"ما بدي إرجع عالبلد موت من جوعي وبردي، أو روح فرق عملة بشي قذيفة هاون." هكذا يقول جابر، الشخصيّة السوريّة التي تعيش حاليًّا في لبنان، في المسلسل السوريّ، غدًا نلتقي. يُجيبه أخوه: "أو بشي برميل حسب القرْنة إلّي بدّك ترجع عَلِيّا"!
هذه عيّنة بسيطة من نقاشات سياسيّة ما تزال تجد طريقَها إلى معظم المسلسلات السوريّة. وتصبّ كلُّ أحداث سوريا منذ العام 2011 في مصطلح "الحزن السوريّ،" الذي يحمل معاني الخسارة والغضب والحنين والأسى، ولكنّه يتعدّاها إلى معانٍ أخرى، ويُترجَم في إبداعٍ جديدٍ بدأ يظهر في الدراما التلفزيونيّة التي تحصد نسبةَ مشاهدةٍ عالية. ولهذا الحزن تأثيرٌ واضح في العمليّة الّتي تمرّ فيها المسلسلاتُ ــــ من مرحلة الكتابة، حتّى عرضِها على الشاشات. هنا، سأحاول توضيح هذا التأثير من خلال تحليل ثلاثة مسلسلات سوريّة أُنتجتْ بعد العام 2011: قلم حمرة (2013)، وبانتظار الياسمين (2015)، وغدًا نلتقي (2015).
كانت الدراما السورية تاريخيًّا ــــ والمسرحُ تحديدًا ــــ أداةً للتعبير عن الآراء السياسيّة المعارضة. ولكنّها خضعتْ لرقابة مشدّدة خلال فترة حكم الرئيس حافظ الأسد، واستمرّت في فترة حكم ابنه بعده. ومع ذلك استطاعت بعضُ المسلسلات أن تَعرض مشاكلَ اجتماعيّةً حسّاسةً في الداخل السوريّ، كالدين والجنس وقضيّة المرأة، من دون انتقاد النظام السياسيّ. بعد أحداث العام 2011 أصبح دورُ الدراما في سوريا (ولا أقصد باب الحارة وأخواتها) يتمثّل في تصوير الأحداث وانعكاساتها على حياة السوريين داخل سوريا وخارجها؛ بالإضافة إلى عرض نقاشات سياسيّة كانت ممنوعةً سابقًا، كالعلاقة مع النظام وحالة الأقليّات.
ولكنّ الإبداع السوريّ انقسم، بدوره، تبعًا للآراء السياسيّة المختلفة. وهذا الانقسام ظاهرٌ في معظم المسلسلات، مهما جهدتْ في حصر نفسها في عرض "الجانب الإنسانيّ." وهكذا يمكن تصنيفُ بعض المسلسلات "تابعةً" للنظام (مثل بانتظار الياسمين)، أو "معارضةً" (مثل قلم حمرة)، فيما اختار غيرُها (مثل مسلسل غدًا نلتقي) أن يناقش الآراءَ المختلفة مع "انحيازِ" بسيطٍ إلى بعضها.
أَجبر الخطرُ الإبداعَ السوريَّ على مغادرة البلاد، وأصبح يظهرُ للعالم على شكل دراما من مدنٍ عربيّةٍ وأوروبيّةٍ عديدة، مع بقاء دبي وبيروت المدينتين الأكثر احتضانًا له: الأولى للإنتاج، والثانية للتصوير.
الحزن من وجهة النظام
يقول سمير حسين، مخرجُ مسلسل بانتظار الياسمين، إنّه تعاون مع شركة إنتاج إمارتيّة لأنّ الشاشات العربيّة لم تعد تعرض مسلسلاتٍ ذاتَ إنتاجٍ سوريٍّ بحت. المسلسل من كتابة أسامة كوكش، ومن بطولة سلاف فواخرجي ونجومٍ آخرين، وحصل على ميداليّة ذهبيّة عن فئة "أفضل مسلسل دراميّ" في جائزة إيمي العالميّة، ولكنْ كمسلسل إماراتيّ، مع أنّ فريق العمل سوريّ بمعظمه! وهو يَعرض قضيّةَ النازحين داخل سوريا، الذين هربوا من تنظيم "داعش" وغيره، من دون أن يبتعدوا عن مخاطر الانفجارات والموت. وعلى الرغم من أنّه يعرض الجانبَ الإنسانيَّ للأحداث، فإنّ مواقفَ بعض الممثّلين والممثّلات (سلاف فواخرجي، مثلًا، تعلن دومًا دعمَها لبشّار الأسد)، والقناتيْن السوريتيْن اللتين عرضتاه ("تلاقي" و"سوريا دراما" التابعتان للحكومة السوريّة ومناصريها)، تَكشف دعمَ المسلسل الضمنيَّ للنظام. والأهمّ أنّ مضمون المسلسل يساعد في تصنيفه ضمن فئة "الدراما الداعمة للنظام": فمصطلح "أزمة" هو الأكثر استخدامًا فيه لوصف ما يحدث في سوريا؛ ويَبرز الجيشُ السوريُّ منقذًا للبلاد من الإرهابيين؛ وتؤكّد لمى (سلاف فواخرجي) أنّ الجيش السوريّ لن يقف ضدّها إن امتعضتْ من شيء؛ أمّا "أبو سليم" (غسّان مسعود) فيُسجن لوجوده قرب مكان انفجار، ولكنّه يشكر الجيشَ بعد إطلاق سراحه لأنّه قام بواجبه من دون أيّة "مضايقة."
كما أنّ المسلسل يقدِّم الأقليّةَ الكرديّةَ السورية، التي اضطُهدتْ لسنين عديدةٍ، من خلال شخصيّةٍ واحدةٍ فقط، هي شابّ كرديّ، يقتصر دورُه على الغناء والعزف على آلة البزق الكرديّة، ويتكلّم دقيقتين فقط في مسلسلٍ تتعدّى حلقاتُه الثّلاثين، ويصرُّ فيهما على انتمائه السوريّ قبل الكرديّ.
رغم ذلك، كان المسلسل مميَّزًا من حيث عرضُ الوجع السوريّ، ما رفع من نسبة مشاهدته وترشيحه كأفضل مسلسل عربيّ إلى جائزة عالميّة؛ وهو حدثٌ لم يحصل منذ حوالى عشر سنوات.
الحزن من وجهة المعارضة
أمّا مسلسل قلم حمرة فأنتجتْه في العام 2013 شركةُ إيبلا، ومقرُّها الأساسُ في الكويت، مع فروع لها في بلدان عربيّة، ومن ضمنها سوريا. صُوّرتْ مشاهدُ المسلسل (وهو من إخراج حاتم علي، وكتابة يَمّ مشهدي) في لبنان (جبيل تحديدًا)، وعُرض على قناة "السومريّة" العراقيّة في السنة الأولى، بعد أن رَفضتْ قناة "أم بي سي" عرضَه لأسبابٍ غير واضحة، لتعودَ وتعرضَه في العام الثاني بعد النجاح الكبير الذي حقّقه على "السومريّة."
يعرض المسلسل حياةَ كاتبة السيناريو "ورد" (الممثّلة سُلافة معمار) التي اعتقلتها المخابراتُ السوريّةُ في إحدى مظاهرات العام 2013 السلميّة وهي "تنادي بالحرّيّة." وهذه الحادثة حصلتْ مع كاتبة المسلسل نفسها (يَم مشهديّ)، وهذا كافٍ لتبرير موقف المسلسل من الأحداث في سوريا. ويقول المخرج حاتم علي، في مقابلة مع جريدة الحياة، إنّ على المسلسلات السوريّة الحاليّة ألّا تهربَ من الواقع لأنّ نكرانَه يُظهر انتماءً سياسيًّا (وهذا ما اتّهم به مسلسل بانتظار الياسمين، علمًا أنّ مجاراة الواقع نفسها يمكن أن تُظهر موقفًا سياسيًّا هي أيضًا).
يفتح قلم حمرة نقاشاتٍ سياسيّةً يَنتقد من خلالها نظامَ البعث في سوريا، ويعالج مواضيعَ حسّاسةً كالأقليّة الكرديّة والمثليّة والدين. يَعتقل ضابطُ المخابرات "ورد" في سجن صغير، ثم يضربها ويغتصبها، ويجمعها بسجينةٍ أخرى تفتحُ معها نقاشاتٍ كثيرةً حول الدين والعلمانيّة والحجاب والثورة السوريّة والاختلاف بين المطالبين بالحرّيّة. كما عرض المسلسل قضيّة الكرد بطريقة مختلفة عن بانتظار الياسمين، إذ أظهر تعرّضَهم للتهميش، وعيشَ بعضِهم من دون هوّية، واعتقالَهم في عيد النوروز.
على أنّ المسلسل يعرض بعضَ المشاهد السلبيّة عن تنظيم "داعش" أيضًا. ويَعرض شخصيّات تابعة للنظام كذلك، مثل والدة "ورد" التي رفضت الرحيلَ إلى لبنان كي لا تُسمّى "لاجئة" فتعامَلَ بطريقةٍ سيّئة. ويَختصر المشهدُ الأخير حالةَ معظم السوريين الذين يهربون إلى لبنان خوفًا من النظام و"داعش" على حدّ سواء.
حزن البيْن بيْن
أمّا مسلسل غدًا نلتقي فقد أخذ الحالة السوريّة إلى مستوًى إبداعيّ آخر. أَنتجتْ هذا المسلسلَ (وهو من كتابة إيّاد أبو الشامات ورامي حنّا، وإخراج الأخير) شركة "كلاكيت" السوريّة سنة 2015، وصُوّر الجزءُ الأكبرُ منه في بيروت، وعُرض على قناتيْ "أل بي سي" اللبنانيّة و"أبو ظبي دراما." المسلسل يَعرض حالة اللاجئين السوريّين، ويقارنها بحالة الفلسطينيّين في لبنان. كما يناقش مختلف وجهات النظر في سوريا.
تقع وردة (كاريس بشّار)، التي تغسل الموتى، في حبّ محمود، الشاعرِ الداعمِ للثورة، الذي يعيش مع أخيه جابر في مدرسةٍ أصبحتْ ملجأً للسوريين والفلسطينيّين من مشاربَ سياسيّةٍ وطرقِ حياةٍ مختلفة. جابر يدافع عن النظام، مؤمنًا بأنّ المظاهرات لم تكن سلميّةً، وبأنّ المتظاهرين "حاملين السكاكين ورا ضهورن" منذ البداية؛ ولذلك لم يتوانَ عن إعطاء المخابرات السوريّة أسماءَ زوجة أخيه ورفاقها المتظاهرين.
يعرض المسلسل معاناةَ اللاجئين السوريين عند تقديمهم طلباتِ تأشيرات للسفر، وأثناء بحثهم عن رعاية صحيّة، وغير ذلك من الأمور البسيطة والمعقّدة. وقد أثبت أنّه من أهمّ مسلسلات الدراما السوريّة التلفزيونيّة المعروضة حتّى الآن، من خلال عكسه الفعليّ لمصطلح "الحزن السّوريّ." سياسيًّا، لم يقف المسلسل مع طرف سياسيّ واحد، ولكنّ معظمَ الحوارات التي كانت تدور بين الأخوين جابر ومحمود كانت تنتهي بصمت جابر الداعم للنظام، ما يعطي الانطباعَ بأنّ المسلسل يميل إلى المعارضة.
أمّا الحلقة الأخيرة، فتُظهر مجازفةَ بعض الشخصيّات بالسفر إلى أوروبا عبر بواخر صغيرة من شمال لبنان هربًا من ثنائيّة المعاناة: في سوريا، وفي دول اللجوء العنصريّة (فالمسلسل يُظهر عنصريّةَ بعض اللبنانيّين تجاه السوريّين والفلسطينيين في مشاهد عديدة).
"الحزن السوريّ" والمزاج الإعلاميّ العربيّ
لم يكن الحزنُ والإبداع وحدهما ما رافق السوريّين في رحلتهم خارج سورية، بل رافقتهم في أوقاتٍ كثيرةٍ أيضًا الرقابةُ المشدّدةُ الّتي تعرّضوا لها قبل العام 2011. فقد حُذفتْ مشاهدُ كثيرة من مسلسلات سوريّة عديدة. مثلًا: حَذفتْ "أبو ظبي دراما" و"أل بي سي" بعض المشاهد من غدًا نلتقي لأنّها تُظهر عنصريّة بعض اللبنانيّين تجاه السوريين. وحَذفتْ "أبو ظبي" كلمة "مغرضة" التي استخدمها جابر لوصف الإذاعات السوريّة المعارِضة. وحذف الأمنُ العامُّ اللبنانيّ مشهدًا يطلب فيه جابر أموالَه من سائق الفان فيجيبه الأخير: "شفتو ليش صار فيكن هيك." أمّا محطّة "أم تي في" اللبنانيّة فقد خصّصت تقريرًا إخباريًّا عن هذا المسلسل متهمّةً إيّاه بعرض صور خاطئة عن اللبنانيّين؛ كما أنّها استنكرتْ أن تكره بطلةُ المسلسل الفنّانة فيروز، معتبرةً هذا الأمرَ إهانةً للبنان!
ستعكسُ البيوتُ السوريّةُ المدمَّرة، والسوريون الذين ماتوا ويُتّموا وشُرِّدوا، أثرًا يصعب محوُه. وسيُترجم هذا، حتمًا، في "حزن سوريّ" سيستمرّ سنواتٍ عديدةً. وسيجد الحزنُ مساحتَه في الفنّ، وفي الدراما خصوصًا. وستكون هذه المساحةُ، بدورها، مقسَّمةً بحسب الانتماءات السياسيّة. ولكنْ مهما اختلفت النتائجُ الإبداعيّة السوريّة، فإننا موقنون أنّ الحزن السوريّ سيتابع إنجابَ أعماله العظيمة من خارج البلاد، إلى أن تعود سوريا مكانًا آمنًا لجميع السوريين.
بيروت