا؟ نعرف أنّ السلطة وقّعت اتفاقيّاتٍ تفرض عليه الالتزامَ ببنودها، كبند الحريّات الفرديّة، شرطًا لاستفادته من التعاملات الدوليّة، وعلى رأسها التعاملُ مع صندوق النقد الدوليّ.
جعفر سعيد: مفهوم الحريّات لا يمكن أن يُقرأ، منهجيًّا، إلّا في ظل التراث الفقهيّ السنّيّ الذي يَعْضد الدولةَ والسياسةَ في البلاد. وعادةً ما أطرح، في هذا السياق، سؤالًا بـ"البرهان الخلفيّ": ألم تكن هناك حريّاتٌ أصلًا في التاريخ العربيّ والإسلاميّ العميق؟ تَحْضرني دومًا مفارقةٌ واضحةٌ عندما أعود إلى "الفترة الجاهليّة،" وإلى الشعراء الصعاليك مثلًا، فأجد ممارسةً مليئةً بالحريّات (حريّة التعبير، الحريّة الجسديّة،...). فما الذي حدث حتّى غطّت العالمَ العربيّ، ومنه المغرب، غيمةٌ كبيرةٌ من الإكراه والإخضاع؟في تقديرنا الشخصيّ أنّ الزواج المصلحيّ بين السياسة والفقه عمومًا، والفقهِ السنّيّ خصوصًا، هو الذي أعطى إيقاعًا معيّنًا لمسألة الحريّة، والحريّةِ الفرديّةِ على وجه التحديد.
إنّنا مطالبون بصوغ أسئلة حول طبيعة هذه الوضعيّة الهجينة التي آل إليها المجتمعُ المغربيّ؛ ذلك أنّه كلّما أقرّ البعضُ بتصاعدٍ جريء للحريّات في المغرب، ومنها الحريّاتُ الفرديّة، برزتْ مواقفُ تشي بقوّة حضور التقليدانيّة العريقة في الحياة العامّة والخاصّة. وتظهر هذه الهجانةُ أكثر في شكل نظام الحكم عندنا: فهذا النظام، الذي هو شكليًّا نظامٌ دستوريٌّ محكومٌ بقوانينَ وضعيّة، هو نفسه نظامٌ "فوق دستوريّ،" يحتكم إلى الأحكام الشرعيّة، وعلى رأسها نظامُ إمارة المؤمنين.
إذًا، من الناحية المنهجيّة لا تمْكننا قراءةُ الحريّات الفرديّة، والحريّات بشكل عامّ، إلّا في ضوء المجتمع والتاريخ، بل في ضوء الفقه أيضًا. والسؤال الذي يجب طرحُه هو: هل نَقلَ التراثُ الحريّةَ كما كانت معيشةً، أمْ أعطاها قالبًا معيّنًا في كيفيّة تفسير النصوص المقدّسة؟
عدتُ إلى بعض الآيات التي بموجبها صُنِّفت الحريّاتُ باسم الأحكام الشرعيّة، فوجدتُ أنّ الفقهاء الرسميين يستندون إلى آيةٍ من سورة الكهف: "وقل الحقّ من ربّكم فمَن شاءَ فليؤمنْ ومَن شاء فليكفرْ." هذه واحدة من الحريّات الفرديّة المسنودة شرعيًّا، ونعني بها حريّةَ المعتقد. ولكنْ حين عدتُ إلى فتاوى "المجلس العلميّ الأعلى" في الموضوع، وحاولتُ أنْ أبحثَ فيها عمّا يتناصّ مع القانون الجنائيّ، وبخاصّةٍ مع الفصل 220، توقّفتُ عند حكم هذا المجلس في مسألة الرِّدّة، فوجدت أنّ المرتدّ هو المرتدُّ شرعًا، قبل أنْ يتحوّل المجلسُ عن هذه الفتوى ليقول إنّ الأمر يتعلّق بردّةٍ سياسيّةٍ لا ردّةٍ شرعيّة. وعدتُ إلى تفسيرات الفقهاء الأوّلين، وتحديدًا الفقهاء الذين لم يكونوا محكومين بالهمّ السياسيّ، فوجدتُ أنّ الشريعة الإسلاميّة تنصّ على الحرّيّة؛ إذ إنّ واحدًا من الأنصار كان على ديانة الإسلام، لكنْ كان له ابنان على ديانة النصرانيّة، فهل يُكْرههما على اعتناق الإسلام؟ حينها، طلب من الرسول أن يفتي في الأمر بناءً على مبدأ الوحي، فنزلت الآيةُ التي تفيد بأن يبقيا على دينهما.
أعتقد أنّه يمكن تعميمُ هذه الحادثة على كلّ المواقف الأخرى المتضمّنة لأسئلة الحريّات الفرديّة، إذ إنّ الأصل في الشرع هو الإباحةُ وعدمُ الإكراه. فما الذي يجعل العقلَ السياسيَّ يضع فصلًا قانونيًّا ضمن القانون الجنائيّ يخالف المبدأ الشرعيَّ الواضح في مسألة حريّة الاعتقاد؟
جمال بندحمان: أودّ أنْ أتناول موضوعَ الحريّات الفرديّة من زاوية التاريخ الفكريّ، فأطرحَ أمامكم السؤالَ الآتي: هل الخلل كامن في كلّ المنظومة الفكريّة العربيّة، أمْ هو قائمٌ فقط في المنظومة التي جرى انتقاؤها واعتمادُها في إطار ذلك الزواج بين نوعٍ من الفقه ونوعٍ من السياسة السائدة؟
أحيلكم هنا على فرقة المعتزلة، التي ربطت العدلَ بالحريّة. لا أقول إنّ المعتزلة كان لها فهمٌ عميقٌ لمسألة الحريّة، لكنْ على الأقلّ كانت لديها إشاراتٌ تراثيّة لو استُثمرتْ بشكل إيجابيّ لرسّختْ مفهومَ الحريّة في فكرنا التاريخيّ العربيّ.
كما أحيلُكم على ما كتبه سلامة موسى في حريّة الفكر وأبطالها في التاريخ، وعلى كتابات علال الفاسي في المغرب. وقد أضيفُ الحسن الوزاني، الذي قال إنّ الإعلان عن الاستقلال كان ينبغي أنْ يُردَفَ بالإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن.
أعتقد أنّ هذه الإحالات مهمّة، وأنّ استحضارها أساسٌ للشروع في التفكير في موضوع الحريّات الفرديّة أو الحريّات بصفة عامّة.
لماذا أركّز على هذه الفكرة؟ يقول محمّد عابد الجابري: إمّا أنْ نكونَ تراثيين، وإمّا أنْ يكونَ لنا تراث. وهو يميل إلى الشقّ الثاني من العبارة. لكنّنا نعيش في عالمٍ ذي إكراهاتٍ كبرى. وأريد هنا أنْ أسير في طرح الأستاذ العلام، فأقول إنّ الإشكال ثقافيّ لأنّ البعدَ الدينيّ حاضرٌ فيه بقوّة - - سواء بالنسبة إلى مَن يرى فيه عائقًا لتحقيق منظوره، أو ذاك الذي يتّخذ منه منطلقًا لبناء المواقف. الإدارة الاستعماريّة الفرنسيّة نفسُها سنّت نصًّا قانونيًّا يجرِّم الإفطارَ العلنيَّ في رمضان. فرنسا، التي تدّعي أنّها رائدةُ الحداثة والأنوار، كانت ترسّخ شيئًا تراثيًّا دينيًّا معمولًا به لحدّ الآن.
بالنسبة إلى المغرب، أعتقد أنّ التعامل مع مفهوم الحرّيّات الفرديّة نفعيٌّ بالمعنى الفجّ للكلمة؛ ذلك لأنّنا لا نتحدّث عنه كي نرسّخَه، بل لتسويغ مواقف وسلوكات معيّنة، وبعدها يتوقّف النقاشُ في المفهوم!
ثمّ إنّنا حين نتحدّث عن الحريّات الفرديّة، فنحن في قلب النقاش حول موضوع القيم. وهذا الموضوع في المغرب ملتبس، لأنّ الاختيارات الرسميّة تعكس تناقضًا وضبابيّةً لكون المرجعيّة "التقليدانيّة" لم تؤسِّسْ جدّيًّا لمفهوم الحرّيّات. كما أنّ نقاشَ هذا الموضوع لا يؤسَّس على أطروحات قادرة على تقديم بدائل ممكنة، بقدر ما نجدنا أمام مجموعة من ردود الأفعال الانفعاليّة من كلا الطرفين، التقليديّين والحداثيين. ولنتأمّلْ فقط جارتَنا تونس بهدف المقارنة، وأحيل على تقرير لجنة الحريّات والمساواة هناك؛ فحين تطرّق التقريرُ إلى مسألة الإرث، قرّر إتاحةَ الاختيار أمام الفرد التونسيّ: بين تقسيم الإرث بحسب تعاليم الشريعة، أو الاحتكام إلى مبدأ المساواة الذي تُقرّه القوانينُ الوضعيّة. وبذلك حلَّ معضلةَ الجدل الاجتماعيّ حول الموضوع، ووسّع مجالَ الحريّات في الاتجاهين التراثيّ والحداثيّ.
وأخيرًا، فإنّ مساحة الحريّات الفرديّة تتعلّق بشكل الدولة. هنا يجب الاعتراف بأنّ هذا النقاش ليس من أولويّات الدولة، بل يبقى منضبطًا بإيقاعات النظام. في تونس، شرعيّةُ الدولة ليست مستمدّةً من الدين والبيعةِ والانتماءِ إلى الدوحة الشريفة وآلِ البيت الكرام. أمّا في المغرب، فدورُ الدين مركزيّ في بناء شرعيّة الدولة. لذلك لا نتخيَّل انفتاحًا واسعًا للنقاش في موضوع الحريّات الفرديّة لأنّ من شأن ذلك المساسَ بأسس النظام ومقوّماته.
عبد الحقّ لبيض: أسأل الأستاذ عارف: ما موقع مسألة الحرّيّات الفرديّة من الهويّة؟
عبد الغني عارف: المجتمع المغربيّ تحكمه ثقافةٌ تقليديّةٌ محافظة، على الرغم من كلّ المظاهر التي توحي بعكس ذلك. وبالتالي، فإنّ المرجعيّة الدينيّة تَحْضر بقوّة، خصوصًا أنّ الحكم مؤسَّس على فكرة "إمارة المؤمنين." وأتفقُ هنا مع الأخ جمال في مقارنته بين المجتمعيْن المغربيّ والتونسيّ؛ فالثاني أكثرُ انفتاحًا وأقلُّ محافظةً. وهذا ما يفسّر طبيعةَ التغيير السريع في البنية السياسيّة بعد "ثورة الياسمين،" التي كانت قد طبعتْها "حركةُ النهضة" بتعبيراتها الدينيّة، وإذ بقوًى سياسيّةٍ أخرى أكثرَ علمانيّةً تتصدّر المشهدَ اليساسيّ. وأعتقد أنّه لو حصل في المغرب ما حصل في تونس، واستولت بنيةٌ ثقافيّةٌ معيّنة على السلطة، فستكون هناك صعوباتٌ كبرى في التراجع عن خياراتها لأنّ المجتمعَ المغربيّ جدُّ محافظ ومتمسّك ببنياته التقليديّة بشكلٍ ملحوظ. ومع ذلك فثمّة جزءٌ من المجتمع المغربيّ توّاقٌ إلى تحقيق التغيير، وإلى تبنّي قيم الانفتاح على عالم الحداثة والغرب - - جغرافيًّا (لقرب المغرب من أوروبا)، وتاريخيًّا (بسبب علاقات معيّنة بين الضفّة الجنوبيّة والشماليّة من البحر الأبيض المتوسّط). وهذا التراوح بين التقليدانيّة من جهة، والحداثة من جهة ثانية، هو ما عبّر عنه الجابري بـ"التذبذب" الذي يميّز المجتمعَ المغربيّ.
وبالعودة إلى مسألة الهويّة أقول إنّ النقطة التي كادت تفجِّر النقاشات داخل لجان الدستور المغربيّ هي مسألةُ الدولة المدنيّة. وقد كانت الصيغةُ الأولى من الدستور تتضمّن الإشارةَ إليها، لكنْ في آخر لحظة سُجّلتْ ضغوطٌ لحذفها. وهذا الحذف يعكس صراعًا تاريخيًّا عميقًا بين قوى المحافظة والتقليد من جهة، وقوى الحداثة والعلمانيّة من جهة ثانية. هذا المعطى يجد جذورَه العميقة أيضًا في التاريخ العربيّ الإسلاميّ. وحتّى سؤالُ النهضة العربيّة في عمقه كان سؤالًا حول الحريّة في أبعادها: البعد الاجتماعيّ (الذي أفرز لنا أطروحةَ قاسم أمين عن المرأة من خلال كتابه حريّة المرأة)، والبعد السياسيّ (وكان الكواكبي قد بلوره في كتابه طبائع الاستبداد)، والبعد القوميّ (الذي صاغه شكيب أرسلان حين ركّز على مقوّمات البناء القوميّ للدولة العربيّة). وعندما نقول اليوم إنّنا نريد الحريّة، فإنّنا لا نخرج عن أفق هذه الأبعاد التي رسمتْها لنا أسئلةُ النهضة العربيّة.
لكنْ حين نطرح مسألةَ "هويّة المجتمع في علاقتها بالحرّيّات الفرديّة،" فذلك يوجِب العودةَ إلى نقطة أساسيّة ذكرتْها مقدِّمةُ الأخ عبد الحقّ: هل القيم نسبيّة أمْ مطلقة؟ في رأيي أنّ القيم نسبيّةٌ دومًا؛ بمعنى أنّ كلَّ ما ننادي به الآن من الحريّات في أشكالها المختلفة (الإفطار العلنيّ في رمضان، الحقّ في الإجهاض، حريّة الاعتقاد،...) قد نجد له حلولًا في الإطار الحقوقيّ السياسيّ، وفي إطار توافقاتٍ مجتمعيّةٍ معيّنة مشروطةٍ بضوابط تاريخيّة وثقافيّة وسياسيّة ما في فترة محدّدة. أمّا إذا ألبسنا القيمَ بعدًا مطلقًا، فإنّنا سنحتكم دومًا إلى المرجعيّة ذات النفوذ القويّ، وهي المرجعيّة الدينيّة، فنضطرّ إلى إعادة النظر في بنية السلطة السياسيّة القائمة وفي البعد الدينيّ المتحكّم في المجتمع ككلّ. وهذا نقاشٌ له كلفتُه السياسيّة والمجتمعيّة والثقافيّة، ولا أعتقد أنّ المجتمع المغربيّ اليوم قادرٌ على ركوب تحدّياته.
أودّ أن أختم مداخلتي بالربط بين ما هو ثقافيّ ومجتمعيّ وسياسيّ. لنأخذْ مثلًا موضوعَ الإجهاض. هذا الموضوع كان، حتى السنوات القريبة الماضية، محرَّمًا لأنّه منافٍ للتشريع الدينيّ والبعد الأخلاقيّ للمجتمع. ولكنْ ما إنْ تدخّلَ التحكيمُ الملكيّ في الموضوع ووجد له مسوّغاتِه، حتّى تسابقت الدوائرُ الدينيّةُ إلى إباحته، وراحت تبحث له عن المبرِّرات الدينيّة اللائقة، وكان الشرعُ طوعَ رغباتها وميولها! وأعتقد أنّ الشيء ذاتَه يمكن أنْ يحصل مع الحريّات الفرديّة بمختلف أنواعها؛ ما يدلّ على أنّ المشكل عندنا في المغرب عمقُه سياسيّ، لا دينيّ أو أخلاقيّ أو اجتماعيّ.
عزّ الدين العلام: العلاقة بين الحريّات والدين معقّدة. وملاحظة الأستاذ جعفر عن حرّيّة الاعتقاد ضمن الإطار الدينيّ ليست مقْنعة؛ فهو استشهد بآيةٍ تبيح حريّةَ الاعتقاد، ولكنّني أستطيع أنْ أقدّم أمامه الآن استشهاداتٍ من القرآن تقْطع بأنّ "الدين عند الله الإسلام" و"مَن يبتغِ غيرَ الإسلامِ دينًا فلن يُقْبلَ منه وهو في الآخرةِ مِن الخاسرين." السؤال هو: هل هناك من ضرورةٍ، أصلًا، للرجوع إلى الماضي من أجل تبرير الحرّيّات، أو من أجل تبرير حقٍّ يطمح إليه المجتمع؟ هذا الموضوع ذكّرني بنقاشاتٍ كانت سائدةً في الصحافة المصريّة حول الفتاوى: ففي مواجهةِ مَن حرّم الموسيقى، ثمّة مَن دافع عنها مستشهدًا بواقعة أنّ الرسول كان سائرًا فسمع شخصًا يعزف على الناي فاستحسنه. لكنْ لو لم تقع هذه الواقعة، لظلّت الفتوى بلا سندٍ شرعيّ، ولحُرّمت الموسيقى لأنّها من دون مبرّر تراثيّ دينيّ! وقد ذهب البعض إلى إباحة الرياضة لأنّ الرسول كان يحبُّها ويوصي بها. ومثلُ هذه المسوّغات غيرُ معقول ولا منهجيّ. فأنْ يُخضَعَ الحاضرُ لاشتراطات الماضي، فذلك من باب الدعوة إلى تجميد آليّة العقل وإلغاء التجديد و...
عبد الحقّ لبيض (مقاطعًا): لكنْ كيف تقْنعون مجتمعًا بأنّ الدين مجرّدُ ماضٍ منفصلٍ عن شخصيّته، حين لا يرى نفسَه إلّا امتدادًا لهذا الدين أو الماضي، وحين يستمدُّ مشروعيّةَ وجوده وهويّته منه، وسط عالمٍ تتلاطم فيه أمواجُ الهويّات والذوات التاريخيّة؟!
عزّ الدين العلام: أعتقد أنّ قضيّة الحرّيّات الفرديّة ليس فيها إقناعٌ وعدمُ إقناع. الحرّيّات الفرديّة هي حريّات المجتمع ككلّ، حريّاتُ أفراد متعدّدين، ولا تبتعد عن الحريّة الجماعيّة. إنّها حاجةٌ اجتماعيّة.
أعود هنا إلى الاستشهاد بالعروي. سألتْه الصحفيّةُ الراحلة مليكة ملاك من القناة الثانية: "أنتَ كتبتَ عن العقل والحرّيّة والإيديولوجيا والتاريخ، لكنّ القضيّة الوحيدة التي لم تدرسْها بشكل صريح هي قضيّةُ المرأة." فأجاب ما معناه أنّ أيّ قارئ لكتبه لا يمكنه إلّا أنْ يستنتج أنّه (أي العروي) مع حريّة المرأة، لأنّ العقل والحريّة والإيديولوجيا والتاريخ مفاهيمُ تخدم حرّيّةَ المرأة: فالعقل أساسُ أيّ تغيير نحو المجتمع الحداثيّ الذي يسمح للمرأة بالمساواة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة، والحرّيّة تتيح للمرأة التمتّعَ بجسدها ووظيفتها وثروتها، الى آخره.
أخلصُ من هذا الجواب إلى أنّ مسألة الحرّيّات الفرديّة كلٌّ لا ينفصل عن مجموع القضايا المتعلّقة بالإنسان؛ فلا يمكن الحديثُ عن الحرّيّات الفرديّة أو الجماعيّة خارج إطارٍ أشمل يهمّ العقلَ والتاريخَ والإيديولوجيا وغيرَها من المفاهيم الذي يجب أنْ تشهدَ ثورةً في بنياتها. وحينها ستكون الحرّيّاتُ الفرديّة نتاجًا طبيعيًّا لتحوّلات المجتمع.
عبد الحقّ لبيض: هل يمكن اعتبار أيّ حراكٍ خاصٍّ بمسائل الحرّيّات والهويّةزعزعةً لوضعٍ قائم وخلخلةً لقيمٍ ثابتة، ومن ثمّ لا يُسمح له بالفعل إلّا بالمقدار الذي تراه الدولةُ في صالحها؟ هل المبادرات كلُّها اليوم في يد الدولة، تحرِّكها متى تشاء وكيفما تشاء؟ ما علاقة الدولة بموضوع الحرّيّات الفرديّة؟
عزّ الدين العلام: لقد اشتغلتُ فترةً على موضوع "مكانة الدين في الدستور الجديد" (2011). وكنت قد قرأتُ هذا الدستور فصلًا فصلًا، فوجدتُ الدينَ حاضرًا في عشر إحالاتٍ غير متساوية. فهناك ثلاثةُ مستويات: المستوى الأول مجتمعيّ؛ فمثلًا ينصّ الدستور على أنّ المغاربة مسلمون - - وهو تحصيل حاصل لا يضيف شيئًا إلى القيمة الدستوريّة. أما المستوى الثاني فيتعلّق بالسياسات العموميّة (المجالس العلميّة ومجالس الإفتاء...). المستوى الثالث أكثرُ استشكالًا، وهو الذي صُرّح فيه بأنّ رئيسَ الدولة هو أميرُ المؤمنين في الوقت نفسه. يدّعي البعض أنّ الفصل 19 حُلّت مشكلتُه في الفصلين 41 و42، لكنّ الواقع أنّ المشكل ما يزال قائمًا لأنّ الفصل 41 يتحدّث عن رئيس الدولة وأمير المؤمنين، وهما شخص واحد، ولا نعلم متى يكون رئيسًا للدولة ومتى يكون أميرًا للمؤمنين! البعض أراد أنْ يحلّ المشكل عن طريق اللباس؛ فزعم أنّ الملك عندما يرتدي لباسًا عصريًّا فهو يمثّل رئيسَ الدولة، كما هو متعارف عليه في الدساتير الديمقراطيّة الحديثة، وعندما يرتدي جلبابًا تقليديًّا فهو يمثّل أميرَ المؤمنين. والسؤال الذي يؤرّقني: لماذا تحتاج هذه الدولة المغربيّة الحديثة إلى الدين؟ شخصيًّا، لا أبرِّر ذلك سوى بعجز هذه الدولة عن أنْ تتقدّم أمام مواطنيها عاريةً من المساحيق الأخلاقيّة والدينيّة، وذلك بسبب عجزها عن تجديد مشروعيّتها.
وأبقى ضمن النقاش الدستوريّ لأُبرز بعضَ العلامات الدالّة على تعويق مسار الحرّيّات الفرديّة. وأشير هنا بالتحديد إلى مسألة الزواج. ففي هذا الموضوع هناك إشارة واضحة إلى أنّ الزواج الوحيد المقبول هو الزواج الشرعيّ. السؤال: وماذا عن الذين يدافعون عن حقّهم في الزواج المدنيّ؟ مَن سيضمن لهم هذا الحقّ؟
مسألة أخرى تقيِّد الحرّيّاتِ الفرديّة دستوريًّا، وتتمثّل في منع البرلمان اقتراحَ قانونٍ للمساواة في الإرث لأنّه يمسّ حكمًا من أحكام الدين.
حين نُبرز حدودَ الدولة ونأخذ عليها عدمَ قيامها بواجباتها بخصوص توسيع مجال الحرّيّات، فإنّنا ننسى أنّ المجتمع أيضًا يُعدّ من أكبر العوائق أمام أيّ تقدّمٍ في هذا المجال. وقد أشار الأستاذ عارف إلى أنّ المجتمع المغربيّ مجتمع محافظ على الرغم من كلّ ظواهر الانفتاح البادية في بعض الأشكال والممارسات. وإنّي أرى في بعض الأحيان أنّ الدولة أجرأُ، في مبادراتها التحرّريّة والحداثيّة، من المجتمع. لذا فإنّنا، من دون ثورة ذهنيّة وثقافيّة، سنظلّ نراوح مكانَنا، وستظلّ الأسئلة هي نفسها رغم تقدّم الزمن وتحوّل الأجيال.
جعفر سعيد: أعادني كلامُ الأستاذ العلام إلى نقاش ثقافيّ بين مدرستين فكريّتين كبرييْن: مدرسة العروي ومدرسة الجابري. نحن أمام رأييْن مختلفيْن: رأي ينظر إلى مجتمعٍ مفترض، ورأي يشتبك مع قضايا مجتمعه ويُنصت إلى إيقاعاته ويتفاعل إيجابيًّا مع تناسل أسئلته ويحاول إصلاحَه من الداخل. تاريخيًّا، كلُّ أصحاب الدعوات الناجحة دخلوا في حوارٍ مع المجتمع ومع تحوّلاته، بل دخلوا في مفاوضاتٍ معه أيضًا. وأيُّ مجتمع يحتاج إلى "مثقف كاميكاز،" وهو الرجل الذي يُحْدث سرعةً إضافيّة، ويفتح مساحاتٍ في حدود تشبّثه بمقوّمات ذلك المجتمع.
من هذا المنطلق أودُّ القول إنّ العلاقة بالتراث داخل أيّ مجتمع مهمّةٌ وأساسيّة، وإلّا فكيف أقْنعُ المجتمعَ بأنّ الروحيّ أو الوجدانيّ ليس عنصرًا أساسًا في حياة الإنسان داخله؟ وكيف أتعامل مع مجتمعٍ يمتلك حرّيّاتِه الجماعيّة وأريدُ أن "أمرّر" له حريّةً فرديّة؟ إنّ التعامل مع المجتمع لا بدّ من أن يكون في حدودٍ معيّنةٍ سلفًا، وأن أعمل على تغييره بهدوءٍ وسلاسة. وهذا ما تنجح الدولةُ المغربيّةُ في تبنّيه: فهي تعي المجتمع، وتعرف سيكولوجيّتَه، ولذلك تمارس بيداغوجيا (أصولَ تدريسٍ) تُوافق سيرورتَه التاريخيّة، وتتجنّب قدرَ الإمكان صدمَه.
في خلاصة أخيرة أقول إنّ موقعنا الجغرافيّ يساعدنا على تقبّل أنفاس الحرّيّة الآتية من الغرب، لكنّ الدولة في مأزق لأنّها رسّختْ شكلًا للتفكير والسلوك المجتمعيّ يقوم على التحريم والمنع والإكراه. وللأسف، لا تجد هذه الدولة الوسائلَ الضروريّةَ للخروج من عنق هذه الوضعيّة المزرية تاريخيًّا. أمّا المجتمع فمهووسٌ بتحسين أوضاعه، والخروجِ من تسلّط الفئة الناهبة لكلّ مقدّرات الأمّة. ولعلّ المجتمع قد يعي في لحظةٍ تاريخيّةٍ ما أنّ مسألة الحريّة كلٌّ لا يتجزّأ، فيَشْرع في الوعي بقيم الحرّيّات الفرديّة كمعطًى اجتماعيّ وثقافيّ وتاريخيّ مهمّ في بناء إنسانيّة الإنسان.
عبد الحقّ لبيض: أستاذ جمال، ألا ترى أنّ نقاش الحريّات الفرديّة اليوم سابقٌ لأوانه، وبالتالي يُعدّ مشوِّشًا على أجندة الصراع من أجل تثبيت آليّات العمل الديمقراطيّة في جوانبها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة؟
جمال بندحمان: قد يقول قائل إنّ مشاكل المغرب الأساس اليوم تكمن في ضعف التنمية والشغل والصحّة والسكن. هذا النوع من النقاش مقبولٌ في عمومه، لكنّه يجب ألّا يقف عائقًا دون فتح النقاش في قضايا أخرى ذاتِ أهمّيّةٍ لا تُنكر، لأنّها مترابطة في نهاية المطاف. الكاتب "أمارتيا سن" كتب كتابَه الأوّل تحت عنوان التنمية حرّيّة، أيْ لا يمكن الفصلُ بين الأمرين.
أعطيكم مثالًا ثانيًا، وهو مفهوم العلمانيّة الذي فُهم خطأً بناءً على النقاش الذي تمّ في عصر النهضة. ولمن أراد أن يتعمّق في ذلك، فما عليه إلّا العودة إلى رسالة إلى الدهريّين لجمال الدين الأفغاني، وسيجد فيه أطوارَ النقاش الذي دار بينه وبين فرح أنطوان، وجوهرُ هذا النقاش هو الديمقراطيّة؛ بمعنى أنّك عندما تتحدّث عن الديمقراطيّة فإنّ العلمانيّة ستصبح من حواشيها، كما الحريّات الفرديّة والجماعيّة، وليس العكس.
أعود إلى المعطى الدينيّ لأؤكّد أنّنا لا نني ننطلق في نقاشاتنا حوله من اتهاماتٍ واتهاماتٍ مضادّة: فمَن رافَعَ عن الحرّيّات الفرديّة، وَسَمْناه بالكفر تارةً، وبالعمالة الحضاريّة تارةً أخرى؛ ومَن تَشبّثَ بالمقوِّمات الحضاريّة والتراثيّة والدينيّة للمجتمع، نعتناه بالتطرّف والرجعيّة، وربّما بـ "الإرهاب." ومثلُ هذه الاتهامات يَحْرف النقاشَ، ويُغلق بابَ الاجتهاد.
تساءل الأخ العلام قبل قليل: لماذا يلجأ البعضُ إلى الاستشهاد بآية؟ ببساطة، للتعبير عن بعده الهوياتيّ وانتمائه. وهذا الموقف يجرّنا إلى الحديث عن الإصلاح وبيداغوجيا الإصلاح، إذ على الفاعل المتبنّي لفكر الحريّة أن يكون واعيًا بخصوصيّة المجتمع الذي يشتغل داخله.
أعطيكم مثالًا على ذلك: أراد بعضُ الليبراليين الاقتصاديين تحويلَ مدينة أكادير إلى قِبلة سياحيّة صرفة. لكنّ وجودَ مقبرةٍ في المكان الذي يراد العملُ على تحديثه أوقفَ المشروعَ من أجل استشارة وزارة الأوقاف، التي رفضت المساسَ بتلك المقبرة؛ ما عطّل جزءًا من المشروع.
الجدير ذكرُه أنّ حضورَ الدين لا يقتصر على الغرب أو العالم العربيّ وحده. لنتذكّرْ أنّه حين أراد الاتحادُ الأوروبيّ وضعَ دستور - - وكان الرئيس الفرنسيّ السابق جيسكار ديستان هو رئيس لجنة صياغة هذا الدستور - - اشترطتْ دولٌ التنصيصَ على مسيحيّة أوروبا، فتوقّف عمل اللجنة، وتعطّل إنجازُ الدستور. إذًا، لا يكفي أنْ أحمل شعارَ "الحرّيّة" كي أجد السجّاد الأحمر مفروشًا أمامي!
أخيرًا، أتّفق مع العروي الذي يُعد من أشدّ المدافعين عن مقولةِ إنّ الاختيارات الكبرى في الإصلاح يمكن أن تأتي من الدولة. وأعطي مثالًا بـ"مدوَّنة الأحوال الشخصيّة." فمَن كنّا نعتبرهم "فقهاءَ تقليديّين" لجأوا هم أنفسُهم إلى اجتهاداتٍ فقهيّةٍ أخرى ودمجوها لتتناسب مع الرؤية الملَكيّة لإصلاح المدوَّنة، وهم الذين كانوا يقفون ضد أيّ إصلاح في هذه المدوَّنة حين كانت الحركاتُ النسائيّةُ والقوى الديمقراطيّةُ والحداثيّة ترفع شعارَ الإصلاح.
عبد الحقّ لبيض: أيُّ أفق لتكريس التقدّم في منظومة المطالبة بالحقوق والحرّيّات في ظلّ هذا التنازع بين تيّارَي الحداثة والمحافظة؟
عبد الغني عارف: يجب أن نميّز بين أربعة مستويات من القيم: 1) قيم ظاهرة، وغالبًا يتمّ التصريحُ بها، وهي تفسِّر مجموعةً من الأمور الواردة في الدستور. 2) قيم ضمنيّة، نجدها بين كلّ سطرٍ وآخر في الدستور. 3) قيم دائمة، مرتبطة بالمجال الدينيّ والثقافيّ والتاريخيّ والاجتماعيّ. 4) قيم عابرة، وهي تبرز من خلال التفاعل مع المستجدّات الكونيّة.
هذا التنوّع في القيم يفسِّر لنا أنّ ما يشكّل "حريّةً" في مجتمعٍ ما قد يشكّل "خرقًا سافرًا" في القيم في مجتمعٍ آخر؛ ومن ثمّ لا بدّ من تحقيق التوازن.
نعود الآن إلى وضع هذه المسألة في سياقها الحقوقيّ المغربيّ لنخرجَ في النهاية بخلاصات محدّدة. المعطى الأول هو أنّ التشريعات الوطنيّة المغربيّة لم تَجْرِ ملاءمتُها مع مقتضيات الاتفاقيّات الدوليّة التي تحمي الحريّاتِ الفرديّةَ وصدّق عليها المغرب. المعطى الثاني هو أنّ المعركة تبدو في الظاهر وكأنّها بين تيّاريْن (محافظ وحداثيّ) أكثر منها مجرّد مسألة حقوقيّة، ما يُدخل نقاشَ مسألة الحرّيّات الفرديّة والعامّة في حقلٍ ملغومٍ أصلًا، هو حقلُ النقاش الدينيّ - - وهذه ظاهرة يقف وراءها ويحرِّكها الفهمُ الخاطئ والشعبويّ للدين. لذا، أقترح مجموعةً من المداخل التي أعتبرُها أساسيّةً لكسب الرهان في هذه المسألة.
المدخل الأول: ضرورة عودة المثقّف إلى ساحة النقاش المجتمعيّ والتأثير فيه بقوّة. ذلك لأنّ انسحابَه في السنوات الأخيرة ترك المجالَ مفتوحًا للسلطة، أو لـ"العوامّ" الذين أصبحوا يوجِّهون المجتمعَ بخطاباتهم وتأويلاتهم؛ وهو ما كان له أخطرُ الأثر في سيرورة النقاش في مسألة الحقوق والحرّيّات بكلّ أصنافها. المدخل الثاني: ضرورة النضال من أجل توسيع هوامش الحرّيّة في المجتمع؛ وهذا لا يمكن تحقُّقُه إلّا بفضل الأحزاب والنقابات الموجودة (مهما كان موقفُنا منها أو من بعضها). المدخل الثالث: ضرورة استحضار خصوصيّة المجتمع المغربيّ، وذلك من أجل فهمها ثمّ العمل على تجاوزها عبر اجتراح أدواتٍ فكريّةٍ ومنهجيّة. المدخل الرابع: الإيمان بالديمقراطيّة فضاءً للتعايش بين مرجعيّات وخلفيّات وتصوّرات مختلفة للحياة والوجود والكون والذات. فليس هناك مجتمع خالص من هذه الخلافات، لكنْ هناك مجتمعات عرفتْ كيف تخلق فضاءً للتعايش بين هذه الخلافات. إنّ رهان الديمقراطيّة كفيل بحلّ العديد من مشكلات الحريّات الفرديّة. المدخل الخامس: ضرورة استحضار نقط الضوء في تطوّرات المجتمع. المدخل السادس: إنّ صون الحرّيّات الفرديّة والمجتمعيّة هي عمليّة بيداغوجيّة؛ لذلك تنبغي إعادةُ النظر في الوظيفة الأساسيّة والمركزيّة للمدرسة المغربيّة، وهي أن تكون ذاتَ حمولةٍ ثقافيّة. فما لم نعمل على جعل المدرسة تقوم بوظيفتها الثقافيّة، فإنّ كلَّ هذا النقاش الذي نخوض فيه سيظلّ على هامش السيرورة الثقافيّة للتغيير المجتمعيّ.
عبد الحقّ لبيض: وصف "المجلسُ الوطنيّ لحقوق الإنسان" التناقضَ بين انخراط المغرب الكونيّ في المصادقة على مجموعةٍ من القوانين الكونيّة من جهة، والكبح الذاتيّ داخل المجتمع من جهةٍ ثانية، بـ"الارتجاف الحقوقيّ." فهل فعلًا يعيش المغرب، اليوم، "ارتجافًا حقوقيًّا"؟
عزّ الدين العلام: نحن لسنا أمام "ارتجاف" فحسب، بل أمام ارتعادٍ كلّيّ أيضًا! ففي المغرب يؤلَّفُ بين المتناقضات بشكلٍ مثيرٍ للاستغراب. الدستور المغربيّ يؤشِّر صراحةً على الحقوق المتعارف عليها دوليًّا، لكنّه يتضمّن إشاراتٍ أخرى غارقةً في المحافظة والرجعيّة، ومنافيةً لما تمّ التصريحُ به مسبّقًا. فهل هناك ارتعادٌ أكثر من هذا في نظركم؟!
في اعتقادي أنّ المسائل السياسيّة والمجتمعيّة لا تُحَلُّ بقرار إداريّ أو سياسيّ، وإنما هي سيرورةٌ فيها أخذٌ وردٌّ. لكنْ لا بدّ من الارتكاز على دور الدولة، الذي يبقى أساسًا في ظلّ ضعف الحركة المجتمعيّة، وضعف دور المثقّفين والسياسيّين. غير أنّ الحرّيّات الفرديّة لا يتمّ "التصدّقُ" بها؛ فالحريّات التي استطاعت المرأةُ المغربيّةُ اكتسابَها، مثلًا، كانت نتيجةً لحركيّةٍ مدنيّةٍ نشطة. ولا بدّ، إذًا، من قوّةٍ اجتماعيّة، أو فئةٍ اجتماعيّة معيّنة، وراء النضال من أجل هذه الحرّيّات. وقد يكون المجتمع بكلّ فئاته يحسّ بالحاجة إلى هذه الحريّات فيناضل من أجلها.
جمال بندحمان: في موضوع الحرّيّات، علينا أولًا استحضارُ المدخل التاريخيّ. قدّم الأستاذ العلام كتاب الاستقصا مثالًا، وهذا المرجع يحيل عليه العروي كذلك في حديثه عن مفهوم الحريّة.
وعلينا، ثانيًا، استحضارُ "الحسّ المشترك" في هذا الموضوع؛ فالناس - بصفة عامّة - يفهمون الحرّيّةَ كأنّها فعلُ ما نريد مِن دون حسيبٍ أو رقيب. وما لم نفهم هذين المدخلين، فسنظلّ أمام انسداد أفق نفسيّ ومجتمعيّ.
أما المدخل الثالث فثقافيّ، وأوسِّعُه لأدمجَ فيه الدينَ. وهذا ما يطرح السؤالَ الآتي: لماذا استقال المثقّف من الخوض في قضايا الشأن العامّ؟ قد تكون للمثقّف مبرِّراتُه التي تعود أساسًا إلى دور السياسيّ في اكتساح فضائه وتهميش موقفه لحساب ثقافة دعائيّة إيديولوجيّة فاقعة.
كما يجب ألّا ننسى المدخلَ الإعلاميّ. تحدّث الأستاذ عارف عن المدرسة ودورها في تنمية الوعي بالحقوق والحرّيّات، وهو مدخلٌ أساس. لكنْ إذا كنا نحن مَن نقصد المدرسةَ وندقّ أبوابَها لنلجَها، فإنّ الإعلام هو مَن يقتحم بيوتَنا. ولهذا، فإنّ للإعلام دورًا أساسيًّا في التنشئة الاجتماعيّة المرتبطة بالقيم، ومنها الحرّيّات الفرديّة.
أمّا المدخل الأخير فهو الأحزاب وفعّاليّاتُ المجتمع المدنيّ، التي من شأنها ترسيخُ مبدأ الحرّيّات الفرديّة، ونقاشُه بعيدًا عن التقليد الموسميّ، لتجعل منه حوارًا مجتمعيًّا، بل واجهةً صراعيّةً تؤسَّس على برامجَ وأهدافٍ، وتوفَّر لها كلُّ آليّات الحضور والامتداد، سواءٌ على مستوى التشريع أو على مستوى التنفيذ.
الدار البيضاء
المشاركون
جعفر سعيد: أستاذ فلسفة وباحث في قضايا المجتمع والدين.
جمال بندحمان: أستاذ في جامعة الحسن الثاني – الدار البيضاء، والكاتب العامّ للمركز المغربيّ لحوار الثقافات وتنمية القيم. له العديد من المؤلَّفات، من بينها: الأنساق الذهنيّة في الخطاب الشعريّ - التشعّب والانسجام.
عبد الغني عارف: روائيّ، وكاتب متخصّص في المجال التربويّ، وفاعل جمعويّ، ورئيس مركز "أجيال 21."
عزّ الدين العلام: أستاذ القانون بجامعة الحسن الثاني بالدار الببيضاء، وكاتب ومهتمّ بالشأن الحقوقيّ والقانونيّ. نشر العديد من الدراسات، منها: الإيديولوجيا الباردة، و الفكر السياسيّ السلطانيّ: الآداب السلطانيّة.
عبد الحقّ لبيض: مراسل مجلة الآداب في المغرب.
أستاذ باحث، مراسِل مجلّة الآداب في المغرب.
حوار مع البروفيسور عبد القادر الفاسي الفهري: الفصحى، اللهجات، الفرنسيّة، الأمازيغيّة